سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    عقار: بعض العاملين مع الوزراء في بورتسودان اشتروا شقق في القاهرة وتركيا    images (21)    عقوبة في نواكشوط… وصفعات في الداخل!    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    سلسلة تقارير .. جامعة ابن سينا .. حينما يتحول التعليم إلى سلعة للسمسرة    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    احتجز معتقلين في حاويات.. تقرير أممي يدين "انتهاكات مروعة" للجيش السوداني    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حركة الحداثة وبدايات تجلياتها .. في فكر الوطنيين السودانيين «1»
نشر في الصحافة يوم 08 - 05 - 2012

بانقضاء عهد الاستعمار البريطاني ونيل البلاد الاستقلال في عام 1956م، وجد السودان نفسه يقف على العتبات الأولى في عملية تحديث أوجه الحياة في البلاد، وذلك جراء ادخال العهد البريطاني العديد من عناصر الحداثة وصيغها وتطبيقاتها في مجالات الاقتصاد والادارة والتعليم ونظام الحكم والثقافة والتنظيم الاجتماعي ونحوها. وبرحيل الاستعمار تولى الوطنيون ادارة شؤون البلاد ومواصلة عملية التحديث التي بدأها العهد البريطاني وفق رؤى وفكر القوى الوطنية السودانية بكل قطاعاتها وفئاتها الحديثة والتقليدية، بعد أن كانت عملية التحديث تسير في إطار رؤى وأفكار العهد البريطاني الاستعماري الغريب عن البلاد وأهلها.
لقد كان قدر السودان أن تدخله صيغ الحداثة ويدخل عصر التاريخ الحديث في ظل حكم أجنبي، إذ لم يتركه الاستعمار وشأنه، سواء في ذلك التركي المصري أو البريطاني المصري، حتى تقوم قياداته الوطنية والتاريخية بإدخاله في هذا العصر، وتطبيق صيغ الحداثة في مجتمعه في إطار تجربته الذاتية وتطوره الطبيعي والتدريجي. ويرى بعض المثقفين السودانيين ان ادخال صيغ الحداثة في السودان لو تم على ايدي الوطنيين لاختلف الأمر مما هو عليه السودان اليوم، ولتجنبت البلاد الكثير من مزالق الحداثة التي ادخلها الاستعمار في اطار رؤاه وتجربته ومصالحه الاستعمارية، ولتجنت أيضاً الكثير من الاختلافات والصراعات التي مازالت تقعد بالبلاد عن تحقيق النهضة والامساك بزمام المبادرة الحضارية ووسائلها وأساليبها الحديثة في التقدم والتطور والارتقاء. ولهذا الرأي وجاهته وأسانيده التاريخية في تجارب عديد من الأمم المعاصرة والحديثة التي استطاع قادتها الوطنيون أن يدخلوا بها عصر الحداثة والتاريخ الحديث من أوسع أبوابه، وأصبحت دولهم اليوم من الدول الحديثة بكل ما يحمل مفهوم الحداثة من معانٍ ودلالات. ولعل من أبرز الأمثلة على هذه الدول اليابان التي كانت حتى منتصف القرن التاسع عشر من الدول التقليدية والمتخلفة إلى أن جاء عصر ما عرف بحكم الميجي في الحقبة 1868 1912. وتعني كلمة «ميجي» الحكم المستنير الذي ادخل في اليابان العلوم الحديثة والصناعة والتقانة والتعليم الحديث، وعني أيضاً بالبحث عن المعرفة والعلم في كل مكان وبصفة خاصة في دول الغرب، وهكذا انتقل «الميجي» باليابان من العصر القديم إلى العصر الحديث. وتم هذا الانتقال في إطار تجربة البلاد ومسار تطورها التاريخي والطبيعي ونظامها الاجتماعي وهويتها الثقافية، وهذه تجربة يمكن الرجوع إليها في مظانها الأصلية. وحدثت تجارب أخرى في عمليات التحديث في روسيا قبل وبعد الثورة البلشفية، وفي تركيا في عهد كمال أتاتورك، ولكل منهما منهجها الخاص بها.
