وزير التربية ب(النيل الأبيض) يقدم التهنئة لأسرة مدرسة الجديدة بنات وإحراز الطالبة فاطمة نور الدائم 96% ضمن أوائل الشهادة السودانية    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    "قطعة أرض بمدينة دنقلا ومبلغ مالي".. تكريم النابغة إسراء أحمد حيدر الأولى في الشهادة السودانية    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطبقات المترفة والطبقات البائسة (1-2)

للترف تاريخ يضرب في أغوار القدم. ولمظاهره المادية والأدبية آثار عرفها المتقدمون والمتأخرون من سكان هذه الأرض علي اختلاف أقطارهم. وللبؤس كذلك تاريخ تمتد جذوره في ماضي الإنسانية البعيد، ولصوره المادية الكئيبة، معالم عرفها الأسلاف والأخلاف جميعا. وكلا الأمرين من ترف وبؤس تواردا تواردا عاما علي أجيال البشر، لا كما يختلف الليل والنهار اختلافا منتظما، يستوي الأحياء كافة في الانتفاع بضيائه والهدوء في ظلامه. بل هو توارد آخر، جعل ظلام البؤس قسمة لبعض الناس، يعيشون فيه أبدا، ويفقدون فيه أبصارهم إذ أنها لا تري فيه شيئا -. . وجعل شعاع النعمة مشرقا علي بعض آخر، فهم يعيشون فيه أبدا، وهم يعمون فيه كذلك، من طول ما يبهرهم رونقه، ويأخذ أبصارهم تألقه !.
وفي ظهور الترف والبؤس، توجد الطبقات المترفة، والطبقات البائسة، ويولد نظام الطبقات، ويحدث التظالم الاجتماعي والسياسي. وتنشأ معاني السيادة والرق، والقداسة والضعة. وتقرر شتي التقاليد المرتبطة بهذه الأمور ارتباطا يقترب ابن المقفع من وصفه إذ يقول: "إذا افتقر الرجل اتهمه من كان له مؤتمنا، وأساء به الظن من كان يظن به حسنا.
فإذا أذنب غيره ظنوه، وكان للتهمة وسوء الظن موضعا. وليس من خلة هي للغني مدح، إلا وهي للفقير عيب: فان كان شجاعا سمي أهوج، وان كان جوادا سمي مفسدا، وان كان حليما سمي ضعيفا، وان كان وقورا سمي بليدا، وان كان لسنا سمي مهذارا، وان كان صموتا سمي عييا".
سر هذا التقسيم:
وقر في النفوس: أن تفاوت الناس في اقتسام الأرزاق سنة إلهية، وان انقسام الأمم تبعا لذلك إلي طبقات، تتفاضل بحسب ما تملك من متاع الحياة وخيراتها، أمر طبيعي. قصد إليه الدين بل صرح به القرن الكريم، وفي تسويغ ذلك تساق آيات شتي. (وهو الذي جعلكم خلئف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ماءاتكم إن ربك سريع العقاب وانه لغفور رحيم). (والله فضل بعضكم علي بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم علي ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون ). (وقالوا لولا نزل هذا القران علي رجل من القريتين عظيم * أهم يقسمون رحمة ربك، نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون)
ونحن نقول: بأن الدين منذ فجر الخليقة حارب فكرة انقسام الناس إلي طبقات، علي أساس ما تملكون من أنصبة مادية، جليلة أو قليلة. والآيات السابقة لا تخدم الغرض الذي تساق من أجله، ولا يجوز أن يبقي في ظلها نظام الطبقات المعروف بماثمه ومغارمه ومظالمه. فالآية الأولي، إنما تدل علي أن الله استخلف الناس في الأرض ليعمروها وليكدحوا فيها، وفاوت بينهم فيما منح من وسائل الأدبية والمادية التي تعين علي ذلك. والتفاوت في المواهب الإنسانية والجهود الإرادية حقيقة لا ريب فيها. فالناس ليسوا سواء في الذكاء والغباء وليسوا سواء في العمل والكسل. ومن ثم يجب ألا يتساووا في الأجر المادي والأدبي الذي يأخذونه بإزاء طاقتهم وجهدهم. وذلك معني الابتلاء الذي تضمنته الآية والتهديد الذي اختتمت به. إذ أن الله سائل كل امرئ حتما علي قدر ما آته من خصائص، ومنحه من ملكات...
