شاهد.. مقطع فيديو للفريق أول شمس الدين كباشي وهو يرقص مع جنوده ويحمسهم يشعل مواقع التواصل ويتصدر "الترند"    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    شاهد بالفيديو.. لاعبون سودانيون بقطر يغنون للفنانة هدى عربي داخل الملعب ونجم نجوم بحري يستعرض مهاراته الكروية على أنغام أغنيتها الشهيرة (الحب هدأ)    محمد وداعة يكتب: مصر .. لم تحتجز سفينة الاسلحة    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    الدردري: السودان بلدٌ مهمٌ جداً في المنطقة العربية وجزءٌ أساسيٌّ من الأمن الغذائي وسنبقى إلى جانبه    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    مدير المستشفيات بسنار يقف على ترتيبات فتح مركز غسيل الكلى بالدندر    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    لم يقنعني تبرير مراسل العربية أسباب إرتدائه الكدمول    نشطاء قحت والعملاء شذاذ الافاق باعوا دماء وارواح واعراض اهل السودان مقابل الدرهم والدولار    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رفيدة ياسين تكتب..على حافة الموت مغامرات صحفية داخل الاراضي السورية
نشر في السودان اليوم يوم 25 - 11 - 2012

تكتب..على حافة الموت مغامرات صحفية داخل الاراضي السورية (1)
قصص الحرب من قلب الأحداث
على حافة الموت.. مغامرات صحفية داخل الأراضي السورية ! (1)
لباسها الصحفي الواقي من الرصاص لم ينقذها من الموت..!
تقرير: رفيدة ياسين
[email protected]
كانت الرفقة تبدو آمنة، العشرات من رجال الجيش السوري الحر يسيرون وهم يحملون أسلحتهم، مرددين شعارات النصر، فرحاً بالسيطرة على منطقة جديدة، وإذا بالمشهد يتغير فجأة وسط ذهول الجميع، كمين للجيش السوري الحكومي كان كفيلاً بأن يُغيِّر الموقف رأساً على عقب، لم يعلُ صوت فوق صوت طلقات الرصاص حينها، حاول عناصر الجيش الحر الانتشار في أماكن مختلفة للتصدي للكمين، وهرب المصور التليفزيوني جهة اليسار دون تفكير، أما هي فوجدت نفسها وحيدة إلا من أصواتٍ تُنذر بالموت في أية لحظة، فاتجهت يميناً دون أن تدري ماذا يمكن أن يلاقيها هناك.
ظلت تركض وتركض علَّها تجد رفقتها مرة أخرى لكنها أصبحت في مواجهة بنادق لا تخطئ اهدافها، مجموعة من رجال الأسد ظلت تطلق النار عليها حتى سقطت أرضاً، حتى لباسها الصحفي الواقي من الرصاص لم ينقذها من الموت، فهو لا يغطي إلا أعلى الرأس والصدر والظهر، بينما لا تزال الرقبة هدفاً سهلاً لمحترفي القتل، ولاستهدافها يتبع هؤلاء حيلة اطلاق الرصاص على الأرجل أولاً لتعطيل حركة الشخص المستهدف،
كانت هذه قصة صحافية أجنبية لقيت حتفها في مدينة حلب، تابعت القصة وغيرها من القصص حول مقتل 76 صحافياً اثناء تغطيتهم لأحداث الحرب في سوريا، وفق إحصاءات لجنة حرية الإعلام المختصة بمراقبة الانتهاكات ضد الصحفيين والناشطين الإعلاميين هناك، هذا غير 11 صحفياً قيد الاعتقال مصائرهم غير معروفة بحسب منظمة مراسلون بلا حدود، فحتى الإعلام بات هدفا في هذه الأزمة، خاصة وأن أوامر المسؤولين الأمنيين صدرت لكل المقاتلين في نظام الأسد بقتل كل الصحفيين العرب والأجانب في البلاد، باستثناء صحفيي الدول الصديقة كروسيا وإيران والصين طبعاً، هؤلاء يبقون في المناطق التي لا تزال تحت سيطرة الحكومة، وبرفقة ضُباطها لكنهم قد لا يسلمون أيضاً هناك، وخير شاهد على ذلك هو مقتل صحافي إيراني في دمشق قبل ما يقارب الشهرين.