وكل هذه التجارب، بما فيها التجربة الغربية صاحبة المبادرة الأصلية في الحداثة، كانت مطروحة أمام التجربة السودانية وقادتها الوطنيين التقليديين والمحدثين، ونخبها المتعلمة والمثقفة لدراستها والاستفادة منها في عملية تحديث بلادهم، سواء أكان ذلك منذ بداية احتكاكهم بحركة الحداثة التي أتت إليهم في عقر دارهم مع الاستعمار أو بعد رحيله. وعندما نقول دراستها ثم الاستفادة منها في عملية تحديث بلادهم، نعني بذلك أن تأتي الاستفادة في إطار ووفق واقع تجربة البلاد وتطورها الطبيعي والتدريجي، وليس القفز فوقها بنقل تجارب الأمم والدول الأخرى التي تم تطبيقها في واقع وتطور تاريخي مختلف.
وبما أن بداية ادخال صيغ الحداثة وتطبيقها في السودان لم تتم على أيدي القادة الوطنيين والتاريخيين للبلاد حتى تأتي متسقة مع الواقع المحلي والتطور الطبيعي والتدريجي، كما يرى جانب من المثقفين السودانيين، وإنما سارت في مسار آخر كما حدث في السياق التاريخي للبلاد، وتم إدخالها على أيدي حكام أجانب، فإنه إذا كان من العسير، بل والمستحيل، تغيير السياق التاريخي، فإنه ليس من العسير والمستحيل تعديل ما تم على أيدي الحكام الأجانب من إدخال لصيغ الحداثة وتطبيقاتها بعد الاستقلال حتى تسير متوائمة ومتوافقة مع الواقع المحلي وتجربة البلاد التاريخية وتطورها التدريجي والطبيعي، وهو الأمر الذي كان ينبغي على المتعلمين والمثقفين والسياسيين الوطنيين المحدثين، بعد احتكاكهم بحركة الحداثة في العالم، إعداد أنفسهم للاضطلاع به في إطار مشروعهم الوطني وحركتهم الوطنية للاستقلال، وما تنطوي عليه من رؤى وفكر وتصور. ونعني بالمتعلمين والمثقفين والسياسيين الوطنيين المحدثين تلك الفئة أو الطبقة التي أخذت في التكون منذ العقد الأول في القرن العشرين الماضي عقب ادخال العهد البريطاني للتعليم الحديث في السودان، وهو التعليم الذي قامت عليه ما يمكن تسميته ب «حركة الحداثة السودانية». وهذه الفئة المتعلمة والمثقفة التي نعنيها هنا هي الفئة الحديثة التي قادت الحركة الوطنية إبان عهد الاستعمار البريطاني وتصدت لعملية التغيير والتحديث في البلاد.
فإذن نحن عندما نتحدث عن حركة الحداثة السودانية وتجلياتها في فكر الوطنيين السودانيين، فإنما نعني البحث في رؤى وفكر هذه الفئة، أو الطبقة الجديدة، التي كانت من نتاج التعليم الحديث منذ بداية تكوينها في العقد الأول من القرن الماضي. والغرض من بحثنا هذا هو الوقوف على مدى قدرة هذه الفئات الحديثة على بلورة حركة حداثة «سودانية الطابع»، أي قدرتها على توطين حركة الحداثة في التربة والبيئة السودانية، وإلى أي مدى استطاعت منذ ميلادها أن تستوعب في رؤاها وفكرها أصول حركة الحداثة السائدة في العالم آنذاك والقائمة على الثقافة والفكر والعلم الحديثين، وأيضاً استيعاب واقعها المحلي والتطور التدريجي والطبيعي للتجربة السودانية في تاريخها الطويل الممتد من عصر الممالك النوبية القديمة التي نشأت في البلاد منذ العصر القديم قبل أكثر من ستة آلاف عام، وصولاً إلى عصر مملكة الفونج الإسلامية التي تعتبر آخر دولة وطنية قضى عليها الاستعمار التركي مع بداية التاريخ الحديث