والآية الثانية صريحة في أن التفاضل في الرزق إن جاء من أسبابه المشروعة لا يسوغ أن يكون مثار جشع وحرص، يجعل الفاضل بخيلا به علي المفضول، بل ينبغي أن يرد الممتازون بالمال بعض ما معهم علي من تحت أيديهم، من الخدم والأتباع وغيرهم، شكر الله علي ما ميزهم به من مواهب وسلطان. وأما الضن بالخير علي الفقراء إليه فجريمة لا يقرها دين. وليس في الآية ما ينفي جعل التفاضل في الرزق تابعا للتفاضل في العلم والفن وخدمة الوطن والمجتمع، بل ذلك مفهوم من الآية الأولي ومن غيرها.
وأما الآية الأخيرة فهي تشير إلي أن جسم الأمة كجسم الإنسان، لابد فيه من رأس مدبر، وعقل مفكر، ومن أطراف تسخر للتنفيذ، وأعضاء يستعان بها علي بلوغ الغايات المقصودة. وهذه حقيقة مقررة في كل نظام إنساني، فان الناس لا يصلحون فوضي والمصالح العامة لأية أمة لابد فيها من تنوع الوظائف إلي علمية وعملية، والي مدنية وعسكرية، والي زراعية وصناعية. ومن هذه وتلك يوجد التافه والخطير، والدقيق والجليل. ولكي تصلح الأوضاع يختار لكل وظيفة من يستطيع القيام بأعبائها، ومن ترشحه مواهبه للعمل فيها، وملكات الناس في ذلك متباينة أشد التباين. فهذا مهندس للمصنع يعمل فيه بعقله، وهذا عامل مجرد يشتغل فيه بيده، وهذا يتبع ذاك فيما يشير به، لأن هذا يضع التصميم، وذاك يقوم بالتنفيذ. والخضوع الواجب في مثل هذه الحالات، هو خضوع الجند لأوامر القيادة فليس هو البتة تسخير إذلال وقهر، ولكنه تسخير نظام وعمل. هو ترتيب يشبه ترتيب الإعداد صعودا أو نزولا، فالأول قبل الثاني، والثاني بعد الأول. وأساس هذا الترتيب أو هذا التسخير، هو الكفاية الذاتية وحدها! .
علي أن الملاحظ في البيئات التي يظهر فيها الترف والبؤس، ويوجد فيها نظام الطبقات غير ذلك.
إذ يقوم التفاوت المالي مقام التفاوت العقلي. ويستنكر بروز النابغين من الطبقات الفقيرة، أو توضع العوائق الكثيرة لعرقلة نموهم، وإخماد نارهم. وهذا ما سجلته آية القران الكريم حين حكت الاعتراض علي نزول الوحي في بيت فقير: (وقالوا لولا نزل القران علي رجل من القريتين عظيم...) وحين ردت الأمور الي نصابها، جاعلة التفاوت القلي وحده أساس انقسام الناس إلي حقير أو عظيم ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ). وهكذا تتخير الرحمة العليا محلها الذي تهبط إليه، غير معترفة بالأساس الجائر للتفاوت المادي بين الناس، فهو مقياس باطل لعظمة مزيفة.
ومن ثم تختم الآية بهذا التذييل (ورحمة ربك خير مما يجمعون ).
إن الكلام في "النظام الطبقي" يحتاج إلي مزيد من البيان. فان بعض الناس فوضوي الفكر يحسب أنى كل امرئ من الناس ككل امرئ آخر لا فروق ولا خلافات. ومن الناس من يتصور أن البشر خلق بعضهم ليسود والآخر ليضام.
