كلما استطاعت الحكومة السودانية تجاوز اختبار صعب، سواء أكان سياسيًا أو أمنيًا يتعلق بعلاقاتها المتوترة مع جارتها الجنوبية الوليدة، سعى الغرب، وفي القلب منه الولاياتالمتحدةالأمريكية، لتفجير أزمة جديدة في وجه حكومة الخرطوم، التي ما إن بدأت علاقاته بجوبا تسجل انفراجًا ولو قليلًا وحقق الطرفان اختراقًا مهمًا في قضيتي الحدود والجنسية وتوقيع الطرفين اتفاق الحريات الأربعة بما يسمح لرعايا البلدين بالتمتع بخدمات استثنائية في أرض الآخر بشكل أشاع أجواءً من التفاؤل بإمكانية تجاوز البلدين المأزق الصعب الذي تعاني منه علاقاتهما منذ انفصال الجنوب عن البلد الأم في يناير قبل الماضي حتى وجدنا أزمات جديدة تشتعل في مناطق التماس. "طبول الحرب" ولكن أجواء التفاؤل تبددت فجأة، بل بدأ الطرفان الشمالي والجنوبي دق طبول الحرب، عبر تأكيد الناطق الرسمي باسم الجيش السوداني أن الجنوبيين يحشدون قواتهم في مناطق التماس، مثل جبال النوبة والجبل الأزرق وجنوب كردفان، استعدادًا لشن عدوان على السودان يحظى بدعم ومباركة الغرب، بل زاد على ذلك وجود استعدادات من الحكومة السودانية لدحر هذا العدوان، الذي جاء متزامنًا مع أجواء متوترة تسود العلاقة بين واشنطنوالخرطوم على خلفية تقارير عن مساعٍ أمريكية لتفجير الأوضاع في مجمل أراضي السودان، بدءًا من كادوجلي ومناطق التماس ودارفور وصولًا للخرطوم، بهدف إسقاط النظام السوداني. "دعم أمريكي" بل إن هناك تقارير تذهب إلى وجود دعم أمريكي لانتفاضة شعبية في السودان، على غرار ما حدث في تونس ومصر وليبيا، وهي انتفاضة تراهن عليها واشنطن لإعادة رسم خريطة المنطقة، وتنفيذ خطوة متقدمة لمشروع الشرق الأوسط الكبير على أنغام تفكيك البلدان العربية، والتي بدأت بانفصال جنوب السودان، وقد يستمر بانشقاقات جديدة في الغرب ومناطق التماس بين الشمال والجنوب، خصوصًا أن تفجير التوتر في المنطقة تزامن مع إعلان بعض القبائل في ليبيا تأسيس فيدرالية في ولاية برقة الشرقية، وتأكيدات السيناتورز الأمريكي جون ماكين خلال زياراته لولاية فزان الجنوبية الليبية على تطلع سكان المنطقة وفي مقدمتهم قبائل "التبو" الأفريقية لحكم رشيد ونظام لا مركزي قوي في ليبيا، بعيدًا عن سطوة المركز في طرابلس. "تفتيت ممنهج" المهم أن هذه النزعات الانفصالية جاءت مواكبة لوجود مخطط أمريكي يدعم مقاتلي الجبهة الثورية المكون من جهات مناوئة لحكومة الخرطوم بهدف الاستيلاء على كادوجلي عاصمة جنوب كردفان، واتخاذها رأس حربة لدحر الجيش السوداني في دارفور وتكرار السيناريو الجنوبي في الإقليم بشكل قد يسمح للبجا في الشرق بالسير في نفس الطريق وتحويل السودان إلى دويلات وتعميم التجربة في بلدان المغرب العربي بهدف تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، بشكل يفتح الباب لاجتهادات تذهب إلى أن التهديدات لوحدة السودان لا تتوقف وأن المخاطر على بقاء كيان الدولة في السودان بدت على المحك. واشنطن لا تألوا جهدًا في إشعال التوتر بين الطرفين، فبمجرد التوصل لتسوية القضية ما بين الشمال