للسودان، وما أفرزته هذه المملكة من واقع ديمغرافي واثني وقبلي وثقافي واقتصادي واجتماعي وسياسي، وهل نفذت من خلال ذلك الاستيعاب الخارجي والمحلي إلى وضع مشروعها الوطني لعملية التحديث بعد الاستقلال وتعديل ما أدخله الاستعمار من صيغ للحداثة حتى تتواءم وتتسق مع مسار التجربة السودانية وواقعها وتطورها الطبيعي والتدريجي، وما مدى نجاحها أو فشلها في هذه المهمة. وحتى نتمكن من ذلك، أي الوقوف على قدرة الفئات الحديثة والتقليدية على بلورة مشروع حداثة سوداني، فإننا سنعمد إلى النظر في الرؤى والصيغ الفكرية والثقافية والعلمية لحركة المتعلمين والمثقفين والقادة السياسيين التي صاحبت مناهضة الاستعمار البريطاني منذ بداية العقد الأول في القرن الماضي وما تبعها من نهضة ثقافية وتطور في فكر ومعرفة هاتين الفئتين، باعتبار أن الحركة الفكرية والعلمية والثقافية وتطور المعرفة والوعي تمثل «الدينمو» الذي تتولد عنه تيارات الحداثة ويضيء لحركتها الطريق لإحداث التغيير والتقدم والتطور. وقبل أن ندخل في توضيح أهم ملامح الحركة الفكرية والثقافية والعلمية للمتعلمين والمثقفين والقادة السياسيين السودانيين، فإننا سنتعرض إلى أبرز المراحل التاريخية التي نتجت عنها الحركة الفكرية والعلمية للحداثة، والتي ابتدرتها دول غرب أوروبا بدءاً بالقرن الخامس عشر باعتبار أنها قد شكلت مرجعية لكل صيغ الحداثة التي جرى تطبيقها والعمل بها في دول العالم المختلفة، والانتقال بها من المجتمعات التقليدية إلى المجتمعات الحديثة. فصيغ الحداثة التي تم ابتدارها في غرب أوروبا لم تأتِ من فراغ، وإنما جاءت في سياق التطور الحضاري أو الدورة الحضارية التي مرت بها المجتمعات الإنسانية منذ أن أخذت في تكوين نظمها السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية في التاريخ القديم قبل حوالى ثمانية آلاف عام. وهذه الدورة الحضارية وكما سجلها المؤرخون كانت أول ما بدأت في الشرق، في مناطق حضارات مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين «العراق» وفارس والهند ومناطق أخرى متفرقة في آسيا، ثم انتقلت إلى اليونان والإمبراطورية الرومانية في الغرب في عصور ما قبل الميلاد، واستمرت حتى العصر المسيحي، وعادت الدورة الحضارية مرة أخرى إلى منطقة الشرق في عهد الخلافة العربية والإسلامية التي بلغت الحضارة فيها ذروتها في عهد العباسيين في العراق والأمويين في الأندلس، ومن الشرق انتقلت دورة الحضارة مرة ثانية إلى أوروبا الغربية في عصر النهضة، ومازالت دول الغرب ممسكة بها حتى يومنا هذا. فهذه الحضارات الكبرى التي نشأت في العالم قامت بينها اتصالات ونشأت بينها استفادات واقتباسات، بل ونقل للعناصر والمكونات الحضارية التي تم ابتداعها وابتكارها في كل منطقة حضارية على حدة، وذلك أمر أثبته مؤرخو الحضارة في دراساتهم للتطور الحضاري في العالم، ومن هؤلاء رالف لنتون في كتابه الذي أصدره في ثلاثة أجزاء بمسمى «شجرة الحضارة»، وجورج سارتون في كتابه «تاريخ العلم» في جزءين، وجيمس هنري برستد في كتبه التي أصدرها عن نشأة وتطور الحضارة المصرية والإنسانية، وارنولد توينبي في مؤلفاته «عن دراسة التاريخ».
