بقلم الأستاذ زين العابدين الركابي مفكر سوداني مقيم بالسعودية لا يمكن ان يكون هناك ثقل واحد، سلطة واحدة، مركز قوة واحد يتخذ القرارات. فهذا معناه ان هناك حاكما واحدا يتحكم في العالم. ولا شك ان هذا النظام الاستقطابي ضار، ليس على العالم الذي يعيش بداخله فحسب، وإنما هو ضار على هذا الحاكم نفسه لأنه يدمره هو ذاته من داخله. إننا نشهد استخداما مفرطا للقوة، ونغرق العالم في هوة من الصراعات الدائمة. فثمة استحقاق متزايد بمبادئ القانون الدولي الاساسية. وهناك دولة واحدة هي الولاياتالمتحدة تتجاوز حدودها الدولية في كل الاتجاهات. ولقد شجعت السياسات الامريكية عددا من الدول على الحصول على اسلحة الدمار الشامل، وادت الى المزيد من انتشار الارهاب.. اننا على قناعة تامة بأننا قد وصلنا الى اللحظة الحاسمة التي تدفعنا الى التفكير بجد في اعادة هندسة الأمن الشامل من جديد، علينا ان نباشر بالسعي الحثيث "إيجاد توازن معتدل بين مصالح كافة المشاركين في الحوار الدولي".. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. هذا (متغير) جديد في السياسة الدولية. وهو متغير ينبغي استيعابه والتعامل معه. لأن اغماض العينين دون المتغيرات يضير العينين ولا يضير المتغيرات.. ويبدو ان هناك في الولاياتالمتحدة من يمارس حرفة اغماض العينين بثبات مطلق تجاه كل متغير يجب استيعابه واستبطانه مثل: تداعي غزو العراق.. وتدحرج سمعة الولاياتالمتحدة في العالم الى القاع.. وعدم الاطمئنان الدولي الى ما تقوله الادارة الامريكية وما تفعله.. وما جهر به بوتين في ميونخ. ما هي العلة التي تحجب العين والبصيرة عن (المتغيرات)؟ هي علل شتى لا علة واحدة: 1 علة (غرور القوة). فلا يزال الشعور بالقوة يتضخم في النفس والتفكير حتى يسد كل منفذ لرؤية وسائل أخرى غير وسيلة القوة: «فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من اشد منا قوة أولم يروا ان الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة».. والتاريخ البشري يؤكد هذه الحقيقة، أو السنة المطردة. فغرور القوة هو الذي اهلك روما وامثالها في التاريخ القديم، وغرور القوة هو الذي انتهى بتحطيم نابليون وهتلر واليابان في العصر الحديث. ذلك ان غرور القوة حالة مرضية لا تنشأ إلا في (غياب العقلانية) وفي غيبة العقل وعناصر اخرى اخلاقية تحدث الكوارث والمهالك ولا بد. 2 العلة الثانية هي (الاطمئنان الابدي الوهمي الى ديمومة المركز القيادي).. فهذا الاطمئنان يفقد المطمئن شعوره بالمتغيرات والمتبدلات. وكأنه يموت نفسه فيقول: تقع هذه المتغيرات كما يحلو لها فالمهم «اننا باقون في مركزنا القيادي المتفرد، ومن هنا فلتغن هذه المتغيرات لنفسها!! يربط بريجنسكي في (رقعة الشطرنج الكبرى) ربطا ذكيا ألمعيا بين روما القديمة وبين الولاياتالمتحدة في قضية: ان الاطمئنان الابدي الى المركز القيادي يميت الشعور بالمتغيرات الواجب استيعابها ليس فقدان الشعور بالمتغيرات (الخارجية)، بل فقدان الشعور بالمتغيرات (الداخلية): يربط بين الحالتين فيقول: «أدت ثلاثة اسباب رئيسية الى انهيار الامبراطورية الرومانية. وهذه الاسباب هي اولا: اصبحت الامبراطورية اوسع من ان تحكم من مركز واحد.. ثانيا: في الوقت نفسه اشاعت فترة العنجهية الامبراطورية الطويلة نوعا من ثقافة عبادة اللذة، فهي ثقافة امتصت بالتدريج إرادة السمو لدى الزعامة السياسية.. ثالثا: عمل التضخم المستدام هو الآخر على تقويض قدرة النظام على الاستمرار دون تضحيات اجتماعية لم يعد المواطنون مستعدين