اعددت ورقة مختصرة بالعنوان عاليه تلبية لدعوة من لجنة السلام والمصالحة الوطنية بالمجلس الوطني السوداني لتقديمها في ورشة عمل حول " دورالقوي السياسية ومنظمات المجتمع المدني في تحقيق السلام والمصالحة الوطنيه في 17/3/2008. يعج تاريخ السودان السياسي بدعوات متكرره للوفاق الوطني ومايعرف ايضاً بالمصالحة الوطنية National reconciliation بدأت دعوات الوفاق الوطني في السودان منذ تكوين مؤتمر الخريجين والجبهة الاستقلالية وكان ابرز مظهر لوفاق وطني عندما توافقت كل القوي السياسيه السودانيه علي اعلان استقلال السودان من داخل البرلمان بالاجماع ؛ اتفق علي ذلك الاعلان دعاة وحدة وادي النيل ودعاة الاستقلال علي السواء ولكن سرعان مادبت الفرقة بين القوي السياسيه وبدأ السودان الدخول في دائرة مفرغة من عدم الاستقرار السياسي؛ تمثلت في تكرار ممل لنظام تعددي أنتخابي يتهم بإقصاء بعض القوي السياسيه ينتهي أجله بحركة عسكرية تقود الي نظام شمولي آحادي ينتهي عمره بثوره شعبية او انتفاضه ( سمها ماتشاء) تقود الي نظام تعددي انتخابي وهكذا تبدأ الدوره التالية من عدم الاستقرار ؛ فلا يستقر السودان علي نظام . فهو تارة نظام برلماني ينتخب فيه البرلمان رئيس الوزراء ويعزله وهو تارة أخري نظام جمهوري . ولا يقضي الله للسودان بدستور فهو تارة دستور انتقالي وتارة أخري دستور دائم لايدوم الا مايدوم النظام ( والجهاز التشريعي) الذي أبتدعه واجازه هو تارة برلماناً وتارة أخري جمعية تأسيسية تؤسس لدستور لا يأتي ابداً وهي تارة أخري مجلساً للشعب أو مجلساً وطنياً كلها محاولات للم الشمل وكلها محاولات لقوي سياسيه تحاول جاهدة ان ترسم المجتمع كما تحب وتهوي مقصية للقوي السياسيه الأخري. ودخلت البلاد في دومات حرب أهليه ؛ ففي الجنوب حرب اهليه لم تضع اواراها الا فترة وجيزة من عمر استقلال السودان لم تتجاوز ال 15 عام من عمر استقلال جاوز الخمسين عاماً وظهرت أمم ودول استقلت بعد سنوات طوال من استغلال السوان ولكنها تمكنت بفضل نعمة الاستقرار السياسي من بناء وطنها. ولم يلتفت السودان لبناء الدوله ولبناء الوطن وللتنمية ، وهيهات ان يتمكن من ذلك دون استقرار سياسي. ولكن كيف الطريق لاستقرار سياسي مع لعبة اقصاء الغير والغاء هوية الآخر؟ وابتدع السودان وادمن مسألة الدعوة الي المصالحة الوطنيه وبالطبع لا مصالحة الا بعد عداء . فالدعوة الي الوفاق الوطني والي المصالحة الوطنية تفشي بوضوح حالة العداء والاقصاء التي تعيشها البلاد. فبدون العدائيات ومحاولات الاقصاء والابعاد للقوي السياسيه الأخري لا تظهر حاجة الي مصالحة وطنيه. فالمجتمعات المتقدمة متصالحة مع نفسها . لاتحتاج ولا تسأل عن وفاق وطني ولا عن مصالحة وطنية ؛ وانظر الي الدول التي تدعو حالياً الي مصالحة وطنية تجدها جميعها دول نامية تطحنها الحروب الاهلية ،وتتسم بمجتمع منقسم علي نفسه يعمل بعضه علي اقصاء البعض الآخر؛ ومن هذه الدول من جيراننا كينيا ويوغندا وشاد والصومال وارتيريا ثم افغانستان وباكستان والعراق وكوبا ودرجت دوله مستقره كأستراليا علي ان تحتفل بالوفاق الوطني مره كل عام في السابع والعشرين من شهر مايو. وتمتليء صحف الخرطوم هذه الايام (مارس 2008) بأخبار كثيره عن جمع الصف الوطني وهيئته. التي طرحت مؤخراً آلية جديده للوفاق الوطني تتضمن ملتقي قومياً بديلاً لاقتراحها السابق بشأن منبر لحكماء يقودون مصالحة وطنية . ويناط بالملتقي القومي التوصل الي توافق قومي حول الثوابت الوطنية . والجدير بالذكر ان المؤتمر القومي للوفاق هو مطلب احزاب المعارضه ولكنه لم ير النور سابقاً نظراً لاعتراض شريكي الحكم المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتخوفهما من استغلال المؤتمر للألتفاف والانقضاض علي اتفاقية السلام الشامل( الصحافه 12 مارس2008) . وسبق هذا التحرك توقيع اتفاقية "مصالحة" بين المؤتمر الوطني وحزب الأمه وجري تصالح وطني بين كل من الاتحادي الديمقراطي والمؤتمر الوطني وكذلك بين الاخير والحزب الشيوعي. وتمكنت الحركة الشعبية من خلق تضامن بينها وبين 12 حزباً وهيئة حول مشروع قانون الانتخابات . ويستطيع الباحث ان