وكانت هنالك أصول ابتدائية للفكر والعلم والثقافة، وابتكار واختراع للأدوات والصنائع، تكونت في الحضارات الشرقية القديمة، وقام بتسجيلها دارسو ومؤرخو الحضارات الشرقية القديمة، وهذه الأصول تمثل الجذور الأولى للفكر والعلم والثقافة والصنائع التي اقتبست منها الحضارتان اليونانية والرومانية اللتان انتقلت إليهما الدورة الحضارية من الشرق وطورت فيهما وأضافت إليهما، ثم جاءت الحضارة العربية والإسلامية من بعدهما وأضافت إليهما، ثم جاء العصر الحديث وقام الغرب بإحياء ابتكارات وابداعات الحضارتين اليونانية والرومانية بوصفهما تمثلان تراثه الثقافي والعلمي، واقتبس من إضافات وابتكارات وإبداعات الحضارة العربية والإسلامية واجتهادات وابتكارات وابداعات مفكريها وعلمائها وعلى رأسهم ابن رشد وابن خلدون والرازي وغيرهم من علماء ومفكري الحضارة العربية والإسلامية والذين ذاع صيتهم في عهد الخلافة العباسية والأموية في الاندلس. لقد قام علماء ومفكرو ومثقفو عصر النهضة الاوروبية بدراسة الموروث الثقافي والفكري والعلمي للحضارات السابقة جميعها وادخلوا فيه عناصر جديدة كانت من ابتكار وابداع علماء ومفكري ذلك العصر، وفي مقدمتها العلم والفكر الحديثين بعد أن تكشف لهم أن الموروث القديم لن يلبي وحده احتياجات وتطلعات عصرهم، ويخرج مجتمعاتهم من حالة الركود والبؤس والتردي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي التي أدخلتها فيه القرون الوسطى. وهكذا عكفوا على دراسة الطبيعة للكشف عما تستبطنه من قوانين وثروات، وطوروا في علوم الرياضيات والفلك وفي الفنون والآداب، وقاموا بالكثير من الاختراعات والاكتشافات. ومن حينها دخلت المجتمعات الانسانية في تاريخها الحديث.
وتلك الكشوفات الجديدة في مجالات العلوم والفكر والثقافة والنظم والقوانين وفي الطبيعة والقارات الجديدة التي لم تكن معروفة لديهم، قادت إلى الانفصال من القرون الوسطى والدخول في عصر جديد، وإلى بزوغ روح جديدة وأزمنة جديدة، وهو ما عبر عنه الفيلسوف الألماني هجيل بقوله: «ليس من الصعب أن ندرك أن زماننا هو زمن ميلاد وزمن انتقال إلى عصر جديد، لقد انفصلت الروح عما كان عليه العالم حتى تلك اللحظة... وانها على حافة اغراق كل هذا في الماضي» «1» ويقول هبرماس إن العصر الجديد الذي أخذ العالم ينتقل إليه يختلف عن العصور القديمة التي سبقته بانفتاحه على المستقبل المنطلق من الحاضر، وان هذا الانفتاح له استمراريته في كل لحظة من لحظات الحاضر كما أن له حركته وديناميكيته التي عبر عنها بصياغة مفاهيم ومصطلحات وقيم جديدة لم تكن متداولة من قبل مثل التقدم والتحرر والثورة والتطور والأزمة وروح العصر والعقلانية والانسانية وحرية التفكير المرتبطة بحق النقد والتعبير وحق العمل والموضوعية والمنهجية العلمية وحقوق الانسان، وغيرها من المفاهيم المرتبطة بالروح الجديدة المنفصلة عن القرون الوسطى.«2»
وهذه المفاهيم الفكرية والثقافية والاكتشافات العلمية الجديدة هي التي غدت مفاتيح للتغيير والتطور والتقدم، وهي التي أخذت في الانتشار في التاريخ الحديث، وعمل الفكر الإنساني والعلم على تطويرها وترسيخها في عقول ووجدان الشعوب للخروج من المجتمعات التقليدية والقديمة وعهود الاقطاع والعبودية وحكم الفرد ومن الاستبداد والقهر، إلى عصر الديمقراطية والحداثة. وهي ذات المفاهيم التي قادت إلى بلورة وتطور نظم اجتماعية وسياسية واقتصادية تقوم على العدل وحكم القانون والدستور والاخاء والمساواة والعقد الاجتماعي والديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني والدولة الوطنية والتوزيع العادل للثروة والسلطة، وغيرها من النظم التي ترسخت في فكر الانسان المعاصر في شتى أنحاء العالم عن طريق التعليم الحديث ووسائل الاتصال والإعلام الحديثة والعلوم الطبيعية والانسانية.