لتقديمها. وقد تآمر التفسخ الحضاري، والانقسام السياسي والفساد والتضخم المالي على جعل روما قابلة للاختراق من قبل الهمج المنتظرين في الخارج بالقرب منها.. ويمكن (للتغير الثقافي) في امريكا بشكل عام ان يكون غير ملائم للممارسة المستدامة للقوة الامبراطورية في الخارج، إذ ان تلك الممارسة تتطلب درجة عالية من الدفع العقائدي والالتزام الثقافي والاشباع الوطني. في حين ان الثقافة السائدة في البلاد اليوم قد اصبحت تتركز باطراد على اللهو الجماعي الذي خضع بشدة لتأثير مفاهيم حسية على الصعيد الفردي، وهروبية على الصعيد الجماعي.. والأثر الجمعي لهذه الحقيقة جعل من الصعوبة بمكان تعبئة الاجماع السياسي المطلوب لأجل تحقيق الزعامة الامريكية المستدامة في الخارج» والمعنى ان في صميم الداخل الامريكي متغيرات لم تبصرها الادارة الامريكية متغيرات مثل: الاغراق في اللذة.. وفقدان الاهداف العليا المقنعة الحافزة.. والمبادرة الى التضحية من أجل غاية سامية، وهي متغيرات تحبط فرص نجاح الزعامة العالمية، لان للزعامة العالمية الحقة: أسسها وشروطها الموضوعية التي لا يمكن الالتفاف عليها بالاماني والفهلوة والقفز على الحقائق والوقائع: وبدهي ان من يفقد الشعور بالمتغيرات الداخلية، فإنه أشد فقدانا للشعور بالمتغيرات الخارجية. 3 العلة الثالثة المانعة من فتح العين والعقل على المتغيرات هي (التحجر الفكري والسياسي).. ونستطيع ان نقول: ان من اسباب سقوط الاتحاد السوفيتي وذهابه: سبب: التحجر الفكري والسياسي تجاه ما يجري في العالم من تغيرات وتبدلات: فكرية وثقافية وعلمية واقتصادية وسياسية. ولئن صح ان من عوامل انقراض الديناصورات: عدم قدرتها على التكيف مع المناخات الكونية الجديدة، فإنه يصح بلا ريب : ان الاتحاد السوفيتي في آخر سنيه قد فقد القدرة على التكيف الصحي الايجابي الواعي مع المناخات العالمية الجديدة العلمية والاقتصادية والفكرية والسياسية فانهار او انقرض. ومن اغرب المفارقات: ان الذين امتلأوا نشوة وفرحا بزوال الاتحاد السوفيتي وهم الامريكان قد (قلدوه) في صور عديدة ولا نقول في الصور كافة قلدوه في التحجر الفكري والسياسي الذي يحجب العين والعقل والبصيرة عن رؤية المتغيرات المتلاحقة في عالمنا وعصرنا.. وهذه قرائن تدل على هذا التحجر او الجمود: أ حين جهر بوتين بكلماته الآنفة: سارعت الآلة الاعلامية والفكرية والسياسية الامريكية الى وصف ما قاله بانه عودة الى (الحرب الباردة).. هذا من دلائل (التحجر الفكري والسياسي).. بمعنى المسارعة الى استحضار ادبيات حقبة سلفت، فليست تتصور هذه المسارعة الى الملف القديم الرميم الا من خلال تصور عجز الآلة الامريكية الفكرية والسياسية عن (التفنن) في صك مفردات او مصطلحات جديدة مناسبة موضوعيا وظرفيا (للتعبير السياسي غير التهويلي عن التوجه او الطرح الروسي.. كان المناسب ان يقال: (التبدل السوفيتي في السياسة الخارجية نتيجة للتبدل الداخلي: الامني والسياسي والاقتصادي).. او (هذه: لا.. روسيا ضد التطويق العسكري الغربي).. او (روسيا تبحث عن دور جديد)، بيد ان التحجر الفكري والسياسي انعكس في المفردات ايضا. وهو جحود من خصائصه: استسهال الرجوع الى الملفات القديمة. ب ويظهر انه حصل (توسع) في التقليد الامريكي للاتحاد السوفيتي سابقا. ومن ذلك: (الايدلوجيا). فقد تبنى الاتحاد السوفيتي ايدلوجيا (وهمية) يبشر بها العالم. او ضحى في سبيل ذلك بمصالحه القومية الحيوية. وكذلك يفعل المحافظون الجدد اليوم: يتبنون ايدلوجيا مجنحة ويبشرون بها عبر العالم: مضحين في