لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    بحضور عقار.. رئيس مجلس السيادة يعتمد نتيجة امتحانات الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة للعام 2023م    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    احتجز معتقلين في حاويات.. تقرير أممي يدين "انتهاكات مروعة" للجيش السوداني    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحركة الإسلامية في السودان: البقاء وسنن التدافع

‎ تهدف هذه الورقة إلى محاولة تلمّس بعض الحقائق في مسارات العمل الإسلامي في السودان، عبر النظر في إحدى واجهاته الهامة والمؤثرة، وهي الحركة الإسلامية السودانية الحديثة وهل أوجدت استقراراً معقولاً، وثباتاً في منظومتها القيمية التي طرحتها من خلال سلوك أفرادها وممارسات أتباعها المؤيدين لأفكارها؟
وهل أفلحت في دفعها وحراكها الداخلي أن تحقق تعايشاً طبيعياً وفقاً لعقيدتها وإيمانها؟ وهل نزع أنصارها إلى بسط المعاني الأساسية لحركة النهضة الإسلامية والبعث الرسالي؟ وما هي النظرة الداخلية الآن القائمة تجاهها؟ وموقف الأجيال المختلفة في العمل الإسلامي تجاه ما يقومون به، وهل حقيقة هناك أجيال، متباينة في فهمها، مختلفة في وعيها تجاه قضايا الدعوة والإصلاح والتغيير؟
إن هذه الورقة ليست نقداً تصاحبه قواعد وضوابط محددة، بقدر ما هو مؤشرات أولية، تسعى إلى إيجاد محاولات لفهم بعض إشكالات الحركة الإسلامية في الوجود والبقاء والتدافع وتحقيق الغايات‎.‎
مدخل: كيف يمكن أن نُعرّف الحركة الإسلامية؟
إن شعور المسلمين المزمن بالانحطاط والضعف وقلة الحيلة مع وجود تاريخ حافل وتراث عظيم صنع أمة قائدة، وحضارة ضخمة في سجل المسلمين، كان ذلك هو المحرك الأبرز لهمة الأمة إزاء عقيدتها، ولحرص بعض أبنائها على استعادة هوية الأمة وتحديد خيارها الحضاري‎ .‎
لقد كانت صدمة المسلمين عند زوال دولة الخلافة في تركيا في النصف الأول من مطلع العام الماضي، سبباً إضافياً في استدعاء نهضة الشعوب الإسلامية وبعث روح الإسلام من جديد، ولم تكن خلافة بن عثمان في تركيا مثالاً حقيقياً أو تجسيداً صحيحاً لمعنى الإسلام وقيمه، إلا أنها كانت رمزاً لوحدة المسلمين والتفاهم حول قائد واحد في الباب العالي في الاستدانة، وكانت دونمات الأرض العريضة في أنحاء القطر الإسلامي ليست بينها حدود مصطنعة أو نقاط تفتيش تفصل بين الجسد الإسلامي الذي امتد حتى بحر الظلمات غرباً وحتى أنحاء أوروبا الجنوبية وشمل البلقان وغيرها ووصل إلى السودان في عمقه الجنوبي، إن هذه الإمبراطورية المترامية الإطراف على الرغم من المشكلات التي كانت تعتريها، لكنها كانت تعطي فكرة الوطن المتحد، وقد أفاد المسلمون عبر تاريخ الدولة الإسلامية من هذه الرؤية فتنقلت أجناس عديدة وقوميات مختلفة في هذا القطر، فوفد إلى مصر والشام أخلاط من المغاربة والأندلسيين والمصريين، وجاء إلى مصر والسودان شعوب إسلامية شتى من العراق والشام والمغرب والحجاز واليمن، وعاش في الحجاز مجموعات مختلفة من المسلمين دفعتهم أشواقهم الروحية إلى المكوث والمجاورة والبقاء في الأرض الطاهرة، وكل ذلك حرّك مدارس العلم وازدهرت الأفكار وذابت القوميات والعصبيات الجنسية المقيتة، ولكن ذلك جرى في زمن تعثر الأمة وتراجعها نحو الأزمة، وكان الاستعمار الحديث عاملاً حاسماً في تمكين ضياع الأمة وفقدانها لحضارتها. أما البعث الإسلامي فلقد ولد في عهد التغريب الذي صنعه المستعمر الأجنبي، ولم يكن هذا البعث إراداته هي طرد المحتلين وإبعاد جنود الاستعمار عن الأرض فحسب، بل كانت غاياته هي إقامة نهضة روحية شاملة تتضمن الأخلاق والمعرفة والشرائع والقوانين والمجتمع وأنماط الحياة والمعاملات وغيرها فيما يمكن تسميته بالانقلاب، ولفظة انقلاب هذه هي من أنسب الكلمات اشتمالاً على معنى التطوّر الخطير في المسار الحياتي القريب والبعيد، وبعض الانقلابيين السياسيين يجد حرجاً في استخدام هذه اللفظة لتوهّمه أن بها معنى تآمرياً، وليس هذا بصحيح، ولكن لغة الجرائد هي التي أشاعت هذا البعد وأعطت الظلال في معنى الكلمة، وبعضهم ربما قد تأثر بإطلاق كلمة ( ثورة ) بدلاً عن الانقلاب وكان أول من أدخله في قاموس الحداثة السياسية في العالم العربي رواد ثورة يونيو في مصر‎.‎
فالبعث الإسلامي هو تنزلات حركة المسلمين وجهدهم ومقاصد هذا البعث الأساسية، عودة الوجود الإسلامي الشبيه بسلف الأمة والمؤمن برسالة القرآن والمسجد الذي يعلى من التراث الإسلامي في مقابل الازدراء الذي عمد إليه الاستعمار في محاولاته لإحلال ثقافة التغريب‎.‎
وصاحب مفهوم البعث الإسلامي وإحياء قيم الإسلام، مفهوم تجديد الدين، وهو مستند إلى حديث الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) وهو من مرويات أبي داؤود، ومعنى التجديد معنى مركّب يتضمن الإحياء ونفض الغبار والعودة إلى ما هجره الناس، ويعني كذلك إعادة التأسيس والبناء وليس الإصلاح والترميم وتقويم المعوج فحسب، كما أنه يرمز إلى التطوير والتحديث وهو الإشكال الأهم في مسيرة الحركة الإسلامية أن للدعوة الإسلامية والتحرك بها أساليب وطرق كثيرة تتضمن الوعظ والإرشاد ونشر العلم والتربية على العبادة والذكر وإنشاء مؤسسات اجتماعية ومصطلح الحركة الإسلامية في إطار الدعوة الإسلامية يصف الشمول في استهداف إقامة المجتمع المسلم والدولة الإسلامية، وينطبق هذا الفهم بصورة عامة على بعض الاتجاهات الكبرى نحو الأخوان المسلمون الجماعة الإسلامية بباكستان وحركة الإمام الخميني في إيران، وما تبقى من اتجاهات إسلامية أما هو متصل بشكل أو آخر لأحد هذه الاتجاهات، أو أنه قاصر عمله على جزئية من جزيئات الإسلام والعمل الإسلامي (1).
الحركة الإسلامية والحداثة‎:‎
اعتبر كثيرون أن الحملة الفرنسية على مصر في سنة 1798 هي التي مهّدت للمسلمين التعرف على معالم التحديث، لأنها وصلتهم بأوروبا وعمرانها، ومناهجها المتطورة، وفيما يبدو أن هذا تفسير مستغرب محض، وإن كان يصوّر حالة الانحطاط التي عاشها المسلمون، وقد بلغت ذروتها وتجلّت في غلبة روح التخلّف وشيوع الانكباب على الحياة المتأخرة ، ويُقال أن المعرفة العلمية برمتها ضعفت، وفشت الأمية والجهل بين الناس، وغابت العربية الفصيحة وعلى الرغم من أن الأزهر كان يعمل على حفظ ما تبقّى من ازدهار العلوم الإسلامية والعربية، إلا أن تلك الفترة كانت تُعد أكثر الفترات إظلاماً في تاريخه، وشبهه بعض المؤرخين بأنه (بركة راكدة ) من التخلّف والجمود، فقد أصر الحكم العثماني بالاحتفاظ بالنظم السائدة دون تغيير، والمؤلفات التي صنّفت في نهاية القرن الثامن عشر من الأزهر اتسمت بالتزمّت وضيق الأفق، وكانت تدور في حلقة لا نهاية لها من المتون التي تدور حولها شروح، وتوقّف الاجتهاد في الفكر الإسلامي وساد الانغلاق (2).