إن العهد البريطاني على الرغم من ادخاله للتعليم الحديث والثقافة ووسائل الإعلام والعلوم الطبيعية الحديثة إلى السودان، إلا أنه حدد سقوفات لحركة تطور الفكر والثقافة السودانية بحيث لا تتعدى مستوى معين يمكنه من إدارة البلاد، لأنه كان يعلم أن التوسع في هذه المساقات وفتح أبوابها على مصراعيها سوف ينشر الوعي والمعرفة، وبالتالي يسبب له الكثير من المشكلات ويهدد وجوده في البلاد، وقد أدرك المتعلمون السودانيون هذا القصور وسعوا لاكماله بالسفر إلى الخارج وإلى مصر بصفة خاصة، ولكن الادارة البريطانية عملت على اجهاض مساعيهم بكل الوسائل، ولم ينجح إلا نفر قليل منهم في السفر إلى هنالك، ولكن رغماً عن ذلك فإنهم استطاعوا بلورة حركتهم الفكرية والثقافية الحديثة عن طريق التثقيف الذاتي بما توافر لهم من مكتبات تم فتحها في الخرطوم وبعض المدن الكبرى في البلاد، واحتكاكهم بالمثقفين والمتعلمين العرب الذين وفدوا للعمل بالسودان من مصر وسوريا ولبنان، وهي دول سبق دخول صيغ الحداثة فيها السودان. وأيضاً عن طريق ما كان يصل إليهم من صحف ومطبوعات من تلك الدول ومن مصر خاصة، وبواسطة ذلك جميعه استطاعوا أن يتعرفوا على جانب من أساليب ووسائل مناهضة الاستعمار التي اتبعتها هذه الدول وحركات وطنية في دول أخرى كحركة المهاتما غاندي في الهند.
كما استطاعوا بلورة وإنشاء نهضة ثقافية حديثة احتوت على رؤى وأفكار جديدة شكلت نواة لما يمكن أن نطلق عليه مشروع حداثة سودانية، أي صيغ حداثة تقوم على حركة فكرية وعلمية وثقافية سودانية الطابع تتلاقح وتتفاعل مع الرؤى الفكرية والعلمية والثقافية التي بلورتها حركة الحداثة في أوروبا الغربية في تاريخها الحديث، وتقوم النخب السودانية المتعلمة والمثقفة بتوطينها في التربة السودانية لإنبات حداثة ذات سمات محلية مرتبطة بالواقع وبالتجربة السودانية، وتحمل خصائص وطابع المجتمع السوداني، أي حداثة متجذرة في الواقع السوداني وتجربة انسانه الذاتية، وتحمل في نفس الوقت صفات وخصائص ومضامين وعمليات التحديث التي انتظمت المجتمعات المتقدمة وهي التي نشأت فيها حركة الحداثة المعاصرة وشكلت مرجعية أساسية لها، وتحمل في ثناياها نفس وروح الثقافة السودانية وطابعها الإفريقي والعروبي والإسلامي والمحلي ورائحة ترابها ونباتاتها. وهو ما يعني إنشاء حركة حداثة عصرية تقوم على التجربة والتراث السوداني وتراكماتهما عبر الحقب التاريخية والحضارية التي شهدتها البلاد. ويقوم بهذه المهمة المتعلمون والمثقفون والعلماء والمفكرون السودانيون بوصفهم أبناء هذه الأرض الناشئين في تربتها والمتشربين لتراثها، والذين هم أجدر من غيرهم ببلورة وتطوير حركة حداثة تتفق وتجربة بلادهم وموروثها الثقافي والحضاري.
