لقد لاحظ رفاعة أوضاع الغرب، عن كثب، بدقة شديدة. واستفاد من الصالح من أعمال القوم ببراعة وحصافة واتزان. ومجال القول المتبقي لايسمح إلا أن نشير اشارات عابرات إلى قضايا مهمة. مثل تجربة الطهطاوي في تعلم اللغة الفرنسية. وهي تجربة مبسوطة في الكتاب بإتقان. جهد الترجمة والنقل عن الغرب: وقد كان رفاعة من قلائل جدا من العلماء الشرعيين (من يبنهم محمد عبده) الذين شرحوا لنا تجربتهم في تعلم لغة من اللغات الإفرنجية بهذه الدقة الباهرة . وكذلك ننوه بتجربة رفاعة في الترجمة. وقد قال فيها : " ترجمت مدة إقامتي في فرنسا إثني عشر كتاباً، وشذرة. يأتي ذكرها في آخر هذا الكتاب. يعني إثني عشر مترجما. بعضها كتب كاملة، وبعضها نبذات صغيرة الحجم ". فهي تجربة كبيرة أفاد بها هذا الرائد النهضوي الصالح بلاد الإسلام. وأما فكرة كتابة هذه المذكرات الغنية التي لخص بها باريس لمجتمعه الإسلامي إذاك، ولنا اليوم، فهي في حد ذاتها فكرة تقدمية رائعة. من أسباب نجاح البعثة: لقد استفاد الطهطاوي من بعتثه كثيرا بسبب استعداداته الخاصة. وبسبب حزم السلطات السياسية التي أرسلتها. وحرصها على إفادة الأمة بها. وينبئنا الطهطاوي أن بعثته خضعت لنظام إداري صارم. وكانت تراقب مراقبة وثيقة من داخل سكن الأفندية. وبألفاظه ف:" هذه صورة ترتيب (الأفندية) في (البنسيونات): المادة الأولى : أن يوم الأحد المقرر لهم الخروج فيه يلزم أن يخرجوا من البنسيونات في الساعة التاسعة. ويأتوا إلى البيت المركز من أول الأمر. ويقدموا وقت الدخول ورقة معلمهم إلى (الأفندي) (النوبتجي) في هذا الشهر. لأجل أن يعلم ساعة دخولهم في البيت. وبعد ذلك يذهبون إلى المواضع المعدة للفرجة. بشرط أن يجتمع ثلاثة أو أربعة ثم يرجعون إلى (البنسيونات) في أيام الصيف في الساعة التاسعة وفي أيام الشتاء في الثامنة. وهذا الترتيب لازم ولابد. فإن رجع أحد إلى البنسيون قبل ذلك، وتعشى هناك، فهو أولى وأحسن. ومن اللوازم أن لا يدور أحد في الأزقة ليلا. ومتى دخل في البنسيونات يعطي الورقة المذكورة للمعلم. المادة الحادية عشر: إذا خالف أحد هذا الترتيب يقابل بقدر مخالفته. وإذا أظهر عدم الطاعة يحبس بالخشونة. وإن كان أحد يتشبث بأفعال غير لائقة. وأطواره غير مرضية. وجاءت تذكرة من معلمه تشهد عليه بقبح حاله وتبين عصيانه. فمثل ما ذكر الوالي في القوانين التي أعطاها لنا نتشاور مع المحبين له من أهالي هذه المدينة. ونرسل فاعل القبح والعصيان بنفسه حالاًإلى مصر من غير شك ولا شبهة ". ولابد ن نذكر أن رفاعة كان قد أرسل مع البعثة لا بوصفه طالبا، وإنما بوصفه شيخا يرعى أخلاق الطلاب. ويؤمهم في الصلوات. وذلك عندما احتجت الأوساط المحافظة في مصر على ارسال البعثة. خوفا من أن تؤدي إلى افساد أخلاق الشباب. ولكن رفاعة الذي أرسل شيخا برهن على أنه أذكى الجميع. وأكثرهم اهتماما بظاهرة الحضارة الغربية. وأساليب التمدن الجديد. وكما قال أستاذنا وشيخ طريقتنا محمد جلال كشك، قدس الله روحه، فقد كان رفاعة وحده هو الذي أفرز عملا فكريا وأثرا باقيا من دون أفراد البعثة أجمعين! خاتمة: ومن قراءة كتاب (تخليص الابريز في تلخيص باريز) لرفاعة رافع الطهطاوي، نستطيع أن نقول: إن هذا الشيخ المفكر، كان رائدا عظيما من رواد البعث الإسلامي. وإنه قد مهد طريق الفكر والاستنباط لمن تلوه. لاسيما من حلوا باريس بعده. إذ جاءها بعده بقرابة ثلث قرن كل من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. وأصدرا ثمانية عشر عددا من مجلة (العروة الوثقى) من هناك. وهي المجلة التي أيقظت العالم الإسلامي من سبات القرون. ثم جاء مفكر الحضارة الأكبر مالك بن نبي، وأقام بباريس، بعد قرابة نصف قرن من قدوم صاحبي (العروة الوثقى) إليها. وكان أثر الطهطاوي في غير هؤلاء عظيما أيضا. لقد كان الطهطاوي رائدا صالحا من رواد الحركة الإسلامية. وكان بخلاف ما حاول من نشروا كتابه مؤخرا، ناقدا كبيرا لفلسفة (التنوير) الغربي. الفلسفة التي لا تؤمن الا بمصدر معرفي وحيد هوالعقل. وتستخف بأهم مصادر المعرفة وهو لوحي. وقد تفرق نقد الطهطاوي لهذه الفلسفة العلمانية الضالة في كثير من صفحات كتابه. ومن أقواله المركزة في نقدها قوله:" إن الفرنساوية من الفرق التي تعتبر التحسين والتقبيح العقليين. وأقول هنا إنهم ينكرون خوارق العادات. ويعتقدون أنه لا يمكن تخلف الأمور الطبيعية أصلا. وإن الأديان إنما جاءت لتدل الإنسان على فعل الخير. واجتناب ضده. وإن عمارة البلاد، وتطرق الناس، وتقدمهم في الآداب والظرافة. تسدُّ مسدَّ الأديان. وإن الممالك العامرة تصنع فيها الأمور السياسية كالأمور الشرعية. ومن عقائدهم القبيحة: قولهم: إن عقول حكمائهم وطبائعييهم أعظم من عقول الأنبياء وأذكى منها ". فالطهطاوي يقف في هذا النص ناقدا لجوهر المقولات العلمانية (التنويرية). التي تزدري الأديان. وتصورها على أنها مرحلة تاريخية. تجاوزها العصر الحديث. وأنها كانت صالحة للإنسان البسيط، الذي ترقى بالعلم الآن. وأصبح لا يرى بديلا لحكم العقل! وقد أبدع الطهطاوي أيما ابداع. عندما لخص موقفه القومي والحضاري من الحضارة الغربية شعرا فقال: لئن طَلقتُ باريساً ثلاثاً فكلٌ منهما عندي عروسٌ فما هذا لغيرِ وصالِ مصرِ ولكن مصرَ ليست بنت كفرِ!