ولا ريب أن هذه الأخيلة بعيدة عن الصواب الذي يقرره الدين، وعن المنفعة التي تقوم عليها الدنيا. إن المساواة المطلقة خرافة، والتفاوت المفتعل لغير سبب معقول مرفوض من أساسه... الناس سواء في الحقوق العامة، فحق الحياة مثلا لا ريب فيه لكل إنسان ولا يقبل إهداره لعذر مفتعل، فلو أن فيلسوف قتل حمالا لقتل فيه، ولو أن عملاقا قتل طفلة لقتل فيها.. ويمكن إحصاء الحقوق العامة وإقامة الشرائع المحترمة لحمايتها وصد العدوان عليها. لكن هناك حقوقا خاصة لابد من تقريرها ويستحيل قبول المساواة فيها، وهذه الحقوق تتبع التفاوت الطبيعي الموجود في الأشخاص والأشياء !!
إن الحجارة منها ما هو كريم يباع بأغلى الأثمان، ومنها ما هو خسيس يترك مكانه لأنه لا يساوي عناء حمله !
الاختلاف في مواد الأرض صورة للاختلاف بين طبائع البشر ومواهبهم. هناك البليد الذي لا يحس القريب من أنفه.
وهناك الألمعي الذي يظن بك الظن كأنه قد رأي وقد سمعا. وهذا التفاوت قدر أعلي، ويبدو أن الحياة لا تقوم إلا به، وقد تبدو له صور عجيبة، فهذا أخوان شقيقان رزق أحدهما رقة في حباله الصوتية، فإذا هو "فنان" وإذا فنه يورثه الضياع والقصور ورزق الآخر حنجرة عادية، لم تجد عليه قليلا ولا كثيرا، فعاش في غمار الناس، لا سمعة ولا ثروة.
وإذا تركنا ميدان المال إلي ميدان النبوة العالي وجدنا هذا التفاوت بارزا ( تلك الرسل فضلنا بعضهم علي بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات ) إن هذا التفاوت بين الناس حقيقة لا يمكن إنكارها، ولا يمكن لنظام بشري أن يلغيها أو يغض من نتائجها.. وهذا وحده هو المقصود بقول الله ( رفع بعضكم فوق بعض درجات ) ربما كان هذا الرفع بأصل الخلقة، وهو كثير، وربما كان بتوفير الظروف المعينة علي الارتقاء، وهو أيضا كثير..
وهنا نسأل: هل معني رفع الدرجة قرب المنزلة من الله، وكسب اختبار الحياة المفروض علي الناس أجمعين. والجواب السريع هو: لا، إن المواهب الرفيعة تتعرض لتجارب أشق، وامتحانات أصعب، بقدر ما تميزت به من طاقة، والحصيات التي تتحرك علي ظهر الأرض في نطاق محدود غير الكواكب التي تقطع أحواز الفضاء في سرعة لاهثة. وقد فسر القران الكريم هذا الاختلاف في الدرجات بأنه أساس للاختلاف في التكليف والابتلاء، فقال: (ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم ).. وظاهر مما أوضحنا أن "الدرجة" غير "الطبقة". الدرجة صفة نفسية خاصة، أما الطبقة فمجموعة من الناس ادعت لنفسها صفات وحقوقا معينة..
قد تقول من حق المتفوقين من الناس أن يجمعهم عقد خاص بهم، ويتميزون به علي غيرهم !! ونقول: لو حدث ذلك لفرض هذا العقد علي الدنيا نفسه، ولما نهض منطق يرفضه. لكن تصور ذلك يناقض واقع التاريخ، وسير الجماعة البشرية !! ولننظر إلي الأمر بإنصاف وروية .. هل هناك طبقات من الناس جمع بينها الذكاء والإنتاج والتفوق والإقدام وانتظم صفوفها طولا وعرضا ؟؟ وهل نظام الطبقات الذي شقيت به الإنسانية من قبل الطوفان إلي الآن قام علي هذا الأساس ؟؟
إننا نقول بملء أفواهنا: لا..إن للناس عيوبا في هذا المجال يجب أن تذكر، ولنبدأ بأتفه العيوب و أشعيها !!