والجنوب نجد أزمة أخرى على أعتاب الخرطوم، فالتسوية التي حققتها مفاوضات أديس أبابا لم تنجح في كسر حدة التوتر، لاسيما أن قضايا مثل أبيي والنفط والديون لم يتم التوصل لتسوية لها باعتبارها الأكثر حساسية فيما يتعلق بالخلافات بين الطرفين، وهي المشكلات التي كثيرًا ما تفتح الأبواب أمام اتهام كل جهة للأخرى، بدعم المعارضة المسلحة، فالسياسيون في جوبا لا يتركون فرصة لاتهام الخرطوم بدعم الملشيات المسلحة في الجنوب لإشعال الاضطرابات، فيما ترد الخرطوم باتهام حكومة سليفا كير، وهي اتهامات تعمل واشنطن على إشعالها، لكونها توفر لها الفرصة للتدخل في الشأن السوداني. "دعم المعارضة" تزداد المتاعب ضد الحكومة السودانية مع تصاعد الانتقادات من قبل جهات وشخصيات نافذة في المعارضة الشمالية تطالب بتوحيد صفوف السودانيين لتشكيل حكومة توافق وطني تكون بديلًا لحكم المؤتمر الوطني -الذي لم تعرف علاقاته بواشنطن استقرارًا منذ وصول البشير لسدة السلطة في البلاد عام 1989- والتي لا تترك فرصة لدفع المعارضة للتحرك لإثارة المتاعب في وجه الحكومة، بل إنها دفعت المحكمة الجنائية الدولية لتحريك مذكرة توقيف دولية بحق وزير الدفاع السوداني الفريق عبدالرحيم محمد حسن بهدف توظيف الحدث لابتزاز السودان وإجباره على تقديم تنازلات تخدم واشنطن وحلفاءها، مثل قضيتي ابيي ومناطق التماس ونقل النفط سعيًا لإسقاط النظام في النهاية، حتى لو جاء الأمر عبر تدخل عسكري مباشر، بحسب تصريحات لمساعد الرئيس البشير نافع علي نافع. "إضعاف واحتواء" ولكن هناك وجهة نظر مخالفة ترى أن واشنطن لا ترغب في إسقاط النظام السوداني، بل ساعية فقط إلى محاصرته بالضغوط، سعيًا لإضعافه وانتزاع التنازل تلو الآخر منه، انطلاقًا من إدراكها لهشاشة المعارضة السودانية وضعفها، وعدم قدرتها على إسقاطه بسبب انقسامها على نفسها، وافتقادها للمشروع القادر على حشد الشارع السوداني حولها، لذا فعدم وجود البديل القوي يجبر واشنطن على القبول بالنظام السوداني في الحكم، ولكن عبر محاصرته بالضغوط وإضعافه تحسبًا لإسقاطه في توقيت لاحق، من خلال صندوق الاقتراع، مستغلة الأوضاع الاقتصادية المعقدة بعد انفصال الجنوب. "حصار الربيع العربي" وفي المقابل يرى البعض أن غضب واشنطن على النظام في هذا التوقيت تحديدًا لا يرجع لخلافاته مع الجنوبيين على نفقات نقل النفط وابيي بقدر ما يعود لرغبة في محاصرة السودان وثورات الربيع العربي التي أفضت إلى وصول الإسلاميين للسلطة في كل من مصر وتونس، وتصاعد احتمالات تكرار نفس السيناريو في ليبيا، وهي قوى تربطها بالنظام السوداني صلات سياسية وإيديولوجية منذ مدة طويلة، بل إن هذه البلدان وحكامها الإسلاميين قد يشكلون طوق النجاة للسودان للخروج من أزمته الاقتصادية، فيما تدعم الخرطوم هذه القوى سياسيًا عبر مدها بالخبرة التي اكتسبها المؤتمر الوطني طوال مدة وجوده في الحكم، ناهيك عما يستطيع تقديمه لهذه البلدان من إمكانيات في قطاع الزراعة والري توفر لهذه البلاد الفرصة لسد احتياجاتها الغذائية، وفي مقدمتها مصر وليبيا. "عجز