«لا شمال بلا جنوب، ولا جنوب بلا شمال».. كانت هذه العبارة يستخدمها السياسيون في السودان؛ بغرض الاستهلاك السياسي، ولتعضيد العلاقة بين شمال السودان وجنوبه، خاصة بعد أن ارتفعت الأصوات المنادية بفصل الجنوب بعد اتفاقية السلام الشامل، ولكن هذه العبارة أصبحت الآن أكثر واقعاً، وجنوب السودان بعد انفصاله أصبح أكثر حاجة لشمال السودان؛ نظراً لاعتماد الجنوب طيلة السنوات الماضية على الشمال في كثير من قضاياه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. كما أنه أكثر حاجة لشمال السودان في النواحي الأمنية. ويرى كثير من الخبراء، أنه ليس من مصلحة جنوب السودان معادة الشمال في الوقت الراهن؛ نظراً لاعتماد الجنوب في هذا الوقت على الشمال في كثير من الاحتياجات الضرورية، فإذا فكرت حكومة الجنوب في إنشاء مصافٍ وخطوط نقل للبترول من غير تلك الموجودة في شمال السودان؛ فكم من الوقت يستغرق ذلك؟ وكم من الأموال يمكن أن تدفعها؟ وما المدة الزمنية التي يستغرقها بناء خط أنابيب لميناء «ممبسا» مثلاً؟ وما مدى استعداد الشركات للعمل في إنشاء هذا الأنبوب في ظل عدم الاستقرار الأمني، وتحركات «جيش الرب» المنطلق من «أوغندا»، والمليشيات المتمردة التي ازداد نشاطها في الفترة الأخيرة؟ ومن أين، وكيف يمكن أن تستورد هذه الدولة مواد بترولية لإدارة شؤونها الداخلية حتى اكتمال بناء هذا الخط؟. في حين أنّ الجنوب يعتمد على شمال السودان في توفير المواد الغذائية الصالحة، فقد أثبتت تجربة فتح الحدود مع دول الجوار الجنوبي دخول مواد غذائية فاسدة ومنتهية الصلاحية؛ مما أثرت سلباً على صحة المواطن الجنوبي، كما أن الأوضاع غير مهيأة لزراعة أيٍّ من المحاصيل الزراعية عدا الأرز في جنوب السودان، وأنه حسب المتابعات، فإن المواد الغذائية التي تأتي من دول الجوار الجنوبي ذات أسعار مرتفعة، ليس في مقدور المواطن عديم الدخل في الجنوب الحصول عليها. من جانبه، أكد «جوني كارسون»، مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لمكتب الشؤون الأفريقية، في محاضرة له بمعهد «كاثام هاوس» للتحليل والحوار والأفكار، الذي يتخذ من لندن مقراً، أكد أن تأسيس «دولة قابلة للحياة، وتستطيع المحافظة على استدامتها قد يحتاج إلى عقود من الزمان كي يتحقق». ويعتقد بأنه على الجنوبيين أن يبنوا على هذا الزخم النوايا الحسنة التي تمخض عنها الاستفتاء الناجح بُغية دفع الطرفين للتوصل إلى اتفاقات جوهرية حول بعض القضايا المهمة العالقة، وهذا يشمل المشورة الشعبية والمواطنة. اقتصاد جنوب السودان وقال «جوني»: إذا أراد جنوب السودان تأكيد استقلاله الاقتصادي؛ فإن من المهم الاعتراف بأهمية شمال السودان في عملية الاعتماد المتبادل للدولتين في قطاع النفط»، ومرد ذلك إلى عوامل مثل الخبرة التي من العسير الاستعاضة عنها، والبُنى التحتية الأساسية في الشمال. وحذر «جوني» من أن الخطط الكبيرة لإنشاء خط أنابيب، وطريق جديد لتصدير نفط الجنوب، الذي قد يكلف مليارات الدولارات، ويستغرق عدة سنوات لتنفيذه، يجب التفكير فيها إذا كانت لها جدوى اقتصادية وتجارية.. أما في الوقت الحاضر، فإن الحالة الاقتصادية للتحرك إلى الأمام بمثل هذا المجهود المستقل غير متوافرة. وقال «جوني»: إن «جمهورية جنوب السودان سوف تكون من أكثر الدول المحرومة لتنضم إلى المجتمع الدولي، إذ إن بنيانها ضعيف، ومعظم مناطقها يعوزها النقل والمواصلات». ويرى المراقبون أن جنوب السودان لا يمكن أن يعادي شمال السودان، خاصة أن الجنوب يحتاج للشمال في عملية تدريب الكوادر الإدارية المختلفة، وتدريب أفراد الجيش والشرطة؛ لتكون عناصر مؤهلة يمكنها إدارة شؤون الدولة الجديدة؛ لأن جيشها كان عبارة عن ميليشيات وعصابات متمردة. ضرورة اقتصادية وسياسية ويرى د. حسن بشير محمد نور، جامعة الخرطوم، في ورقة قدمها في أحد المراكز البحثية بالخرطوم، أن هناك ضرورة اقتصادية وسياسية ملحّة بالنسبة لدولتي السودان نظراً للروابط العضوية بينهما، يساعد