رأينا في تاريخ ابن عساكر خطبة نفيسة لعمرو بن العاص من أحسن أقواله ، يوصي بها الناس بالقصد ، وعدم السرف ، وحسن معاملة القبط ، وصرف العناية إلى خيل الجند بالقيام على تربيتها وسمنها ، وغير ذلك من الوصايا الجميلة النافعة رواها ابن عساكر عن بُحَير بن داخر المعافري قال : ركبت أنا ووالدي إلى صلاة الجمعة ، وذلك آخر الشتاء، إذ أقبل رجال بأيديهم السياط يؤخرون الناس فذعرت ، فقلت : يا أبت من هؤلاء ؟ قال : يا بني هؤلاء الشُّرَط . وأقام المؤذن الصلاة فقام عمرو بن العاص على المنبر فرأيت رجلاً قصير القامة أدعج أبلج[1] عليه ثياب موشية ( أو موشاة ) كأن بها العقيان[2] تتألق عليه وعمامة وجبة , فحمد الله وأثنى عليه حمدًا موجزًا ، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ، ووعظ الناس فأمرهم ، ونهاهم فسمعته يحض على الزكاة وصلة الرحم وينهى عن الفضول وكثرة العيال ، وقال في ذلك : يا معشر الناس إياي وخلالاً أربعًا فإنها تدعو إلى النَّصب بعد الراحة ، وإلى الضيق بعد السعة وإلى الذلة بعد العز ؛ إياي وكثرة العيال ، وانخفاض الحال وتضييع المال ، والقيل بعد القال في غير دَرَك ولا نوال ، ثم إنه لا بد من فراغ يؤول المرء إليه في توديع جسمه والتدبير لشأنه ، وتخليته بين نفسه وبين شهواتها ، فمن صار إلى ذلك ؛ فليأخذ بالقصد[3] والنصيب الأقل ، ولا يضيع المرء في فراغه نصيب نفسه من العلم ، فيكون من الخير عاطلاً ، وعن حلال الله وحرامه عادلاً. يا معشر الناس قد تدلت الجوزاء وركبت الشعرى ، وأقلعت[4] السماء وارتفع الوفاء وطاب المرعى ، ووضعت الحوامل ، ودرجت السمائم[5] وعلى الراعي حسن النظر. فحي بكم على بركة الله على ريفكم ، فتناولوا من خيره ولبنه ومرافقه وصيده , وأربعوا بخيلكم وأسمنوها وصونوها وأكرموها فإنها جنتكم[6] من عدوكم وبها تنالون مغانمكم ، وتحملون أثقالكم ، واستوصوا بمن جاورتم من القبط خيرًا . وإياي والمومسات [7] المفسدات ؛ فإنهن يفسدن الدين ، ويقصرن الهمم ، حدثني عمر أمير المؤمنين ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الله سيفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيرًا فإن لكم منهم صهرًا وذمة ) فكفوا أيديكم ، وفروجكم وغضوا أبصاركم فلأعلمن ما أتاني رجل قد أسمن جسمه وأهزل فرسه[8] من غير علة حططته من فريضته قدر ذلك , واعلموا أنكم في رباط الى يوم القيامة ؛ لكثرة الأعداء حولكم ، ولإشراف قلوبهم إليكم وإلى داركم ، معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة التامة . حدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندًا كثيفًَا فذلك الجند خير أجناد الأرض ) فقال له أبو بكر : ولِمَ ذاك يا رسول الله ؟ قال : ( لأنهم في رباط إلى يوم القيامة ) . فاحمدوا ربكم معشر الناس على ما أولاكم وأقيموا في ريفكم ما بدا لكم . فإذا يبس العود ، وسحق العمود ، وكثر الذباب ، وحمض اللبن ، وصوَّح [9] البقل ، وانقطع الورد ، فحي على فسطاطكم على بركة الله , ولا يقدمن أحد منكم على عياله إلا ومعه تحفة لعياله على ما أطلق من سعته أو عسرته ) . (منقولة من الجزء الثالث من كتاب أشهر مشاهير الإسلام في مجلة المنار ، ويقول رشيد رضا تعليقا على الخطبة ) هكذا كانوا يخطبون الناس يعلمونهم ما به صلاح دينهم ودنياهم ، ويرشدونهم إلى حسن العمل في المعايش ، وحسن المعاملة مع الموافق والمخالف ، فليعتبر بهذا خطباء التقليد في هذا العصر إن كانوا يفقهون . و( السمائم ) نوع من الطير : و ( السماسم ) النمل و ( الشعرى ) الكوكب الذي يطلع في الجوزاء ، وذلك عند إقبال الحر فهو يقول : ذهب الشتاء وجاء وقت العمل والحرث . والوصية من النبي وعمر وبالمرابطة في مصر تدل على أن هذه البلاد لا تحفظ من اعتداء الأجانب إلا بالقوة الجندية الدائمة ، فإنها مقصودة من الفاتحين لخيرها وضعف أهلها ، ولكن المسلمين المتأخرين والمتوسطين لم يفهموا ما يؤثر عن الأولين . _________ (1) الأدعج : أسود العينيين ، والأبلج : المضيء المشرق . (2) العقيان : الذهب الخالص . (3) أي : بالاعتدال . (4) وأقلعت السماء أي : كفت وهو كناية عن انقطاع المطر . (5) كذا في الأصل ولعلها : السوائم وهي الماشية . (6) الجنة هي : الوقاية . (7) العواهر . (8) جواب قسم محذوف أكد بالنون الثقيلة ، وما : مصدرية ؛ أي : فوالله لأعلمن إتيان رجل موصوف بما ذكر وفي طيه من الترهيب البليغ ما لا يخفى ، وقد بين بعد جزاء من فعل ذلك بقوله فمن أهزل فرسه إلخ . (9) صوح ؛ أي : يبس أعلاه .