أكد فضيلة الدكتور سلمان بن فهد العودة، الأمين العام المساعد لاتحاد العلماء المسلمين، أنّ الحاجة ل"فقه المآلات" ليست خاصة بالفقيه أو المفتي فحسب وإنما يحتاجها القاضي والحاكم والداعية والمعلم والأب وسائر المكلَّفين، إضافة إلى الجماعات والمؤسسات والدول التي تريد أن ترسم طريقها للمستقبل على أساس تطبيق الشريعة الإسلامية.وقال خلال كلمته عبر (سكايب) في اجتماع مجلس الإفتاء الأوروبي حول " فقه المآلات وأدلته الشرعية " إنّ: حقيقة هذه الدعوة هي رؤية الماضي والحاضر والمستقبل معاً. لافتا إلى أن الإفراط في استحضار الماضي مشكلة كبيرة يعانيها الكثير من المسلمين اليوم الذين يلتفتون إلى الماضي أكثر مما ينظرون إلى المستقبل وأكثر مما يفقهون الواقع والحال التي يعيشونه، مشيرا إلى أن الفقه الحق متصل بفهم الواقع وحسن التوقع الذي ينبغي ألا يُبنى على مجرد العواطف أو الأمنيات وإنما على قراءة المعطيات القائمة الموجودة. دراسة للمستقبل وأوضح د. العودة، أنّ "المآلات" تعني اجتهاد الفقيه أو المجتهد في توقع ما تؤول إليه الأفعال أو الأحكام أو الفتاوى أو المواقف، معتبراً أن فقه المآلات نوع من دراسة المستقبل، والموازنة بين ظاهر الحال وبين النص وبين النتائج المترتبة على الفعل أو المترتبة على الترك. وأوضح أن هذا الفقه يبنى على أكثر من نظر، الأول: على معرفة الواقع القائم وأبعاده وأسبابه ومحاولة توصيفه وتكييفه. والثاني: على معرفة الحكم الأصلي الملائم بميزان الشريعة، والثالث: على النظر الطارئ في مدى مناسبة حكم أو آخر لأن المسألة قد يتنازعها أكثر من حكم لتطبيقه على الواقعة. وأضاف فضيلته، أن "فقه المآلات يمكن أن يوظّف في ابتكار حلول وأسباب وسياسات ونماذج وليس فقط كما يظن البعض في تأجيل حكم من الأحكام الشرعية"، مشيرا إلى أن هناك ثلاثة مراتب تتعلق بالأحكام، الأولى: المستوى الأصلي السالم من المعارضة، مثل مشروعية النكاح حفظاً للجنس البشري كحكم عام وإمضاءً للفطرة أو تحريم السرقة كقطعية من قطعيات الشريعة، والثاني: هو المستوى التبعي بالنظر إلى اعتبار الإضافات والشروط كوجوب النكاح لمن خشي العنت وقدر على النكاح، وكذلك درء الحد عن شخص معين لشبهة عرضت، فهذا مستوى تبعي نُظر فيه إلى عدم توفر الشروط، أما الثالث: فهو المستوى الاستثنائي، وهو الذي يقتضي توقف الحكم أو استبداله بحكم آخر أو استبدال حكم آخر به لعارض طارئ قد يطول أو يقصر، كإبطال الحد عام الرمادة وهذا محل خطورة من حيث أهميته وضرورته، مضيفاً "أن إبطال الحد أو إيقاف تنفيذه هو خاص بالحاجيات المتعلقة بالمجاعة، فلو أن الناس سرقوا شيئاً آخر مما لا يؤكل ؛ ولكن لدافع السرقة المحضة، ما كان عمر -رضي الله عنه- سيوقف عنهم الحد. إقامة الشريعة وأضاف أن "مسألة إقامة الشريعة وإنفاذ أحكامها على الشعوب تقتضي أمراً زائداً على مجرد معرفة الأحكام وعلى مجرد معرفة مفردات الوقائع التي يراد تنزيل الحكم عليها ألا وهو معرفة القدر الذي يلائم الواقع من الشريعة وإمضاؤه ووضع منظومة مدروسة تفضي في نهاية المطاف إلى تطبيق أمثل للشريعة دون مجازفة قد تجهض التجربة نفسها وتجور على أصلها، ودون مماطلة ليس معها خارطة طريق ولو كانت بصفة تقريبية". وبيّن أنه في هذه الحالة "سنكون أقرب إلى البحث عن حلول شرعية لمشكلات الواقع، وكأننا هنا أمام إنسان مبتلى بالإدمان إذا قطع عنه ما يتعاطاه أفضى ذلك إلى هلاكه وإلى عطبه واستبقاء النفوس مطلب، فهل نجيز جرعة متناقصة له حتى يتعافى؟ أم نقطع عنه المادة بالكلية كائنة ما تكون النتيجة؟، على أن هذا المثال هو مثال فردي، والقصة لا تدور على حياة فرد أو موته بل الأمر متصل بنجاح تجربة إسلامية أو فشلها والتي هي جهد بشري". وأوضح هنا أن "العمل الذي نقوم به نحن سواء كان تفكيراً أو كلاماً أو تنظيراً أو ممارسة فقهية أو سياسية هو جهد بشري تقوم عليه فئة من الناس في دائرة متفاوتة الفهم والاحتمال مختلفة التفكير متباينة المشرب وهي أيضاً واقعة ضمن وجود عالمي مترابط اليوم يسهل معه التدخل وافتعال المشكلات وتدبير الأحابيل والألاعيب السياسية على ما لا يخفى"، لافتاً إلى أنه "إذا قصّر الناس في الاجتهاد فهم مؤاخذون وتلحقهم التبعة". برامج مدروسة وقال: "إن التبشير بالمشروع الإسلامي اليوم يجب أن يتحول من شعار عام إلى برامج بديلة ومدروسة في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والإعلام والإدارة والتعليم، مشيراً إلى أنّ كثيرا من الأحزاب والدوائر الإسلامية اليوم أصبح لها حضور ونفوذ، والمشفقون المحبون يتطلعون إلى نضج ونجاح هذه التجربة، بينما الشانئون والشامتون والمعارضون يتطلعون إلى إجهاضها وإلى فشلها". وحذر فضيلته من أنه"إذا كان الإسلاميون يوماً من الأيام يخرجون في الشوارع مشاركين في مسيرات أو احتجاجات فلا نستغرب أن تخرج شعوب يوماً ما في بعض هذه البلاد الإسلامية محتجة على أداء الإسلاميين أنفسهم"، مشددا في هذا الأطار إلى ضرورة أن يكون لدينا وعي كامل بالأولويات التي يجب أن تكون هي محط الاهتمام وإدراك التشابك العميق بين العناصر المختلفة". السياسة الشرعية وأوضح أنّ "مقصد السياسة الشرعية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو تفعيل المجتمع وحفظ وحدته وانسجامه وإقامة العدل وحفظ ضروريات الحياة، إضافةً إلى تنمية وإقامة بناء وتحقيق وفتح آفاق جديدة تواكب الحالة التي تعيشها البشرية". مراتب المآلات وانتقل فضيلته، إلى الحديث حول ما يتعلق بمراتب المآلات،مشيراً إلى أنّ بعض الباحثين ذكروا ثلاث مآلات أو ثلاث مراتب، الأولى: المآلات قطعية التحقق، والثانية: ظنية التحقق، والثالثة: نادرة التحقق، مشيرا إلى أنه رأى أن يُضيف مرتبة رابعة وهي "محتملة التحقق". واعتبر أنها من أكثر المراتب ظهوراً وحضوراً وأشدها إشكالاً، إذ لابد فيها من الترجيح ومعظم القضايا يصعب على الإنسان أن يجزم فيها أو حتى أن يظن ظناً قوياً راجحاً، فيحتاج الأمر إلى مزيد من البحث والدراسة ، وأيضاً الحوار ما بين المختصين في جانب معيّن حول جدية المخاطر وحول التحديات والحاجات والضروريات، بمعنى رسم استراتجيات المستقبل وليس فقط انتظار المشكلات حتى تقع ثم البحث لها عن حلول". أدلة فقه المآلات وحول أدلة اعتبار "المآل" أوضح، أن هناك العديد من الأدلة الشرعية، منها قصة يوسف -عليه الصلاة والسلام- وما فيها من الرؤيا التي اقتضت الإجراء التقشفي الاقتصادي الاستباقي والاستعداد لما يمكن أن يحدث من الجفاف والجدب. وأوضح أن نصوص القرآن الكريم والتي ذكر الله تعالى فيها السنّة: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ)، (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ)، (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ)، (سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ )، توحي بالتوقع المبني على قراءة النواميس والسنن وفقهها. وأضاف