وقد وصف الشيخ رشيد رضا الجامع الأزهر من صحته إلى مقاصره إلى أروقته إلى مغاطسه، بأنها أصبحت: ( مجامع وبؤرة أوساخ وبؤرة أمراض معدية ) فضلا عما لحق بأهله من الفساد الخلقي، كأكل السحت من الرشوة على الأحكام والفتاوى والمحاباة في امتحان الشهادة العالمية (3).
وغدت العامية حتى بين أهل العلم هي السائدة، وامتلأ الشعر العربي المنتج في تلك الفترة بالعبارات الركيكة والألفاظ السقيمة، أما علماء الدين فلقد انشغلوا بفكر ديني حشوه الخرافة والكرامات وتراجم الصالحين والأولياء، وقد رفضوا الحداثة رفضاً قطعياً إلى الدرجة التي دعتهم إلى إصدار فتوى بتحريم الطباعة، واعتبار المطبعة رمزاً من رموز الشيطان‎.‎
وأشاد بعض الذين كتبوا عن تلك الفترة من حياة الأمة بآثار الغزو الأجنبي، فالأوربيون في نظرهم كانوا مشاعل فكر وبناة حضارة، وكانت بأيديهم مفاتيح الحياة العصرية وفي صدورهم أسرار العلم الحديث، وهم الذين أشاعوا مفهوم الحرية السياسية والفكر الاجتماعي والحكم النيابي بصورهما الحديثة وقد كسروا عزلة العالم الإسلامي (4).
ومما يحمد للحضارة الغربية، أنها وجّهت المسلمين إلى النظر في تراثهم الأدبي والفكري وقد كان مدفوناً لا يعبأ به، وأسهمت حركة الاستشراق في تحريك العناية بالآداب الإسلامية والعربية المنتجة عبر العصور‎.‎
ارتبطت الحداثة في صورتها الإسلامية برموز على شاكلة الأفغاني (1839 1897)، ومحمد عبده رشيد رضا، وعبد الحميد بن باديس. ومالك بن نبي، والمودودي وحسن البنا وبالنظر إلى الجوانب التي اهتم الشيخ حسن البنا بالكتابة عنها نلحظ درجات العناية بالمشروع التحديثي والذي يأتي في إطار الإصلاح والإحياء، ويشمل ذلك التعليم والاجتماع والاقتصاد والسياسة والحكم والعلاقات الدولية، ونفد المدنية الغربية والمرأة وغيرها، والشيخ البنا بصورة أخرى لا يمثل المدرسة المتأثرة بالتنوير الغربي وربما كان أقرب إلى التيار المعهدي التقليدي وهذا لا يقلل من أفكاره ، أو هو التيار العلمي الديني الرصين والمحافظ، ولكنه كان مع ذلك إصلاحياً من الدرجة الأولى، ولم تعتمد مدرسته في الإصلاح على التعقيد أو اللجؤ إلى كليات ومجملات، وإنما اتجه إلى تقديم حلول كاملة مبسطة تمثل روح الإسلام وطبيعته، وعلى الرغم من أن رسائله ناقشت قضايا بعينها، فهناك رسالة إلى الشباب، ورسالة في الاقتصاد وأخرى في الورد اليومي للمسلم من الأدعية والمحفوظات الإسلامية من القرآن والسنة وغير ذلك من المفاهيم العامة، تمثل بدائل أولوية لمشكلات المجتمع المسلم، وقد ترك هذا أثراً بليغاً لدى المتأثرين بفكر حسن البنا، لكن ذلك في الواقع لم يناقش معضلة الحداثة في التصور الإسلامي الحديث نادى حسن البنا بأن الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً، فهو دولة ووطن، وهو خلق وقوة، وهو ثقافة وقانون، وهو مادة وثروة، وهو جهاد ودعوة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة والقرآن الكريم والسنة المطهرة هما مرجع الدولة الإسلامية(5) وتحفّظ حسن البنا في إطلاق أمر الاجتهاد، وأمر أصحابه ممن لم يبلغ مرحلة النظر أن يتبع إماماً من أئمة الدين(6) ولكن مع ذلك كان البنا وسطياً في دعوته لفهم الدين فنبذ التعصُّب والبدع والعمل بالهوى، وقرر محبة الصالحين وأولياء الله، كما نهى عن تكفير مسلم أقرَّ بالشهادتين، وعمل بمقتضاها، وأدى الفرائض برأي أو معصية إلا أن أقر بكلمة الكفر أو أنكر معلوماً من الدين بالضرورة أو كذب صريح القرآن، أو عمل عملاً لا يحتمل تأويلاً غير الكفر (7).
