سكان جنوبي السودان البالغ تعدادهم حوالي الستة ملايين نسمة يدين أغلبهم بالوثنية وتأتي الديانة المسيحية في المرتبة الثانية.. هذا الجزء من السودان ظل في حروبات مع الشمال منذ 1955 قبيل استقلال السودان من التاج البريطاني في 1956م.. في العام 1972م تمت توقيع اتفاقية سلام منح بموجبها الحكم الذاتي لإقليم جنوب ضمن الدولة الموحدة حتى 1983م حين أعلن نظام المقبور نميري تطبيق الشريعة الإسلامية في كل البلاد بما فيها الجنوب الغير مسلم, وسن قانون تشريعي بتقسيم الإقليم الجنوبي الى ثلاث ولايات الأمر الذي أخل باتفاقية السلام الموقعة في أديس ابابا ولجوء الجنوبيون الى التمرد ثانيا.. نشأت حركة التمرد الثانية ذات طابع يساري وتلقت دعما سخيا من المعسكر الشرقي وقتئذ وكان نظام منقستو الماركسي في اثيوبيا الذراع الموصلة والداعمة من المعسكر الشرقي للتمرد الوليد الذي اتخذ من الحركة الشعبية لتحرير السودان اسما له.. وكانت حركة قومية تعني بتغيير نظام الحكم في الخرطوم عن طريق الكفاح المسلح وتأسيس دولة سودانية حديثة, اشتراكية علمانية.. ولم يحظ نظام جعفر نميري الذي كان يدعمه الغرب بأي تأييد له في حربه بعد اعلانه الدولة الدينية في سبتمبر 1983م, بينما نشطت قوي المعارضة في الشمال حتى أطيح بالنظام في ثورة شعبية في أبريل 1985م. وبعد حكومة انتقالية لمدة عام تولت الحكم حكومة منتخبة برئاسة السيد الصادق المهدي ولم تفلح طوال سنيها الثلاث من عقد اتفاقية سلام مع الحركة إلا في أواخر عهدها حيث فوجئت بانقلاب عسكري في يونيو 1989م عطل الإتفاقية التي كان مؤملا توقيعها في سبتمبر 1989م. وتواصلت الحرب واشتد اوارها مع النظام العسكري الجديد الذي حاول حسم التمرد بالقوة. وعند انهيار الإتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي في 1990م تحولت حركة التمرد ناحية الغرب تستجدي الدعم, وكانت للصبغة الإسلاموية التي انتهجها النظام الإتقلابي الأثر في قبول للحركة في الغرب تدريجيا خاصة بعد اصباغ الروح الدينية الجهادية للحرب. وكان للدعم السخي لنظام الخرطوم من ايران, الصين والعراق أثرا بالغا في ترجيح كفة الحرب في بداية التسعينات, إلى أن استطاعت الحركة الشعبية أن تلتقط أنفاسها في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي, الشئ الذي أقنع نظام الخرطوم في فشل المسعى العسكري لحسم الصراع, وبدأت المفاوضات في اوربا, ثم ابوجا بنجيريا, مشاكوس ونيفاشا بكينيا التي أسفرت في آخرها بتوقيع اتفاقية سلام بين الحركة الشعبية في الجنوب وحكومة الخرطوم ممثلة في حزب المؤتمر الوطني, مع استبعاد كافة قوي الحراك الوطني في الشمال والجنوب.. وجاءت الإتفاقية لأول مرة ببند تقرير المصير لشعب جنوب السودان في استفتاء يجرى بعد خمس سنوات من توقيع الإتفاقية, وهي الفترة الإنتقالية التي سيقرر بعدها مواطني جنوب السودان مصيرهم في الوحدة مع الشمال أو الإنفصال. سنوات فترة الإنتقال الخمس كانت هي الفرصة الطيبة لحكومة الخرطوم لإعادة الثقة في المواطن الجنوبي ودفعه حرا للتصويت لصالح الوحدة.. وكان ذلك ممكنا مع تنفيذ مشاريع التنمية وربط الجنوب بالشمال وتغيير الدستور ليكون موحدا لدولة متعددة الأعراق والمعتقدات والإعتراف بالتباين الثقافي والديني, وكل ذلك ما من شأنه اعادة الثقة في المواطن الجنوبي الذي اكتوى بنيران الحروب أكثر من خمسة عقود.. لكن في المقابل كانت حكومة الخرطوم أحادية النظرة, ضيقت الحريات وأخذت تضيق بالرأي الآخر, ولم تعطي التنظيمات السياسية الأخرى الفضاء للمشاركة في أمر يهم كل الوطن.. وانقضت السنوات الخمس ليجد المواطن الجنوبي نفسه مدفوعا بممارسات حكومة الخرطوم الإستعلائية الى خيار الإنفصال.. وكانت هنالك صفقات مع الغرب, مثل رفع النظام من قائمة الدول الراعية للإرهاب ومتطلبات المحكمة الجنائية المطلوب لديها راس النظام وفق جرائم الحرب والإبادة التي مارسها في دارفور.. قبيل التاسع من يناير 2011م وجد المواطن الجنوبي نفسه أمام خيار واحد هو التصويت لصالح الإنفصال.. التصويت لأن يكون مواطنا حرا ذو سيادة ووطن مقابل العيش ذليلا وكمواطن من الدرجة الثانية في وطن واحد.. فصوت الجنوبيون كلهم بكل فئاتهم, طوائفهم ودياناتهم لصالح الإنفصال الذي اعلنت نسبته فوق ال99%. فأمر وشأن الإنفصال هو التفريض في سنوات الإنتقال الخمس ومن ثم الفشل في خلق المناخ المناسب الذي يجعل المواطن الجنوبي يأتي راغبا ويصوت للوحدة, خاصة أن الحركة الشعبية كان توجهها قومي وتأمل في ايجاد التغيير اللازم في البلاد والذي يمكن أن ينقلها لوطن كبير متعدد ومتابين الثقافات والمعتقدات وينعم بالوحدة الحقيقية التي تساوي بين جميع أبناء الوطن بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية, الجهوية والمعتقدية, وفق دستور واحد لكل البلاد, أي السودان الجديد الذي كان ينادي به الراحل دكتور جون قرنق دمبيور رئيس الحركة الشعبية الذي قتل في حادثة غامضة اثر سقوط طائرته في جبال الأماتونج بجنوب السودان في طريق عودته من زيارة لدولة يوغندا بعد ثلاثة أسابيع فقط من عودته للخرطوم اثر توقيع اتفاقية السلام. إن الإنفصال حدث نتيجة لفشل حكومة الخرطوم في أن تجعل الوحدة خيارا جاذبا للمواطن الجنوبي بعد سنوات الإنتقال الخمس وفق الإتفاقية التي وقعتها بنفسها ونأت بها عن مشاركة أي من القوي السياسية الأخرى. الإنفصال شأن داخلي بحت, وكانت كل المعطيات لتجنبه بايدي حكومة الخرطوم. أي بالداخل, وليست هنالك اية ايدي خارجية منعت حكومة الخرطوم من أن تجعل خيار التصويت للوحدة شيئا جاذبا للمواطن الجنوبي سوي السياسات الخرقاء الغير مدروسة التي انتهجتها في التعامل مع الشأن الجنوبي, حيث لم تقم بتغيير الدستور ليسع كل مواطني السودان, ولم تستثمر عائدات النفط في بناء مشاريع تنموية أقلاها شبكة الطرق التي تربط الشطرين, ودعمت بعض الفصائل المناوئة لحكومة الجنوب لزعزعة الإستقرار وهي لا ترى أبعد من وقع الاقدام وأرنبة الأنف. أن القوى الأجنبية وكل من يرى أن له مصلحة في هذا الإنفصال فمن حقه أن يرحب به, ومن حقه أن يفرح به, فقد أتت الفرصة دون جهد.. والمثل يقول: المال السائب يعلم السرقة.... بقلم: عبدالعزيز عيسى أبكر – سنغافورة [email protected]