عيّر الرئيس الأمريكي جورج بوش: روسيا ورئيسها بوتين بأن: الديمقراطية (تنتكس وتتآكل) في الاتحاد الروسي.. حصل ذلك قبيل انعقاد قمة الثماني في ألمانيا التي التقي خلالها الرجلان لقاء ثنائيا قد تمخض عنه: خفض هذه النغمة التعييرية أو كبتها أو احتوائها.. أو.. أو.. أي أن تهمة التعيير بتآكل الديمقراطية لم تكن مقصودة بذاتها، بل إنها لا تصمد في حال التوصل إلى اتفاق ما! وهذا هو جوهر المقال. فجوهر المقال هو: أن (الديمقراطية) تتلون في هذا الزمان، وعلى يد (دعاتها الجدد): بلون مواقفهم وأمزجتهم.. فالشخص أو الدولة (غير الديمقراطية) لا تعيّر أو مسكوت عنها: إذا انسجمت مع هذه المواقف والأمزجة.. مثال ذلك: انه حصل الرضا العميم الحميم (المباغت عن نظام عربي، ليس لأنه أصبح نظاما ديمقراطيا بغتة: بالمقياس الغربي الأمريكي، فما يزال الحال على ما هو عليه. وإنما حصل الرضا الغامر، والمدح المسرف بسبب أن ذلك النظام قد تجاوب مع الأجندة الأمريكية) أو الغربية. والمثل الآخر النقيض هو (رفض الديمقراطية اذا جاءت على غير (هواهم).. يختلف كثير من الناس مع (حماس) الفلسطينية في المبادئ والأهداف والمواقف.. هذا حقهم: فكونها تدافع عن قضية عادلة هي القضية الفلسطينية، فليس ذلك برافعها الى مرتبة القداسة.. بل من الناس من يتمنى ان يغمض عينيه، فيجد ان الأرض قد ابتلعت هذه الحركة: قبل أن يرتد اليه طرفه!.. وهؤلاء أحرار في أن يتمنوا ذلك. فللأماني مساحات لا يكاد يُرى لأفقها نهاية.. ولكن الناس متفقون بمن في ذلك أعداؤها على أنها وصلت الى الحكم ب (طريقة ديمقراطية) عبر انتخابات حرة نزيهة، بيد أن دعاة الديمقراطية على مستوى العالم لم يكونوا (ديمقراطيين) في تقبل نتائج الانتخابات. ومن هنا كان الحصار الخانق.. وكانت حملة الاسقاط. صك مصطلح جديد في ضوء هذا التلاعب بالديمقراطية، وجعلها تتلون بألوان الطيف والامزجة والآيدلوجيات والاجندات السياسية الجاهزة.. في ضوء ذلك، يتوجب (صك مصطلح سياسي جديد)، يستوعب هذه الحالة، ويعبر عنها، دون مبالغة في المضمون والعبارة، حيث ان من طبيعة المصطلحات: ألا تقبل المبالغة ولا التزيد ولا التهويل. والمصطلح السياسي الجديد هو (الاستغلال السياسي لمبدأ الديمقراطية).. بمعنى توظيف هذا المبدأ في خدمة مواقف واتجاهات سياسية: غير صادقة في تبنيها للديمقراطية على مستوى الدعوة والتسويق، حتى وان كانت ملزمة بتطبيقها في بلدانها. ومما يسند هذا المصطلح ويحيطه ببراهين وقرائن معتبرة: موضوعا ومنطقا وشاهدا ومجالا: ان (الاستغلال السياسي للمبادئ) عاهة بشرية سياسية، صاحبت مسيرة الانسان في تاريخه، وتضخمت بوجه خاص في عصرنا هذا. فهناك (الاستغلال السياسي للدين) وهناك (الاستغلال السياسي للقومية). وهناك (الاستغلال السياسي) للاشتراكية. وهناك (الاستغلال السياسي) لحركة (التمدن والتحضر)، وهو استغلال نَحَلَ نفسه صفة (الاستعمار) وهي كلمة حسنة لغويا، إذ انها مشتقة من (العمران) أو التعمير، على حين أن هذا المصطلح كان غطاء لمظالم شنيعة: احتلال الأرض والإدارة ونهب الموارد والاستعلاء على مواطني البلدان المستعمرة. وهناك (الاستغلال السياسي) لمكافحة الارهاب، إذ جُعلت هذه المكافحة: ستارا استراتيجيا وسياسيا لشن حرب فكرية اعلامية على الاسلام والمسلمين. تثبيت مفاهيم لبيان المقصود: ولأجل ضبط الكلم، ووضعه على مواضعه: نثبت المفاهيم التالية: 1 ان نقد (الاستغلال السياسي) للديمقراطية. أ ليس تقليلا قط من (قيمة الحرية)، اذ لا قيمة للإنسان في دين ودنيا بلا حرية.. ومن الاحتفاء الصدوق بالحرية حمايتها من الابتذال والامتهان. ب يتعين علينا: المسارعة إلى قطع فرحة الطغاة بالقول: إن نقد ابتذال الديمقراطية، ليس ترخيصا لهم ب (الاستبداد)، سواء تمثل في فرد حاكم أو حزب، فلا رخصة ولا معايير أبدا لعتاة طغاة حكم الله عليهم بالخيبة المطلقة: "وخاب كل جبار عنيد"، ولا راد لحكم الله فيهم: ما لم يتوبوا ويقلعوا عن الاستبداد. 