أما الحركة الإسلامية السودانية على الرغم من أنها لاحظت أن الانحدار الذي أصاب المجتمع السوداني هو انحدار عقيدة وشريعة وحضارة، فالتراجع العقائدي تجلّى في شيوع القيم الإشراكية (من الشرك) في الممارسات العقائدية من حلف بغير واستعانة بسكان الضرائح وإيمان بالخرافات، وهذا الجانب من أدب الثقافة الصوفية يسود حتى بين المتعلمين الذين حين تعييهم مداواة مرض أو شفاء حالة يلجأون للطب الروحي والمعالجة بزيارة المقامات والأضرحة (8).
لم تلتفت الحركة الإسلامية السودانية إلى هذا الجانب في السلوك المجتمعي الحياتي، وإن كان قد وجدت تيارات داخلها تمحورت أفكارها حول إيجاد نسق معرفي سلفي، كان من رواده في جامعة الخرطوم جعفر شيخ إدريس، واعتبر الأمين الحاج محمد أحمد في مؤلفه عن الحركة الإسلامية أن جعفر ميرغني كذلك منذ أن كان طالباً في مدرسة الخرطوم الثانوية القديمة في الستينات من القرن الماضي، أحد رواد هذا التيار أو الاتجاه(9).
وقد برزت أسماء عديدة ربما حتى من خارج جامعة الخرطوم حاولت أن توجه الحركة اتجاهاً سلفياً في فكرها وسلوكها، من أوضح هذه الأسماء، محمود عبد الله برات (رحمه الله) والذي درس في الجامعة الأمريكية في بيروت، وكان مثأثراً بفكر الألباني خاصة دعوته لعزل المرأة عن المجتمع الكبير، وبفكر سيد قطب الذي دعا فيه إلى اعتبار المجتمع المسلم المعاصر مجتمعاً جاهلياً، وقد غذى هذا التصور من خلال ما كان يقدمه في حديث الثلاثاء في جامعة القاهرة فرع الخرطوم في محاضرات عنوانها ( منهج أهل السنة والجماعة)، ومنهم كذلك سليمان عثمان أبو نارو من أبناء محافظة طوكر، إلا أن محمود برات كان صاحب فكر، ولم يكن يجافي الحداثة في تصوراته لبناء الحركة على الرغم من المغالاة الواضحة الذي اتسمت به آراؤه، وكذلك يمكن اعتبار جعفر شيخ إدريس من رواد هذا الاتجاه‎
‎ في الواقع أن الحركة مثّلت روحاً وسطية، ولم تناقض الحداثة في مشروعها، بل تبنّت قيم الحداثة في أغلب أوقاتها فقد خرجت من رحم جامعة الخرطوم وعبرت عن تطلعات وأشواق وتصورات أبناء هذه المؤسسة الذين أزاحوا غشاوة الحياة العلمانية الصرفة، وموجة التغريب العاتية التي كانت قد أصابت المجتمع، ورفدت الحياة العامة بجيل يرفض ثقافة الانحلال والتفسخ ونبذ الدين التي كانت سائدة بين المتعلمين ولدى خريجي الجامعة، وربطت أجيالاً متعاقبة بقيم الصلاة والتعبد والتصالح مع شريعة الله، كما أنها لم ترفض وسائط التحديث ولا وسائله، بل عمدت إلى استخدام هذه الطرائق والسبل لتحقيق مشروعها، واستخدمت الأوعية والقوالب التي استخدمها الاستعمار لتجريد المجتمع من قيم الإسلام ولتعزيز ثقافة الاستعمار، لتستحيل إلى أدوات الصراع المستحدثة لطرح برنامجها، ومنابر العمل المعاصرة للدعوة والبناء وفقاً لتصوراتها، ولما خرجت للشارع لم تدخل في نزاع مع المؤسسة التقليدية، وقد أسعفها فكرها التحديثي إلى عقد ألوان من التصالحات والمهادنات مع الشيوخ والقادة التقليديين للمجتمع، ولم تسع إلى قلب موازين الحياة فيما يشبه استدعاء