هل بياض الجلد منقبة تجمع بين أصحابها ؟ هل الانتساب الي ملك ما، أو أحد الأنبياء، أو احدي الأسر ذوات العزة والمنعة، مناقب تعرف لذويها .؟ إن الطبقية في كثير من بقاع الأرض تقوم علي هذا الأساس الخرافي، وتعطي مجموعات من الناس حقوقا خاصة. ! لقد اعترفنا بحقوق الكفاية العظيمة المادية والأدبية، فكيف نعترف بهذا الوهم.. ولكن يبدو أن بعض الناس يسره أن يكسب مجدا بدون جهد، وتقدما بدون تعب، ولا عليه أن يغالي بالنسب العريق والجنس الراقي، فذلك يعود عليه بفوائد ذات بال.!
هل يمكن سوق آيات رفعة الدرجة في هذا المجال ؟ كلا، وسوقها في هذا المجال تحريف للكلم عن مواضعه، وعبث بالوحي الإلهي يدور بين الجهل والكفر.. !! والغريب أن النظر إلي الأنساب و الألوان يعصف بالعقول قديما وحديثا عرفته الجاهلية العربية، وتعرفه المجتمعات الأمريكية والأوروبية سواء بسواء. وربما قام نظام الطبقات علي إبراز بعض الحقائق وإغفال بعض آخر فان قوانين الوراثة قد تنقل الخصائص الرفيعة من الوالد إلي الولد، وقد يمكن إلي جانب ذلك تطويع البيئة لخدمته، ودعم قواه وتنمية ملكاته ! ومن هنا يلد الكبراء كبراء، وينسل العظماء عظماء..
وهذا الكلام تصوير جانبي يصدق ويكذب، فان قوانين الوراثة غامضة النتاج، وهي تنقل الوضاعة والرفعة، كما أن السيطرة علي البيئة قد تميت فسادا، وتحيي فسادا من لون آخر.. وقد استطاع فقراء أن يثبتوا إلي الملك، وجاء في أعقابهم المباشرين من عجز عن البقاء في دسته.. إن تحويل الامتياز الفردي إلي تفوق عنصري واستعلاء طبقي غير صحيح. ونحن مرة أخري نؤكد أن الدرجة غير الطبقية، وأن اختلاف الناس درجات غير انقسامهم طبقات. فالقوانين الطبيعية شئ، والأمراض الاجتماعية شئ آخر..
وتوجد محاولات عنيدة من قديم الزمان لتقسيم الناس طبقات علي أساس شتي، دون نظر إلي القيمة الإنسانية الخاصة، ودون احترام لكفاح آحاد الناس نحو السمو والاكتمال. وبديهي أن تكون الثروة، أو السلطة محاور لهذه الطبقية المتمردة! فتجد من بعض الناس استطالة لا معني لها، واستهانة بالآخرين لا إنصاف فيها، وتجد شعورا عارما بحقوق خاصة، وذهولا عن أي واجب مطلوب، في الوقت الذي يفرض هؤلاء علي الآخرين واجبات لا حصر لها دون مقابل معروف.
وقد عمل الإسلام علي هدم هذه الطبقية وإعلاء القيم الإنسانية وحدها، وأخذ ذلك الهدم مقصودا صورا شتي تلمحها في الأحاديث التي نسوق إليك طرفا منها.. عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله (ص) يا أبا ذر أتري كثرة المال هو الغني! قلت: نعم يا رسول الله. قال: فتري قلة المال هو الفقر ؟ قلت نعم يا رسول الله. قال: إنما الغني غني القلب والفقر فقر القلب.!! ثم سألني عن رجل في قريش قال: هل تعرف فلانا ؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: فكيف تراه ؟ قلت، إذا سأل أعطي، وإذا حضر أدخل !! قال: ثم سألني عن رجل من أهل الصفة فقال: هل تعرف فلانا ؟ قلت: لا والله ما أعرفه يا رسول الله... فما زال يحليه وينعته حتى عرفته، فقلت: قد عرفته يا رسول الله !قال: فكيف تراه ؟ قلت: هو رجل مسكين من أهل الصفة. قال: فهو خير من طلاع الأرض من الآخر ! قلت: يا رسول الله أفلا يعطي من بعض ما أعطي من الآخر ؟ قال إذا أعطي خيرا فهو أهله. وإذا صرف عنه فقد أعطي حسنة.. وعن أبي سعيد الخدري عن النبي (ص) قال: احتجت الجنة والنار أي نوه كل منهما بشأنه وذكر حجته فقالت النار: في الجبارون والمتكبرون وقالت الجنة: في ضعفاء المسلمين ومساكينهم ! فقضي الله بينهما: انك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء ! وانك النار أعذب بك من أشاء ! ولكلكما علي ملؤها. وعن أبي ذر قال لي رسول الله (ص): انظر أرفع رجل في المسجد.. قال: فنظرت فإذا رجل عليه حلة، قلت: هذا.