2 ان نقد الاستغلال السياسي للديمقراطية ليس معناه: تعيير الديمقراطيين بديمقراطيتهم، فالتعيير ها هنا رذيلة يترفع عنها كل ذي عقل وضمير. كذلك: ليس معنى نقد هذا الاستغلال السياسي: إملاء نموذج نظري سياسي معين على الدول الأخرى: أولا: لأن الناس ومنهم الأمريكان : أحرار فيما يختارونه لأنفسهم من نظم وأنماط سياسية واجتماعية. ثانيا: يتوجب النظر إلى التجارب الانسانية المتعددة المتنوعة في هذا الحقل من خلال (حقيقة التعددية الكونية والتشريعية) وهي حقيقة أرستها وأصّلتها آية المائدة: "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة". ثالثا: ان الاقتناع حاصل بأن ما يتوصل إليه العقل الإنساني بنزاهة ورشد وتجرد لمصلحة الانسان انما هو (تراث انساني عام)، ينبغي الاستبشار به، والانتفاع بما فيه، وفتح الذرائع الموصلة اليه: بلا عقد، ولا وسوسة، ولا خوف على ما بين أيدينا من مبادئ وقيم. بيد أن هناك في ميزان العقلاء فرقا كبيرا جدا بين (الاستفادة) المطلوبة و(الاستنساخ) المرفوض.. ومن الاستنساخ مثلا : اقتران الديمقراطية ب (الأحزاب)، بل لا تتصور ديمقراطية بلا أحزاب: وفق المفهوم الغربي للديمقراطية. ومن العيوب الوبيلة في الحزبية والأحزاب: الانتقاص من أو (الغاء الكينونة الفردية) التي هي عماد حياة الانسان الصحيح التكوين، والانتقاص من حرية الرأي، والتأثير السلبي على المصلحة الوطنية العامة، مهما حاولت الاحزاب المتشاكسة التجرد للصالح العام. ف (الشيطان الحزبي) موكل دوما بتقديم مصالح الحزب وأهوائه... ولذا، فإن ارواد الفكر الليبرالي الديمقراطي يرفضون بوضوح وصرامة منطق نظرية (الاستنساخ الديمقراطي). ف (الكسس توكفيل) صاحب كتاب (الديمقراطية في أمريكا) مفكر عريق في هذا المجال، ولا يكاد أحد من رجال الفكر السياسي والدستوري لم يتتملذ أو يطلع على كتابه هذا نظرا لقيمة الكتاب وشموله واسبقيته الزمنية.. ولقد رفض توكفيل نظرية الاستنساخ الديمقراطي رفضا حرا عاقلا صارما فقال: "ان للنظام الديمقراطي أنواعا، يصح لكل شعب ان يختار منها النوع الذي يتفق وتاريخه وتقاليده، وان الدستور الامريكي ليس إلا واحدا من هذه الأنواع. وأنه بالرغم من الفوائد العديدة التي يجنيها الأمريكيون منه، فإن هذه الفوائد يمكن الحصول عليها بنوع آخر من أنواع الدساتير والقوانين الديمقراطية". مما يندرج في هذا المحور: ان من المفاهيم السائدة التي يتعين رجّها رجا شديدا يجردها من هالتها الخرافية: ذلك المفهوم الذي يجعل الديمقراطية (أسطورة مقدسة): فهناك من الناس من يعطي نفسه الحق في نقد (حقائق الدين)، على حين ينتفض غضبا إذا مست الديمقراطية بنقد!.. لكن الراسخين في العلم بالديمقراطية الغربية لا يتبنون هذه القداسة الوهمية.. يقول زبغنيو بريجنسكي: «هل لدى الغرب رؤية ورسالة ونظام من القيم وأسلوب حياة يرشد الجنس البشري المستيقظ سياسيا: الى الطريق نحو المستقبل؟.. إن الديمقراطية يمكن أن تكون هي إسهام الغرب