رؤية عن قرب
تراودني رغبة ملِّحة منذ فترة بالذهاب إلى سوريا، ربما لرؤية الحقائق عن قرب، فالتجارب علمتني أن كل التغطيات قد تغفل حقائق مهمة لا يمكن اكتشافها إلا بالوصول إليها، وقد جربت ذلك في تغطية الثورة المصرية وكذلك الليبية، لكن سوريا تبقى تجربة مختلفة تماما.
بينما كنت اُفكر في كل ذلك، استرجعت كل تحذيرات زملائي الذين سبقوني إلى هناك، بعضهم كان يُخيفني عند شعورهم باندفاعي، والبعض الآخر يترك لي معايشة التجربة، لكن القاسم المشترك بيننا جميعاً هو توقعات المتوجه إلى هناك بأنه قد يكون في مسيره إلى طريق اللاعودة....!
فالحرب في سوريا لا تبدو لها نهاية قريبة، نيران مدافعها لا تفرق بين مسكن ومسجد.. طلقات رصاصها لا تأبه لطفل أو كهل أو إمرأة... أي شخص يمكن أن يكون جزءاً من فوضى الموت العبثي في أي لحظة..الموقف على الأرض بلا معادلات أو توقعات... هي المفاجآت وحدها سيدة الموقف!.
مواجهة الموت
صوت المضيفة هو الذي أخرجني من شتات أفكاري، دون أن أدرك ما تقول، لكن القلق الذي بدا على ملامح المسافرين معي إلى اسطنبول نبهني إلى أن شيئاً ما يحدث، فإذا بتحذيرات أخرى تدعو الركاب للهدوء وأن الأمر لن يزيد عن كونه مطبات جوية مرتقبة لسوء الأحوال الجوية، وإذا بأول مطب جوي يُحدثُ حالة من الخوف والهلع لدى الركاب جميعاً، اما لدي فأكون كاذبة إن ذكرت أن الخوف لا يعرف طريقه إلىَّ، لكن كرهي له يجعلني اُعاركه دوما بنيَّة الهزيمة، وما جرى في الطائرة زادني يقيناً بأن الموت لن يكون حتمياً في تغطية حرب، فربما ألاقيه في طائرة أو سيارة أو حتى على سريري، لذا أسخر منه حتى لا يقتلني الخوف منه ألف ألف مرة قبل ملاقاته...!
مرت المطبات الجوية بسلام، ووصلنا إلى مطار اسطنبول بأمان لكنه لم يكن محطتي الأخيرة، فرحلة أخرى تنتظرني إلى بلدة غازي عنتاب التركية القريبة من الحدود التركية السورية، ست ساعات قضيتها بمطار إسطنبول انتظاراً لموعد رحلتي الثانية، لم يبدد ملل الوقت فيها متابعتي للمزيد من ملفات القضية السورية وأخبارها عبر الانترنت، فاستعنت بعدها بكتاب (أماكن في القلب) لعبد الوهاب مطاوع للخروج من حالة الكآبة التي اصابتني بها متابعة هذه الأخبار، فبالأدب وحده نعالج أرواحنا من سأم السياسة وأخبار القتل والدمار التي نقوم بدورنا المهني بتغطيتها كمن يوثق للقتلة أمجاد تاريخهم الملطخ بالدماء.
معادلة صعبة
دور الإعلاميين في تغطية الحروب، قدر اختياري قد يسوقنا إلى حيث لا نتوقع، لا هو موت ولا هو انتحار.. فأول قاعدة نتعلمها قبل البدء بهذا العمل هو أن الخبر لا ينقله إلا أحياء وإن كان وسط برك الدماء، او كما قال لنا من قبل إعلامي بريطاني مخضرم اثناء تدريب على تغطية الأحداث في المناطق الساخنة: "اصنع الأخبار ولا تكن أنت الأخبار"
( Make the news ,but don't be the news)
هي معادلة صعبة، تجعلك تفكر دوماً كيف تنقل ما يجري في حلقة الموت وتخرج بأقل خسائر ممكنة، حالة من المتناقضات لابد أن يعيشها الصحفي في هذه الأجواء القاسية إنسانياً قبل قسوتها المهنية، تفرض عليك ألا تكون جزءاً من الأحداث وإنما تنقلها فقط دون تعاطف، رغم علمك التام بأنه لا حياد بين الحق والباطل، لكن الحكم ليس من حقنا، ما علينا هو النقل وترك الحكم لكم من خلال الصورة والكلمة.