يري في كل هذه الحركات محاولات لجمع الصف الوطني والمصالحه الوطنية. ولا بد لنا من وقفة علمية هنا . اي مصالحة وطنية هي نتائج لعداء . وهي غياب لرؤية مشتركه وهي غياب لثوابت ترضاها الامه . في غياب الثوابت والرؤي المشتركه يعمل كل فريق علي إقصاء الآخر وتظهر العدائيات ومحاولة قلع الآخر وتصفيته سياسياً . ثم نستشعر الخطر علي البلاد من جراء العدائيات ونسعي نحو وفاق وطني ونحو مصالحة . ولكن في مسعانا ذلك نخطيء فكل محاولات المصالحة الوطنيه في السودان باءت وستبوء بالفشل، لاننا في الحقيقه لا نعالج الداء الذي ادي للعدائيات ولكننا نحاول ان ندواي العرض. وهنا ممكن الخطأ العلمي . كل محاولات السودان في المصالحة الوطنيه اخفقت وستخفق لأنها فشلت في تعريف قضية السودان وتحليل مشكلته . ركزنا علي عرض مظاهر الاختلاف واغفلنا مصدر الداء والمرض . الطبيب الذي يعالج العرض ومظاهر مرض ولا يلتفت للأسباب الجوهرية للمرض لا يداوي المريض. قد يخفف من الآمه لحين، ولكن المرض باق ؛ وسيظل المرض موجوداً وقد يودي بحياة المريض لان الطبيب فشل في استقصاء سبب الداء وعلاج المرض وركز بدلاً عن ذلك علي اعراض ومظاهر المرض. وهذا بالضبط ماحدث ويحدث في السودان. لم نتوقف لنعرف المشكلة التي ادت للعدائيات التي ادت بدورها لأقصاء الآخر ومحاولة اقتلاعه من جزوره ونحره سياسياً . القضية الاساسية تكمن في فشلنا في تحليل مشكلة السودان . ولكن علم الاداره يسعفنا بآليات لتحليل المشاكل ولتحليل السياسه العامه وتقصي الاسباب الحقيقية للتردي . اعراض المشكلة هي غير مسبباتها . فالاعراض ما هي الا مؤشرات تنبيء بوجود مشكله . الصداع عرض قد يشير الي مرض بسيط أو خطر. الا انه عرض لمرض. فأذا ركزنا علي ازالة العرض بأن نأخذ حبة ( اسبرين) أو ( بنادول) أو أي مخفف او مزيل للألم نكون قد أخفينا العرض ولكن يظل السبب الحقيقي للصداع باقياً دون علاج . وعند التحليل العلمي الهاديء لمشكلة السودان في حاجته الدائمة "لمصالحة وطنيه" نجد ان المشكلة تكمن في ان القوي السياسية التي تتمكن من ادارة الدولة تفشل في التفريق بين دورها كحكومة وبين الدوله. سبب العدائيات التي تقود الي إقصاء الآخرين والي محاولة الآخرين تحطيم الدوله هي استغلال الحكومة لأدوات الدولة دون وجه حق. فشل السودانيون في فهم الاختلاف وفي فهم العلاقه بين الحكومة والدوله . وجاءت حكومات تستغل الدولة لصالحها. ويظهر تمكن الحكومة من أجهزة الدولة واستغلالها لتلك الأجهزة في غير ماحياد في جميع عهود السودان التعددية والشمولية . ففي الديمقراطية الثانية حل الحزب الشيوعي. وكان رأس الدوله قد هدد بأنه سيقود بنفسه المظاهرات التي تدعو الي حل الحزب . وسارعت الجمعية التأسيسية المنتخبة لالغاء عضوية الأعضا المنتمين للحزب الشيوعي؛ وعندما انتصرت المحكمة العليا للحزب الشيوعي وأصدرت قرارها النهائي بعدم دستورية طرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان ؛ ترفض الحكومة تنفيذ قرار المحكمة وتسميه " حكماً تقريرياً" اي غير ملزم للحكومة . والحكومة في ذلك الموقف لا تفرق بين سلطاتها وبين الدوله . ويجيء نميري ويعلن علي الملأ ان اعداء ثورة مايو هم اعداء الشعب . أي أن من لا يكون مع ثورة مايو أو يعارضها وهو قطعاً خائن لشعبه ووطنه . وهكذا جاءت نظم استولت علي الحكم وأعتبرت الدوله بكل مكوناتها ملكاً لها . وهنا مكمن الداء . لم نستطع في السودان ان نضع حداً فاصلاً - كما ينبغي ? بين الحكومة والدوله حتي لا تستغل أجهزة الدولة بوساطة الحكومات. ولكن تنتفي تماماً الحاجه الي مصالحة وطنية اذا مالتزمت الحكومه بحدودها . لأننا في هذه الحالة نلغي سبب العدائيات . طالما رأي المعارضون ان الحكومة لاتؤذيهم ولاتلاحقهم بأجهزة الدوله. يعارض المعارضون الحكومة ويعملون علي اسقاطها فذلك من حقهم ؛ ولكن يعملون مع الحكومة في بناء الدوله . ولا يعمل مواطناً متفق مع الحكومة او معارض لها علي هدم بيته ؛ فيحب جميع السودانيين دولة السودان ووطن السودان ويأملون ويعملون علي رفعته وبقائه متطوراً آمناً ؛ فقط علينا ان ننتبه للفرق بين الدولة والحكومة . المصدر: الصحافة