قصص كثيرة ، ومواقف متنوعة ، في أبواب الشرائع والفرائض ، وفي ميادين الطاعات والقربات ، أسرد بعضها وهي غيض من فيض ، لننظر إلى ما تردت إليه أحوالنا في النظر إلى أمر الدين وفرائضه، وطاعة الله وصورها، وأمر المسارعة إلى الخيرات والمنافسة فيها : روى البخاري في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: (أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله الحملان لهم – أي يطلب أن يحملهم معه – إذ هم معه في جيش العسرة وهي غزوة تبوك ، فقلت يا نبي الله إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم ، فقال : والله لا أحملكم على شيء ، ووافقته وهو غضبان ولا أشعر، ورجعت حزيناً من منع النبي صلى الله عليه وسلم ومن مخافة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وَجد في نفسه – أي غضب - عليّ ، فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالا ينادي أي عبد الله بن قيس ، فأجبته فقال : أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك ، فلما أتيته قال : خذ هذين القرينين وهذين القرينين - لستة أبعرة ابتاعهن [أي اشتراهن] حينئذ من سعد - فانطلق بهن إلى أصحابك فقل : إن الله ، أو قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحملكم على هؤلاء فاركبوهن ، فانطلقت إليهم بهن ، فقلت : إن النبي صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء ، ولكني والله لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تظنوا أني حدثتكم شيئا لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا لي : إنك عندنا لمصدق ولنفعلن ما أحببت ، فانطلق أبو موسى بنفر منهم حتى أتوا الذين سمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : منعه إياهم ثم إعطاءهم بعد ، فحدثوهم بمثل ما حدثهم به أبو موسى) . وذكر أصحاب السير، وأهل التفسير، أن سبعة نفر من فقراء الصحابة رضوان الله عليهم سمعوا النداء إلى الجهاد وليس معهم عدة ولا زاد، وكان يكفيهم ذلك عذراً شرعياً عند الله - جل وعلا - لكنهم جاؤوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطلبوا منه أن يحملهم ، لا إلى نزهة سياحية، ولا إلى غنيمة مالية، ولكن إلى مشقة بعيدة ومسافة طويلة ومعركة هائلة، وموت مرتقب ، رغم العذر الشرعي الذي عندهم ، ولم يكن عند سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - ولا الدولة الإسلامية كلها حينذاك ما يمكن أن تقدمه لهؤلاء ، فاعتذر لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهل فرحوا بذلك وقالوا : الحمد لله فلنسترح بين نسائنا وأولادنا ؟ وقد جاء الإعفاء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فأنزل الله - جل وعلا – وصفاً لحالتهم عند تلقي ذلك الاعتذار الرهيب : { وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ } [التوبة/92] . عجباً لهؤلاء القوم، عذرهم شرعي مقبول، وسعيهم مجزي ومأجور، ثم بعد ذلك كله يرجعون وهم في غاية الحزن والأسى، كيف كانوا يفكرون؟ بأي قلب وعاطفة كانوا مع أوامر الله - عز وجل - وشرائعه ، بل ومع السنن والنوافل غير المؤكدة ؟ وفي ميدان آخر وفي الغزوة نفسها لما دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين لتجهيز جيش العسرة ، بالتطوع بالمال ، قام عثمان بن عفان وقال يا رسول الله : عليّ 100 من الإبل بأحلاسها وأقتابها [أي بكامل حمولتها] فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم : من يجهز جيش العسرة وله الجنة ؟ فقال عثمان: عليّ 200 من الإبل بأحلاسها وأقتابها ، فأعاد فقال عثمان: عليّ 300 من الإبل بأحلاسها وأقتابها، وزاد فوقها ألف دينار حتى قال رسول الله: ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم !! وفي سنن الترمذي أن عمر - رضي الله عنه - قال عند سماعه لهذه الدعوة في تجهيز الجيش: اليوم أسبق أبا بكر، فجاء بشطر ماله ، قال: فوافيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقدمَ أبي بكر ، وإذا به يضع ما جاء به بين يدي رسول الله والرسول يسأله : ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ لاحظوا أنه لم يسأله ما الذي جئت به ؟ إنما سأله ما الذي بقي؟ لأن الرسول – بمعرفته بتلامذته الذين رباهم - يتوقع أن الباقي هو الأقل، فقال أبو بكر: أبقيت لهم الله ورسوله، يعني خرج من ماله كله ، الأموال السائلة والعقارات المنقولة والأرصدة الموجودة هنا وهناك، كلها مرة واحدة . وليست هذه المرة الوحيدة من أبي بكر ؛ فقد فعلها مرات قبل هذه ، فقال عمر حينئذ: والله لا أرزؤك شيئاً بعد اليوم يا أبا بكر، أي لن أفكر في سبقك لأنك دائماً سابق . إن هذه النماذج وأمثالها لم تنتظر أن يكون هذا واجباً حتميّاً ، لكن قلوبهم المعمورة بالإيمان، وأرواحهم المتعلقة بنصرة الإسلام تأبى عليهم أن يفكروا بهذا المنطق، وتريد أن تسابق إلى ما هو أسمى وأعلى !! وفي هذه الغزوة جاء أبو عقيل - أحد الصحابة - وقدم كل ما عنده ، أتدرون ما ذا قدم ؟ قدم نصف صاع من طعام ! فضحك المنافقون واستهزؤوا به ! وقالوا : ما هذه النفقة ؟ ماذا تفيد هذه الصدقة ؟ وتنزلت الآيات تنعى على المنافقين ، فالمهم هو تقوى القلب والإخلاص والبذل { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم } . وبعد قصص بذل النفس والمال في الجهاد في سبيل الله ونصرة الدين ، فهذه قصص في ميدان ثالث في غاية الأهمية، فلئن تقاعسنا عن الأول والثاني فماذا نقول في هذا الميدان الثالث: هذا سعيد بن المسيب من أئمة التابعين يقول: ما فاتتني تكبيرة الإحرام أربعين سنة ! والأعمش سليمان بن مهران - تابعي آخر - يقول: ما فاتتني تكبيرة الإحرام سبعين سنة! والربيع بن سليمان – تلميذ الإمام الشافعي - أصابه الفالج أي الشلل، فلما سمع الأذان طلب من أبنائه أن يحملوه إلى المسجد ليصلي الجماعة، فقالوا: إنك معذور فلو صليت في بيتك، قال: هو كما تقولون - أي من حيث الحكم الشرعي - ولكني سمعت حي على الصلاة، فإذا سمعتم حي على الصلاة، حي على الفلاح فأجيبوا ولو حبواً، وليس بالسيارات المكيفة، ولم يكن الذهاب إلى المساجد المفروشة المكيفة . والقصص في هذا كثير. إن حالنا لغني عن البيان، نجر الخطى إليها جرا، وكلما صليت فرضاً ونظرت فستجد من فاتهم بعض الصلاة أكثر ممن أتموها مع الإمام ، وتجد عددا آخر في جماعة أخرى وقد فاتتهم الصلاة بالكلية ، بل والعدد الأكبر ممن لم يحضروا المسجد أصلا !! وفي صلاة الفجر عندما يلتفت الإمام قائلاً: سووا الصفوف، فلا يجد إلا صفاً واحدا غير كامل يستدرك قائلاً: (سووا الصف) ! ثم بعد هذا كله نأتي ونقول : إن هذه الصلاة في المساجد ليست واجبة ، ابقوا في بيوتكم، ناموا ملأ أعينكم، انشغلوا بشؤونكم، وكأننا نرى الناس قد أخذوا بالجد والعزم، وكأننا نراهم وقد جيء بهم وأحدهم يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف !! إن أمر الطاعات والقربات لا ينظر إليه من ملأ الإيمان قلبه بمنظار الفرض والندب ، إنما ينظره بالشعور بمتعة الامتثال والاستجابة والمسارعة ، نظر اليقين بأن كل أمر يبذل لله ، وكل طاعة يتقرب بها إلى الله تثمر خيراً في الدنيا، وأجراً وثواباً ورفعة في الآخرة . ولنتدبر هذه الآيات العظيمة الحكمية : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } ويقول سبحانه : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ } [النور/36–37] أفلا نحب أن نكون من هؤلاء الرجال ! وما بالنا نتعامل في طاعاتنا بالحساب والزائد والناقص ، وكأن أرصدتنا من الثواب والحسنات والطاعات والقربات والإنفاق والجهاد قد طامنت الجبال بعلوها والآفاق بوسعها ؟ يجب علينا أن نستحيي من الله، وألا تكون صلتنا بالله مرتبطة بمثل هذه النظرات القاصرة ، فإن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا على هذا السنن الذي ذكرته لأن معلمهم سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه ، فتعجب عائشة أقرب المقربين إلى رسول الله - عليه الصلاة والسلام - لمَ كل هذا الجد والاجتهاد؟ يا رسول الله ؟ أوليس قد غفر الله لك من ذنبك ما تقدم وما تأخر؟ فيقول: أفلا أكون عبداً شكورا ؟ أسأل الله - جل وعلا - أن يمن علينا بالإقبال على الطاعات، وتذوق حلاوة المناجاة، وأن يجعل الطاعات أحب إلى قلوبنا من الماء البارد على الظمأ، وأن يجعلنا فيها مخلصين، وأن يكرمنا فيها بالقبول ومضاعفة الأجور.