قسوة مهنية تناديك لتوثيق كارثة انسانية دون أن تتدخل في انقاذ أحد حتى لا تصبح طرفاً في القضية ، هو الاحتفاء بتصوير شخص يحتضر من أجل السبق، وانتظار اكتمال انهيار مبنى اسقطه صاروخ عبثي لأحد اطراف الصراع على رؤوس مدنيين عُزَّل تتهافت القنوات أيهما ستقوم ببثه أولاً، رغم أنه كان يمكن أن يسقط في مبنى يقيم فيه مراسلوها ومصوروها، كما حدث مع غيرهم لكن الصدفة وحدها قادت هذا الصاروخ لمبنىً مجاور، لذا اخبرتكم أن الذاهب إلى هناك قد يكون في طريقه إلى اللاعودة، أو عودة مشوبة بمشاهد الفجيعة التي خلَّفت وراءها آلام جروح نفسية لن تشفى بمرور الأيام، وإنما تتبدل بغيرها عبر أحداث أخرى قد تسوقنا إليها أقدار المهنة في محطات تتجدد فيها ذات الجرائم ولكن بوجوه مختلفة لتبقى مجرد أرقام في صفحات الجرائد ونشرات أخبار القنوات!.
على الحدود
حان موعد رحلتي وسط كل هذا الزحام الفكري، ووصلت بعد ساعة ونصف إلى مطار غازي عنتاب البلدة التركية التي تبعد حوالي الساعة عن الحدود مع سوريا.
كانت الساعة تقترب من العاشرة ليلا.. البرد قارس، تُغازل فيه سماء غازي عنتاب طبيعة تركيا الساحرة بإسقاط بَرَدٍ، تتلحف منه حسناوات المدينة بملابس شتوية تغطي أعناقهن، وتكشف عن منتصف الساق، وكأنهن يتحدين البرد بإضفاء مزيد من الأنوثة نصفها متوارية ونصفها مكشوفة تبدو على مظهرهن، وربما يكون هذا الشعور وحده كافياً لهن للشعور بالدفء.
شوارع المدينة تبدو هادئة إلا من حركة المارة المنتظمة، الأولوية للراجلين في الحركة لا السيارات، اما الراغبون في طلب تاكسي فكل الجهد الذي يبذلونه هو الضغط على زر صغير بجوار عمود موجود على مسافة كل 500 متر، فإذا بدقيقتين ويحضر التاكسي، أما الفقراء في هذه البلدة فيجدون محطة مغلقة مزوَّدة بمدفأة في الشتاء ، ينتظرون فيها لحين مرور المواصلات العامة التي تحضر كل ربع ساعة تقريباً ".
هذه المشاهد ذكرتني بالتاكسي في مصر الذي يقف بمزاجه ويأخذ الركاب إلى حيث يريد لا حيث هم يريدون الذهاب، هذا إن وافق على اصطحابهم من الأساس، ولحظة الوصول التي يقول لك فيها "خلي يا بيه خلي يا باشا" وهو يعد نقوده بشهية ويقترب من البصق في وجهك ان لم يجد زيادة في الأجرة "بقشيش يعني"، وذكرني المشهد أيضا ببلدي السودان حيث تقف لانتظار عربة امجاد او ركشة او تاكسي موديل 66 في درجة حرارة تقارب الخمسين ، "ولو ما لقيت وفضلتا ماشي زهجان وعرقان ، ممكن تخبطك عربية لو سرحتا ممتعضاً على حالك ويقولوا غلطان المرحوم(المرقه من بيته أصلا شنو، اصله الشلاقة دي بتقتل صاحبا)...!