الأساسي، إلا أن الديمقراطية ما هي الا وعاء يجب أن يمتلئ بمحتوى. فالعملية السياسية الديمقراطية، والنظام الدستوري، وسيادة القانون. كل هذه ضمانات لحفظ وتعزيز الحقوق الفردية الشخصية الإنسانية.. ان الديمقراطية لا تستطيع ان تجيب عن كل اشكاليات الوجود الاجتماعي وبخاصة اشكالية وضع تعريف للحياة الصالحة الطيبة. فالثقافة والفلسفة هما اللتان تؤديان هذا الدور، إذ هما معا تولدان القيم التي تحرك وتضوغ السلوك الإنساني». وقد يقال: إن الديمقراطية هي (المفهوم الوحيد المناهض للطغيان).. وهذه مقولة مبنية على حكم مطلق من زاوية، وعلى (احتكار الصواب) من زاوية أخرى.. ان لدى المسلمين كتابا هو القرآن ناهض الطغيان في صوره كافة.. نعم.. فمن المقاصد العظمى لهذا الكتاب: تقبيح الطغيان، والتحريض على التحرر منه: تقبيح الطغيان في صورته المتألهة: «فحشر فنادى. فقال أنا ربكم الأعلى. فأخذه الله نكال الآخرة والأولى».. وتقبيح الطغيان في صورته الإرهابية: «قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا».. وتقبيح الطغيان في صورته الذليلة الخاضعة للاستبداد والتجبر: «وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد. وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة».. وتقبيح الطغيان في صورته (التعذيبية) التي تعذب الناس وتتسلى بعذابهم في السجون أو الاخاديد: «قتل أصحاب الأخدود. النار ذات الوقود. إذ هم عليها قعود. وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود».. وتقبيح الطغيان في صورته المغرورة بالقوة: «فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة». حافزان آخران ولئن حفز على المقال: نقد خطيئة (الاستغلال السياسي للديمقراطية)، فإنه قد حفز عليه كذلك حافزان آخران هما: أ حافز الانتصار ل (الحرية) المرتبطة في صورة من الصور بالديمقراطية، فمن التوقعات غير السارة: أن يؤدي التلاعب بالديمقراطية إلى التأثير السلبي على الحرية: قيمة وممارسة.. وهذا خطر جسيم. فالإنسان ناقص حرية يساوي جلمودا أو بهيمة، لأن الجمادات والبهائم إذا فقدت الحرية بمعنى حرية التفكير والاختيار فإنها تعيش بغرائزها الكونية التي تضمن استمرار وجودها البيولوجي والفسيولوجي.. أما الإنسان فإنه يفقد حقيقة وجوده، ومتعة حياته، ومعنى مكانته: حين يفقد الحرية، اذا لا قيمة حينئذ لوجوده البيولوجي والفسيولوجي. ب الحافز الثاني هو: الدعوة إلى تأليف جبهة أو تيار عالمي يناضل من أجل انقاذ المشتاقين للحرية في العالم: من التغرير بهم وخداعهم باسم شعار الديمقراطية. فكما ان الاستغلال السياسي للدين يشوه حقيقته، فإن الاستغلال السياسي للديمقراطية واتخاذها أداة للضغط والابتزاز واحراج الخصم.. هذا كله من شأنه تشويه الحرية نفسها.. ولذا نعجب أيما عجب من موقف أصدقاء الحرية الذين لا يغارون على الحرية، ولا يستنقذونها من هذا التشويه الضخم! ما معنى ذلك كله؟.. هل معناه: ان تنشط الولاياتالمتحدة في (كبت الحرية) في العالم خدمة لمصالحها؟.. لا.. فما يقول بذلك عاقل غير مجنون.. صاح غير سكران.. مؤمن بالحرية غير كافر بها.. وانما معنى الطرح والسياق والحجاج: ان مصالح الولاياتالمتحدة لا تتحقق باللعب بالقيم والمضاربة بالمبادئ، وانما تتحقق بمقادير عقلانية ونفعية من الاستقرار المتين المبني على الحرية المسؤولة.. والعدالة الاجتماعية والاقتصادية الناجزة، وعلى تنوع الانظمة السياسية والاجتماعية في العالم، في ضوء ذلك.