في أوائل تسعينيات القرن المنصرم نسبت إلى الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي مقولة مفادها: إذا سقط النظام المصري فسيسقط النظام التونسي بعده بربع ساعة! كان النظام المصري بعلمانيته الصارخة المتحدية المناجزة لكل ما هو إسلامي واستناده شبه التام إلى قوة النظام الاستخباري الضارب يعطي المشروعية المصنعة لنظام لا مشروعية له من أي لون أو شكل كالنظام التونسي الذي لم يكن نظاماً سياسياً بالمعنى المعروف وإنما كان منظمة سرية استنزافية يقودها شرطي فاسد بالوصف الذي أطلقه راشد الغنوشي على بن علي وهو في قمة عنفوانه. ولكن شاء ربك أن يحدث عكس ما توقع الشرطي الفاسد بن على إذ سقطت دولته قبل أن تسقط دولة مبارك وأصبح سقوطه تحريضاً على الثورة في العالم العربي وتمهيداً سريعاً لسقوط قدوته حسني مبارك. ولعل متابعي تاريخ ثورة الإنقاذ في أيامها الأولى يذكرون كيف قامت الحكومة التونسية بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع السودان دون أدنى مبرر أو مسوغ معقول. فليست للسودان علاقات مميزة أو مباشرة بتونس وليس له عليها تأثير من أي مستوى. ومن ثم فلم يكن للحكومة التونسية من سبب يدعوها لاتخاذ هذا القرار المتطرف إلا حساسيتها الشديدة من كل من له علاقة إيجابية بالإسلام. وقد أحست الحكومة التونسية بعلاقة الإنقاذ بالإسلام بينما انخدع النظام المصري في هذا الصدد. وهكذا شاء ربك أن يبدأ مسلسل سقوط الأنظمة العربية بأشدها علمانية وعدوانية وطغياناً وفساداً في الأرض وعداء لدولة الإنقاذ. وربما ظن النظام المصري الذي لم يتخذ الخطوة الدبلوماسية الطائشة التي اتخذتها للحكومة التونسية أن في كنانته أسلحة أحد وأمضى. ومن ثم فقد خطط ودبر وأشرف على نحو من عشر محاولات انقلابية فاشلة في السودان. وأعان طوائف المعارضة السودانية التي احتمت بحماه وظلت تتلقى توجيهاتها من أوكار المخابرات المصرية وأوكار وزارة الزراعة المصرية التي كان يتولاها الوزير المشبوه ذو العلاقات الصهيونية المدعو يوسف والي! وقام سلاح الجو المصري – فيما روت مجلة الإكونومست البريطانية في ذلك الحين – بنقل جنود حركة التمرد الجنوبية من يوغندا إلى إريتريا ليشنوا من هناك هجومهم المدمر على كل من كسلا وهمشكوريب. وهذه مجرد أمثلة عابرة في مجال إيذاء النظام المصري السابق لبلادنا وما ذكرناه من هذه الأمثلة يكفي ويغني عن الإفاضة فيها. وقد صبرت بلادنا على هذا البلاء المترامي الصبر الأمثل ولم ترتكب حماقة الرد على هذا البلاء المستطير. وذلك إيماناً منها بأن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله المعتدين. وأخيراً حاق المكر بأهله فتساقطوا متسارعين. وقد استفادت بلادنا فائدة أدبية كبيرة بسقوط النظام التونسي الذي كان أول الأنظمة العربية مبادرة بعداء للسودان وكان الأشد تطرفاً في العداء. واستفادت بلادنا فائدة إستراتيجية كبرى بسقوط النظام المصري أشد الأنظمة العربية إضراراً بالسودان. والذي كان يتجه إلى المزيد بالإضرار ببلادنا بتحريض دولة الجنوب عليها. واستفادت بلادنا من ناحية أخرى مهمة هي ناحية الموازنة والمقارنة بالأنظمة العربية الأخرى. فصحيح أن في بلادنا فساد متكاثر ولكنه عند الموازنة والمقارنة بما في الأنظمة الساقطة يبدو قطرة من بحر. وصحيح أن في بلادنا احتكار للسلطة ولكنه عند الموازنة والمقارنة بما في الأنظمة العربية الساقطة يبدو الفارق بيناً إذ ليس في بلادنا هنالك احتكار سلطوي على أساس طائفي أو أسري أو طبقي أو مهني على نحو ما في تلك البلاد. وصحيح أن لدينا رئيس حكم لأكثر من عقدين من السنين ولكنه فاز بانتخابات حقيقية غير مزورة ثم وعد بألا يرشح نفسه في انتخابات قادمة وألا يقبل ترشيح أحد له مرة أخرى وهو وعد نظن أنه سيفي به. ولثقة رئيسنا البشير بنظافة يده وتجرده وتيقنه من حب شعبه له فقد قال: إن الشعب إذا ثار عليه فإنه لن يماطل بالوعود أو يتهرب من المطالب أو يهرب من قبضة الشعب. وإنه لو حمي الوطيس سيبرز لشعبه في الشارع كي يرجمه. ولعمري فما قال رئيس عربي ولا غير عربي قولاً شجاعاً من القول الثابت مثل هذا القول. وهو القول الثابت الذي نرجو الله تعالى أن يثبته به في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. وأخيراً فإن هذه هي بعض الفوائد والنقائض التي برزت واضحة تتجلى بين نظام الإنقاذ والنظم المنبتة كالنظامين التونسي والمصري والنظام الليبي المتهاوي. ولكن بقي أن تستفيد الإنقاذ من العبرة الكبرى من زلزال الثورة العربية فلا تسمح بتسرب عوامل الثورة وأسبابها ومبرراتها إلى بلادنا. وأسوأ ما يحدث هو أن تأخذ نشوة الطرب والشماتة حكامنا فيسدروا في التساهل حيال جذوع الفساد النامي حتى يستشري، ويسدروا في التجاهل حيال أسباب الثورة ومبرراتها ودواعيها حتى تتمكن. ولذلك سنظل نذكر من يتذكر ونعبِّر من يعتبر. ونرجو أن تكون استفادة بلادنا من أحداث الثورة العربية استفادة حكيم معتبِر. فما أكثر العبر في الدنيا وما أقل المعتبرين بها.