أن من ذلك قوله تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) ، وذلك أن سب الأوثان ليس في صلب التوحيد والرسالة، وحتى لا يئول الأمر إلى مفسدة أعظم وهي أن (فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)، إضافةً أيضاً إلى ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- بناء الكعبة على قواعد إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، وتركه -صلى الله عليه وسلم- قتل المنافقين حتى « لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ »، ونهيه - عليه الصلاة والسلام- أصحابه عن زجر الأعرابي الذي بال في المسجد ؛ مراعاة للعواقب على الفاعل نفسه وعلى المكان، إضافة إلى حديث النهي عن التشديد في العبادة لما يئول إليه من الملل والسآمة والانقطاع. وأضاف د. العودة أن من الأدلة أيضا ما يتعلق بباب سد الذرائع وهي المسألة التي يسوقها الأصوليون، وأدلة رفع الحرج في الشريعة وهو ما يعزز فقه المآلات الذي أشار إليه الشاطبي بقوله: "الأدلة الشرعية والاستقراء التام يدل على أن المآلات معتبرة في أصل المشروعية"، وكذلك اجتهادات الخلفاء والأئمة المدوّنة في التراث الفقهي والأصولي والتى تعد بمثابة سند قوي لهذه القاعدة. تدرُّج الأحكام وأضاف أن "ما يعزز أهمية هذه القاعدة في الشريعة أن الأحكام جاءت متدرّجة ولم تنزل دفعة واحدة كما في مسألة تحريم الخمر، ومسألة كف اليد ثم الإذن بالدفاع ثم الأمر بالجهاد، ومسائل معاملة المخالفين كأهل الكتاب والمشركين والمنافقين؛ حيث لم تكن على صفة واحدة بل تفاوتت ما بين مكةوالمدينة، وتفاوتت في المدينة بين أول العهد وآخره مما لا يعد نسخاً للحكم ولكنه تنويع بحسب المتغيرات والمستجدات". وأشار فضيلته إلى أن "الواقع الذي مرت به الفترة النبوية عبر ثلاث وعشرين سنة هو أمر يتكرر في المعهود البشري، والتدرّج مؤذن بأن على الفقيه أو الداعية أن يراعي الاعتبار الذي أراده رب العالمين من تنزيل القرآن منجماً، بما يعني مراعاة الأحوال والمتغيرات بين القوة والضعف والكثرة والقلة والغنى والفقر والاجتماع والتفرق والأمن والخوف والتمكين وغيره". موروث إنساني واعتبر أيضاً أنّ مما يعزز ذلك أن أكثر الأحكام المقصودة هي أحكام كلية عامة تتسع للعديد من النماذج والتطبيقات؛ لأن الأمر فيها غير محدد أو تعبدي محض بل هو متروك للخبرة والمحاولة؛ كمسألة الشورى -مثلاً- وطريقة إمضائها وإنفاذها ومدى الاستجابة من التجربة الإنسانية فيها ومن التطور الإداري في إعمالها" مشيرا إلى أنه ليس من الرشد أن يترك الناس التجارب العالمية الطويلة والعريضة والقوية، وأن نبدأ من نقطة الصفر متجاوزين هذا الموروث والمخزون الإنساني. وقال "إن العديد من هذه الأحكام والتي عادةً ما تكون مرتبطة بالمجالات الحياتية الإنسانية العامة والمصالح تجري على أكثر من وجه؛ فتكون واجبةً تارة، ومستحبةً أخرى، ومكروهة أو محرمة، ولذلك يقول الشاطبي -رحمه الله-: "إنا وجدنا الشارع قاصداً لمصالح العباد والأحكام العبادية تدور معه حيثما دار، فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة فإذا كان في مصلحة جاز". وأوضح أن ذلك بحسب طروء العوارض والملابسات الظرفية، ولا بأس من اعتبار الخلاف الفقهي أيضاً في المسألة وعدّه نوعاً من التخيير فكلها اجتهادات تنبثق من الشريعة ومرجعها الكتاب والسنّة، مشيرا إلى أنه قد يترجح في عصر وظرف ما لم يكن مترجّحاً في غيره".