وتراجع" لذا تسعى واشنطن لاستمرار النظام محاصرًا ومضغوطًا بأزماته الداخلية وأوضاعه الاقتصادية المتردية، نتيجة حرمانه من حوالي70%من عائداته النفطية، وهي مشكلة قد لا يستطيع السودان تجاوزها خلال السنوات الخمس القادمة على الأقل، في ظل تراجع الدعم الاقتصادي من بلدان الخليج، وهو أمر تزداد مخاطره على الاقتصاد السوداني المتضرر أصلًا بفعل ثورات الربيع العربي وانعكاساتها على ضخ الاستثمارات الأجنبية في بلدان المنطقة، فضلًا عن وقف الجنوب لصادراته النفطية، مما حرم حكومة الخرطوم من مئات الملايين من الدولارات يحتاجها ميزان المدفوعات المثقل بالأعباء والعجز، لذا فحكومة الخرطوم مطالبة كذلك بضرورة التوصل لتسوية سريعة للأزمة الاقتصادية، حتى لا تستخدمها المعارضة ورقة بيديها لإسقاط النظام، وهو أمر لن يصب في صالح السودان، بل سيخدم مصالح دولة الجنوب الوليدة وحلفاءها الغربيين. "تسوية مشرفة" والواقع أن السودان يواجه موقفًا شديد الصعوبة في حالة الانشغال التي تسود البلدان العربية وانكفاء بلدان مثل مصر وليبيا على أوضاعها الداخلية وتركيز المملكة العربية السعودية على الأزمة في سوريا بشكل حرم الخرطوم من دعم إقليمي كان يستطيع خلق نوع من التوازن مع واشنطن ويحد كثيرًا من ضغوطها على حكومة الخرطوم، بل إنها كان يمكنها التدخل لدى إدارة أوباما لإيجاد تسوية مشرفة لقضايا ابيي والديون ومناطق التماس بين الشمال والجنوب، ولكن يبدو أن هذا الغياب قد أقنع واشنطن بالعمل على إضعاف النظام السوداني اقتصاديًا وسياسيًا، والعمل على إسقاطه، حتى بدون استخدام طلقة واحدة، أو بانتفاضة شعبية، أو بفرض إجراء انتخابات حرة ونزيهة قد تنتهي بإسقاطه. من هنا فإن حكومة الخرطوم مطالبة بتبني عدد من الخطوات، أهما: المزواجة بين العمل الدبلوماسي والقوة العسكرية، عبر إيجاد تسوية سريعة لمشاكل ابيي والديون ونقل النفط عبر حلول وسط تضمن استفادة الطرفين من المناطق الغنية بالنفط، أو بتقديم أسعار تفضيلية لنقل نفط الجنوب، باعتبار أن توقف إنتاج النفط من قبل الجنوب والعمل على إيجاد بديل لتصديره عبر جيبوتي أو ميناء مومباسا الكيني، سيضر بالطرفين بشدة، لكونه سيحرم الخرطوم من عائدات سريعة، وسيرفع من تكلفة نقل النفط عبر موانئ خارجية. "زمام المبادرة" أما على الصعيد العسكري فينبغي عدم التهاون مع المتمردين في مناطق التماس، وتبني زمام المبادرة عسكريًا، حتى لا يفتح باب التراخي فرصة لتكرار أزمة دارفور، لاسيما أن الوصول لتسوية مع الحركة الشعبية حول القضايا الخلافية قد يدفعها للتخلي عن الجبهة الثورية، في ظل هيمنة مصالحها مع الخرطوم على اعتبارات أخرى، رغم أن هذه الجبهة لعبت دورًا مهما في انفصال الجنوب.. وإلى أن يتم تسوية المشكلتين دبلوماسيًا عبر الحل الوسط مع الجنوب، أو سياسيًا عبر إقرار خطط اقتصادية لتنمية مناطق التماس المهمشة، وعسكريًا بقطع دابر التمرد، فإن الساحة السودانية تبدو مقبلة على خيارات عديدة، قد يكون من بينها عودة طبول الحرب بين الشمال والجنوب مجددًا. الخرطوم/ الإسلام اليوم