قال، فانظر أوضع رجل في المسجد ! فنظرت فإذا رجل عليه أخلاق ثياب رثة قلت: هذا.
قال أبو ذر: فقال رسول الله (ص): لهذا عند الله خير يوم القيامة من ملء الأرض مثل هذا.. ! إن تلك الأحاديث ما يصح معناها إلا حيث سقناها فان الإسلام لا يخاصم الغني بل يعده فضل الله علي عباده، ولا يخاصم الجمال والزينة بل يستحبها للناس، ويؤثرهم للمؤمنين خاصة، وإنما يرفض احتقار النفس الإنسانية لطوارئ القلة والقيلة ويرفض انتقاحها لظروف الثراء والسلطان.
وقد تري ناسا من المشتغلين بالعلوم الدينية يرسلون فتاوى منكرة فيما يتراءى لهم من أحوال الناس، فإذا رأوا رجل تمكن من رياسة أو سلطة وسألتهم عن شأنه، هزوا رءوسهم ثم غمغموا: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) ! وهذا استشهاد جهول، وفهم مستنكر، فان الاحتجاج بالمشيئة الإلهية لا يجوز في تسويغ غصب لمنصب، أو سرقة لعمل عام أو خاص. وقد تري هؤلاء يسكتون سكوت القبر لعامل بخس حقه وظلم أجره، وينظرون إلي من أوقع هذا الحيف ثم يقولون ( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ). إن هذا الموقف بالغ الشرر فادح الضرر، جرئ الكذب علي الله ورسوله ! فان الإسلام يستحيل أن يسبغ ظلما أو أن يقبل ضيما. وإذا كان الله قد جعل بعض الحيوان قويا والآخر ضعيفا، فهو لم يجعل ذلك ليعتدي قوي علي ضعيف، وإنما خالف بين أنواع الموجودات لتستقيم الحياة ويصح العمران..
علي أن علماء الإسلام في شتي القرون كانوا أوفياء للحقيقة، أسانيد للعدالة، ولم يحطب منهم في حبال الحكام الفجرة إلا النزر اليسير. وجمهور الأئمة ومن تبعهم بإحسان كانوا مع الجماهير ضد المتسلطين والمعتدين غاية ما يؤخذ عليهم أنهم لم يترجموا تعاليم الإسلام ضد المظالم السياسية والاقتصادية إلي قوانين محددة، ودساتير مضبوطة.. وبعض العلماء المعاصرين من أهل الخير يمشي في هذا الخط، ويتجاهل ما حققته الإنسانية في سيرها العاني من تجارب ومقررات تحقق الخير للناس، وترسي رغبات الدين علي قواعد متينة ! فإذا سألتهم: ماذا يصنع الإسلام لوقف الاستبداد السياسي والميل الاقتصادي ؟ . أجابوا أن أهل الحل والعقد يستطيعون باسمه أن يفعلوا كذا وكذا.. والواقع أن أهل الحل والعقد يمكن أن ينتظموا في سلك الأمور الثلاثة المشهورة، الغول والعنقاء والخل الوفي.! إنهم في واقعنا المديد أمنية حالمين، ويجب أن نستفيد من الدساتير الحديثة التي قلمت أظافر الطغاة، وأتاحت لكتل الشعوب أن تتنفس في هدوء !


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.