لنقمة وكراهية أبناء الأمة السودانية، وعبّرت عن روح الحداثة القائمة، وعبروا عن أفكارهم بطلاقة وتمكن وسافر بعض هؤلاء إلى معاهد الغرب وتلقوا تعليمهم هناك، ولم ينصرف هؤلاء إلى قضايا هامشية ليجعلوا منها قضايا كلية وينازعوا الناس حولها كما فعلت بعض التيارات الإسلامية التي حرمت الموسيقى والغناء وحاربت الصوفية وعدتهم من الشواذ والمارقين، وكثير من قادة هذا الجيل كان أقرب إلى شخصيات متمدنين بمدنيات غربية منهم إلى مجموعات تدعو إلى أفكار بيننا وبينها قرون‎.‎
وقدمت الحركة روحاً تصالحية من أنماط الحياة الحضرية إلى درجة عالية، وهو الأمر الذي نجده كان مفتقداً في المؤسستين السلفية والصوفية على التباعد بينهما في الفكر والمنهج والتصور، إلا أنهما عززا تأخر الطبيعة الإسلامية في اتجاه الحداثة‎.‎
وقد لحظنا انشغال الحركة عن الدخول في معترك عقدي مفاهيمي مع القوى التقليدية الكبرى قد أدى إلى انصراف تلقائي عن دراسة أفكار وتطور هذه التيارات، وربما كان هذا من المسالب التي تحسب على الحركة فقد ظلت هذه المجموعات وربما ستظل إلى وقت طويل تمثل المشرب الأساسي الذي يرفد مجموع الأمة السودانية بالثقافة التي تميزها، والسلوك والعمل اللذين يحددان مسارات هذه الأمة‎.‎
‎ كما ذكرنا فأنه نتيجة للثقافة الوسيطة وروح التغيير المعقولة التي اشتملت السواد الأعظم من أبناء الحركة الإسلامية، لم تكن المعركة لدى هؤلاء انقلاباً كبيراً على كل قيم ومؤسسات المجتمع السوداني، ونتيجة لظهور الحركة في أوساط المتعلمين المتأثرين بثقافة الانجلوساكسون إلى حد ما لم يقد الحركة إلى نزاع حول مفاهيم وقيم الحداثة كما لم يخرج الحركة من دائرة التحديث‎.‎
ووفقاً لمبدأ ( سوسيولوجيا الذات) ومن خلال منظور المدرسة الفرنسية الذي يغطي الثنائية المألوفة التي تقسم المثقفين إلى تقليديين وعصريين، فأنه يمكن اعتبار الكل الأعظم من مؤسسي الحركة الإسلامية السودانية ضمن النخبة العصرية الرائدة المجددة، وقد مثلت عبر العقود المتأخرة والمتقدمة في تاريخه الحديث الشريحة الأبرز من الانتلجنسيا السودانية‎.‎
هوامش:
1. راشد الغنوشي، محاور إسلامية، تقديم محمد الهاشمي الحامدي، بيت المعرفة 1989، ص34‎.‎
2. عبد العظيم رمضان، الفكر الثوري في مصر قبل ثورة 23 يوليو مهرجان القراءة للجميع 2004، ص49‎.‎
3. نفسه، ص50‎.‎
4. محمد الخير عبد القادر، نشأة الحركة الإسلامية الحديثة في السودان 1946، 1956، الخرطوم الدار السودانية للكتب 1999، صص141، 142‎.‎
5. حسن البنا، التعاليم، القاهرة، دار التوزيع والنشر الإسلامية (د.ت)، ص ص 7، 8‎.‎
6. نفسه، ص9‎.‎
7. نفسه، ص12‎.‎
8. حسن مكي، الحركة الإسلامية في السودان 1969- 1985، تاريخها وخطابها السياسي، الخرطوم الدار السودانية للكتب، ط ثانية، 1999، ص193‎.‎
9. الأمين الحاج محمد أحمد، الحركة الإسلامية في السودان 1944- 1989 الإيجابيات والسلبيات، ط أولى، مركز الصف الإلكتروني 1994، ص 38، 39‎.‎


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.