من أهم عطاءات أدبنا الإسلامي، ومن أغنى روافد إمداده وغناه، وأشده صدقاً وتنوعاً وطرافة، أدب الرحلات.. والتي يأتي في مقدمتها.. الرحلة في العبادة وطلب العلم بما تتضمنه من قطع للفيافي والمجاهل، وخوض للأهوال ومجالدة الجبال، والذي يتساوى في المشقة وبعد الشقة، مع الجهاد في سبيل الله، ولقد اهتم المؤرخون برصد بعضها، حتى حفلت المكتبة الإسلامية برصيد هائل من هذا النوع الأدبي الطريف، الحافل بالعناء الممتع، والشقاء المحبب إلى النفس، حيث لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها.. فإذا كان الحج مشهداً من مشاهد القيامة، فإن الرحلة إلى الحج بمثابة الرحلة إلى الدار الآخرة. وتراوحت طرائف ولطائف هذه الرحلات ما بين أدب المدونات واليوميات وأدب السير والتراجم، والاعتراف والمكاشفة، والإخوانيات والمراسيل، مما جعل منها مستودعاً زاخراً بعلوم النفس والاجتماع والجغرافيا والتاريخ، واللسانيات واللغات والفقه وعلوم الإسلام. وقد وضع الأستاذ الدكتور محمد حجي، أستاذ التاريخ بجامعة الرياض، فهارس مفصلة عن أعلام ومواضيع الكتب التي تناولت هذا الموضوع الشائق وأدبه الصادق، وكان من أهم هذه الرحلات: 1- رحلة ابن بطوطة: وهو محمد بن عبدالله بن محمد اللواتي الطنجي (703 - 779ه)، وقد استغرق في رحلته سبعاً وعشرين سنة - تخللها الحج والعمرة - وفيها دوّن أخبار المشارقة والمغاربة، وإن كانت لا تخلو من مبالغات وقد دوّن ابن حزي الكلبي هذه الرحلة وسماها «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار». 2- رحلة ابن جبير: وهو محمد بن أحمد بن جبير الأندلسي (529 - 607ه) التي دون فيها مشاهداته ويومياته، وقد حظيت هذه الرحلة بعدة معالجات عصرية من أهمها، ما كتبه الشيخ عبدالقدوس الأنصاري عنها في كتابة «مع ابن جبير في رحلته»، وما كتبه الرائد العربي لأدب الأطفال كامل كيلاني للأطفال عن ابن جبير في العصر الحديث. 3- رحلة ابن رشيد: وهو محمد بن عمر بن رشيد الفهري الأندلسي (657-721ه)، وزار فيها الشام والحجاز مروراً بمصر، ووصل المدينةالمنورة، وحج عن طريق الرحلة الشامية، وعاد بطريق أهل الساحل، وسماها باسم طريف، هو «ملء العيبة، بما جمع في طول الشعيبة، في الوجهتين الكريمتين إلى مكة وطيبة»، وهي من أغنى وأجمل وأمتع الرحلات.. غير أنها لم تصل إلينا كاملة. 4- الرحلة الناصرية: وهي رحلة أحمد ابن محمد بن ناصر الدرهي (1057-1129ه)، وهي من أوفى الرحلات إلى بيت الله الحرام وأشملها، وفيها تتبع رحلة شيخه ابن سالم العياش، الذي وصف بأنه شيخ الرحالين.. وتتضمن أربع رحلات إلى البيت العتيق، زاده الله مهابة وتعظيماً وإجلالاً وبراً. 5- الرحلة العياشية: وصاحبها أبو سالم عبدالله بن محمد العياش (1037 -1090ه)، واسمها «مائدة الموالد»، وهي رحلة ضافية بمعالم وفقه ومشاهد الحج والعمرة، والمشاعر والمناسك، وقد أغناها العياش، بالقصص والمباحث والمعالم والملامح الفقهية والأدبية والثقافية، وعبأها باللطائف والطرائف الثقافية النابضة باللماحية والذكاء، وشدة ودقة الملاحظة. 6- رحلة السويدي: وهو أبو بكر عبدالله بن حسين البغدادي (1104 -1174ه)، واسمها «النفحة المسكية في الرحلة المكية»، وغيرها وغيرها من رحلات الصفدية، والقلصادي، والعبدري، والمنالي، والزيادي.. ورحلات الأتراك وأهل خراسان، وأهل الصين واليابان، وإندونيسيا وسيلان وجنوب أفريقيا، ورحلات الأوروبيين والأمريكيين في العصر الحديث.. ومن أمتع وأروع هذه الرحلات، رحلة «في قلب نجد والحجاز» للكاتب الصحفي الأديب محمد شفيق أفندي مصطفى، والتي طبعت بمصر عام (1346 ه - 1927م)، والتي قام بها صاحبها عام 1926م، منطلقاً من القاهرة إلى فلسطين، ثم الأردن ثم الديار السعودية قاطعاً طريقه وسط صحراوات قاحلات، لا زرع فيها ولا ضرع من أول «قريات الملح» حتى العودة إلى الديار المصرية، وقد قام بنشر هذه الرحلة الماتعة في بعض الصحف المصرية آنذاك، وقام الكاتب السعودي عبدالله بن سعد، بتحقيقها وتوثيقها، وإخراجها للنور في 25 شعبان سنة 1404ه. بل إن هناك من الرحلات الطريفة، رحلة السلطان عباس حلمي والي مصر على ظهر الجواد، ورحلات النساء الأديبات المعاصرات كرحلة الدكتورة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ)، ورحلة الدكتورة نعمات أحمد فؤاد، ورحلة الأديب الكاتب أنيس منصور، وغيرهم من أهل الفكر والثقافة والفقه والأدب والتاريخ والكشوف والأسفار.