سبيلها بالمصالح الحيوية لبلادهم، وبصورتها الجميلة التي ينبغي ان تكون.. ومن هذه التقليدات (الجامدة): استباحة الاستخبارات الامريكية حمى الدول الاوروبية من خلال الرحلات السرية التي تحمل شحنات بشرية الى المعتقلات والسجون. وكذلك كان يفعل الاتحاد السوفيتي مع اوروبا الشرقية الخاضعة لسيطرته ونفوذه.. ومنها: تقليد الاتحاد السوفيتي في النزوع العالمي الى (الهيمنة).. ومنها استعارة المصطلحات الفكرية مثل (الحتمية الماركسية) لانتشار الشيوعية وسيادتها. فقد قالوا ب (الحتمية الامريكية). وصاغ فوكوياما نظرية كاملة لتسويغ هذا المصطلح. واذا كان الرجل قد تحلى بشجاعة عن أفكاره هذه، فإن الطبقة الحاكمة اياها ماضية في تطبيق الحتمية الامريكية على الرغم من خيبات التطبيق.. ومن المصطلحات المستعارة من الاتحاد السوفيتي: مصطلح (الصراع) كان الاتحاد يدير استراتيجيته بمقتضى (نظرية الصراع الطبقي). اما المحافظون الجدد فقد حوروا في التعبير فحسب، وقالوا ب (صراع الحضارات). ج من المتغيرات الهائلة التي لم يستوعب المحافظون الجدد دلالاتها العميقة البعيدة: سقوط الاتحاد السوفيتي، فقد اكتفوا ب (النشوة النفسية والسياسية)، في حين كان يتطلب هذا الحدث التاريخي الضخم تفكيرا امريكيا جديدا ذا مسؤولية كبرى جديدة: سياسية وأخلاقية وحضارية تجاه الشؤون الدولية، ولو فعلت أمريكا ذلك، لطوّلت (عمرها) في الزعامة العالمية، ولكانت صورتها أفضل آلاف المرات مما هي عليه الآن، ولكنها لم تفعل. وبذلك ضيعت على نفسها فرصة تاريخية لن تتكرر، كما يضيع التاجر الخائب أو الجامد فرصة عمره في سوق مواتية (مع مراعاة الفروق الكبيرة جدا) بين خسارة تاجر، وبين خسارة أمة كاملة للمستقبل الأفضل: لها، ولعالمها الإنساني. ونعود الى الطرح الاستراتيجي والفكري الجاد والحاد الذي طرحه فعلا فلاديمير بوتين في ميونخ فنقول: ان هذا التوجه الروسي، ليس (حربا باردة جديدة)، فخلفاء السوفيت في روسيا تعبون من الحرب الباردة لأنها كلفت بلادهم ما لا تطيق نفسيا واقتصاديا وأمنيا وسياسيا وحضاريا. وانما جوهر الطرح هو نقد مباشر وجريء لظواهر: (الفوضى العالمية) و(تعليق القانون الدولي). و(الانحراف الكبير بالحرب على الإرهاب).. ولامريكا نصيب من ذلك كله والعقلاء من كل جنس يتمنون: أن تكثر هذه الاصوات حيث ان الصمت الجبان بإزاء هذا الثالوث القاتل ليس له الا نتيجة واحدة وهي: مزيد من الفوضى والاضطرابات الأمنية والسياسية والتوترات العرقية والايدولوجية والصراع بين الحضارات وارتفاع معدلات العنف والارهاب.. الخ. واذ تعجل أقوام منا نحن العرب والمسلمون الى الطرب بما قاله بوتين، وطفقوا يحلمون في دورته ب (الند) الروسي الجديد ضد الولاياتالمتحدة، تعجل قوم آخرون فانتقدوا بوتين لأنه (نال) من هيبة أمريكا!! وكأن أمريكا أمهم المعصومة!! والحق والعقل والعدل ليس مع أولئك ولا هؤلاء. إنما الحق والعدل في الموقف المتزن. والموقف المتزن هو: ان العلاقة مع روسيا ليست بديلا للعلاقة مع أمريكا فالسياسة الخارجية ليست (ناديا للعشاق) يتقلب فيه العاشقون بين أحضان مختلفة، بحب وهيام فروسيا ذاتها لها علاقات جيدة مع أمريكا.. في الوقت نفسه ليس من مصلحتنا ولا مصلحة امريكا ولا مصلحة العالم: ان تدير الولاياتالمتحدة شؤون العالم من دون الناس. فلو كانت عاقلة راشدة ما سلم عقلاء العالم لها بذلك: فكيف وهي مضطربة متوحلة؟. ان امريكا بلد مؤثر ولذا يلزم نقد تصرفاته الخاطئة ولقد قال المفكر الامريكي ديل كارنيجي: «بقدر قيمتك يكون النقد الموجه إليك».