ذلك على نزع فتيل التوتر حول الحدود وقسمة الموارد، إضافة لتحقيقه مكاسب اقتصادية لا غناء عنها لأيٍّ من الدولتين، ويحتاج تحقيق هذا الهدف لإرادة سياسية تتخطى الخلافات الحادة، والمرارات المتراكمة بين الطرفين، إضافة لضرورة احتواء أي توترات محتملة من المتوقع أن تحدث بين الدولتين. من جانب آخر، فإن التكامل الاقتصادي من المفترض أن يشمل عدداً من الإجراءات التي تضمن إزالة القيود حول استخدامات الموارد المشتركة وعناصر الإنتاج فيما بينهما، والتنسيق بين مختلف سياساتهما الاقتصادية؛ بهدف تحقيق معدل نمو مقبول خلال الفترة القادمة، وتحقيق التقارب في برامج التنمية، باتباع أنظمة سياسية واقتصادية متجانسة قدر الإمكان، تكون قائمة على تناسق خطط التنمية، إضافة لفتح وتطوير قنوات التجارة بين البلدين، وضمان انسيابها بشكل آمن، مع مقتضيات توفير البنية الأساسية اللازمة لتلك المتطلبات. وذكّر بأن شمال السودان والجنوب بشكل أكبر يفتقدان المقومات الاقتصادية الحديثة من البنية التحتية (هياكل وأنظمة اقتصادية ومالية متطورة، مستويات الكفاءة والقدرات البشرية مع تفشي البطالة بشكل كبير وارتفاع معدلات الفقر). وقال: إن هذا الواقع يضفي أهمية إضافية للتكامل الاقتصادي بين دولتي السودان؛ لتحقيق نهضة صناعية تعتبر شرطاً أساسياً لتحديث الهيكل الاقتصادي، وتوسيع قاعدة الإنتاج، وإتاحة فرص أكبر أمام القطاع الخاص لتوفير فرص عمل جديدة. وأضاف أنه بعد أن تستقر الأمور في الدولتين بعد يوليو 2011م، سيخفت بريق الانفصال في دولة الجنوب، وسيستوعب الشمال فداحة الخسائر التي ألمت به جرّاء الانفصال، وسيواجه كلٌ من الطرفين كمّاًً معقداً من التحديات التي من المتوقع مواجهتها، مثل الضغط المعيشي، وتحقيق معدلات نمو تضمن تحسن المستوى المعيشي المتدهور، ومواكبة المتغيرات الإقليمية والدولية، وتوفير فرص عمل في الحضر والريف، والتخلص من عوامل الفساد والمحاباة.. تلك التحديات من الأفضل مواجهتها بشكل مشترك، بدلاً من أن يحاول أيٌّ من الطرفين المساهمة في تعقيدها. ووضع حسن بشير أهم العناصر التي يمكن الاعتماد عليها في بناء تكامل اقتصادي بين دولتي شمال وجنوب السودان، وقد لخصّها في: 1- التفاهم حول قسمة الموارد المشتركة أو المتداخلة بين الطرفين، ومن أهمها: المياه، والأراضي الزراعية، ومسارات الرعاة، وحقول النفط المتداخلة، وعناصر الإنتاج ومصادره ذات المزايا الاقتصادية المشتركة. 2- إقامة مناطق للتجارة الحرة المعتمدة على اتحاد جمركي، والمزايا التجارية التفضيلية. 3- إقامة اتحاد نقدي بين البلدين حتى في حالة اختلاف الوحدتين النقديتين، والشروع في إجراءات وحدة اقتصادية قائمة على سوق مشتركة تشكل بورصة للتداول بين الشمال والجنوب. 4- بناء الثقة بين المنتجين، وتوسيع فرص ومزايا الاستثمار المشترك بين المؤسسات الإنتاجية الاقتصادية. 5- تنسيق السياسات الاقتصادية الخارجية، سواء من حيث القيود النوعية والكمية، أو من حيث المعاملة التي تُمنح لبعض الدول بغرض المساعدة في تشجيع التبادل معها، وزيادة الطلب على المنتجات وتحقيق التشغيل الأمثل. 6- وضع خطة مشتركة للتنمية، تسمح بتعبئة الموارد الاقتصادية بشكل يؤدي إلى تفادي الاختناقات التي عادة ما تعترض تنفيذ المشروعات. وقال: إن من الشروط الضرورية لنجاح التوجه نحو التكامل الاقتصادي بين دولتي الشمال والجنوب؛ وجود التجانس في الأنظمة السياسية والاقتصادية. وأوضح أن التعاون الاقتصادي بين الدولتين - الذي يمكن أن يتطور مستقبلاً لوحدة اقتصادية تقرب بين الدولتين، وتربط شعبيهما في مصالح مشتركة - يتطلب الانتقال من العقلية الحزبية المسيطرة، إلى عقلية الدولة التي تحكمها المشاركة الواسعة لجميع مكونات المجتمع وقواه الفاعلة، استناداً إلى المؤسسية والمواثيق المبرمة قانونياً على شاكلة المعاهدات الدولية الملزمة للطرفين، يستوجب الأمر أيضاً دراسة التجارب السابقة الفاشلة والناجحة للتعاون الاقتصادي على المستويين الإقليمي والدولي.