وإذا أخذنا في الاعتبار العوامل التي ترتبط بصيغ الحداثة السودانية والمتأثرة بالتعليم الحديث، وبما قام به العهد البريطاني من عملية تحديث، وبالمؤثرات المصرية والعربية وغيرها، ففي إطار ذلك كله كيف يبدو لنا تفاعل النخب السودانية المتعلمة مع تلك العوامل؟ وأيضاً كيف كان تفاعلهم مع مرجعية حركة الحداثة التي طورتها أوروبا الغربية منذ عصر النهضة وما أتى بعده من أزمنة، فهذه المرجعية قد كان لها، ومازال، قصب السبق في زماننا المعاصر هذا، إذ لم تتم بلورة وتطوير مرجعية فكرية وعلمية وثقافية لحركة حداثة وعملية تحديث متكاملة ومجربة اتسمت بالاستدامة والاستمرارية غيرها، في أية دولة أو منطقة في العالم بما في ذلك السودان، والذي لم يتمكن هو الآخر من ابتكار أو ابتداع مرجعيته الحداثية الخاصة به وإنما أخذ واقتبس من حركة الحداثة الفكرية والعلمية والثقافية وصيغها وتطبيقاتها التي تحدرت إليه من الغرب، مثله مثل غيره من الدول الأخرى التي مازالت توائم وتوطن صيغها داخل بلدانها وبيئاتها الطبيعية وثقافاتها الموروثة وسياق تطورها التاريخي والتدريجي.
ونحن عندما نتحدث عن حركة حداثة سودانية فإن ذلك يشمل الأفكار والمعايير والمفاهيم والمبادئ والقيم والتصورات والسيناريوهات والبرامج التي طرحها المتعلمون والمثقفون المحدثون والقادة السياسيون حول مستقبل السودان وعملية تحديثه إبان العهد البريطاني الاستعماري وبعد استقلاله، ومدى موافقتها أو معارضتها لما طرحه أو طبقه الحكام البريطانيون الذين كانوا غرباء على واقع السودان وبيئته المحلية وثقافته وتركيبته السكانية والتطور التاريخي والتدريجي لطبيعة العلاقات بين جماعات هذه التركيبة وما نشأ بينها من علاقات وتعايش وتمازج وتساكن طوال الحقب التاريخية المتعاقبة، وجاء الاستعمار وتدخل في هذه العوامل والخصائص وأحدث فيها الكثير من الارتباك، بل وقطع عليها تطورها الطبيعي والتدريجي.
وننظر على ضوء الواقع الجديد الذي أحدثه الاستعمار فيما إذا كانت حركة الحداثة السودانية وما طرحته من رؤى وأفكار وأطروحات ثقافية وعلمية وتصور لمستقبل البلاد وعملية تحديثها، قد جاءت متماشية مع العوامل التي أشرنا إليها هنا، ومع تطور البلاد الطبيعي والتدريجي وواقعها المحلي وإمكاناتها وقدراتها الذاتية، وما إذا كانت قد استطاعت أن تبتكر وتبتدع أدوات ومهارات جديدة تتعامل بها مع قضايا التقدم والتطور والتغيير، واستطاعت أيضاً بلورة مشروع حداثي خاص بها، أم أن حركة الحداثة السودانية قد سارت في ركاب الصيغ الحداثية التي أدخلها المستعمر في البلاد وشابها القصور ولم تستطع الاستجابة للواقع السوداني وما يتدافع في داخله من عوامل وقضايا وتعقيدات، وفشلت في إعادة البلاد إلى مسار تجربتها التاريخية وتطورها الطبيعي والتدريجي، وفي تأسيس حركة تطور ونهضة وتقدم وحداثة متماسكة تعالج قضايا ومشكلات البلاد، ومتسقة مع واقعها وتجربتها وروح العصر الحديث ومستجداته ومتطلباته.
المراجع :
1 انظر هبرماس، القول الفلسفي للحداثة، الفصل الأول. ترجمة فاطمة الجيوشي دمشق، سوريا.
2 نفسه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.