لغة الإشارة
لم تكن المرة الأولى التي أزور فيها تركيا، لكنها كانت الأولى لهذه المدينة التي يسكنها حوالي مليونين ونصف نسمة، هي قروية في جمالها وطبيعتها، لكنها حداثوية في خدماتها،
فقط هي المشكلة الأساسية التي واجهتني في كل أنحاء تركيا.. حاجز اللغة التركية التي لا أجيدها، وحاجز اللغة الانجليزية الذي لا يجيده الأتراك ما يجعلك تشعر بأن لغة الإشارة هي الوحيدة التي يمكن أن تجمعك بالأتراك رغم تقدمهم، أو بعض الكلمات العربية المشتركة مثل: "تمام وافندم، وفاتورة وحساب وبابا ولطفا ورجاء وسلام عليكم"،
كلمتا فاتورة وحساب هما فيما يبدو ضمن الكلمات التي لا يخطئها أحد في العالم...!
على أية حال وصلت الفندق، لأنام من طول الرحلة واستعد في اليوم التالي للمهمة التي جئت من أجلها.
ما إن أطلت شمس صباح اليوم التالي في السماء إلا وجدت نفسي مستيقظة بحماس للوصول إلى الحدود، تناولت افطاري الذي وصلني بابتسامة وحفاوة النادلة على عَجَل، وبدأت طريقي مع فريق عمل سكاي نيوز عربية حيث نعمل ووجهتنا جميعاً الحدود، ساعة واحدة تفصلنا عن معبر باب السلامة والذي يعد نقطة حدودية رئيسية تغذي مدينة حلب السورية... وهنا بدأت القصة التي سأرويها في الحلقة القادمة...!
في الحلقة القادمة..!
قصة الطفلة فاطمة.. وحركة نزوح السوريين إلى مخيمات اللجوء!
كيف ماتت اللاجئة السورية في المخيم بعد نجاتها من هول الحرب في بلادها؟!
لماذا أغلقت تركيا المعبر؟.. وما الذي دفع جنود الجيش التركي لاطلاق الرصاص على هؤلاء؟ (.....)!
أحلام ومعاناة أطفال سوريا داخل المخيمات!
قصة رجل سوداني مع اللاجئين على الحدود التركية!
هكذا (...) كانت ستكون نهايتنا مع خنساء ريف حلب...! قصة زواج على وقع طبول الحرب ...!
كيف اتفق معي المهربون..وعلام ساوموني (...)..!
على حافة الموت (2) قصص الحرب من قلب الأحداث
هذه (...) كانت وجهة طلقات رصاص الجيش التركي...!
(...) منعوني من العبور إلى سوريا والسبب جوازي الأخضر....!
رفيدة ياسين
رأيتها تركض وتركض بلا وجهة، تبدو على ملامحها الصغيرة آثار صدمة ما تدفعها للصراخ والبكاء بصوت هزَّ أرجاء المكان المتخم أصلاً بطعم البؤس.
كان المشهد لطفلة سورية لا تتعدى السبعة أعوام، ظلّت على حالتها تلك تبحث عن حضن يحتوي أزمتها، ويحمل عنها كل هذا الألم، لكن مأساتها كانت تتخلص في فقدان هذا الحضن، هكذا علمت من جمعٍ كان على مَقرُبة من باب مخيم كيلِّيس للاجئين السوريين على الحدود التركية السورية، قالوا لي إن الفتاة ماتت أمها الأربعينية مرضاً داخل المخيم ولم تنجح كلُّ المحاولات لإسعافها، إنها سخرية القدر التي فاجأت هذه السيدة بلقاء حتفها داخل مخيّمٍ هربت إليه خوفاً من الموت أثناء الصراع المسلح داخل بلادها، لم تكن وفاة الأم مأساة الطفلة الوحيدة، فقد قّتل والدُها أيضا خلال قصف للطيران الحربي على مدينة حلب قبل نحو شهرين من وفاة أمها، كما قال اللاجئون الذين قدموا معهم إلى المخيم.
الحرب إذن أهدت هذه الطفلة اليتم المبكر..!
لا زلت أذكر لحظة خروج جثمان الأم من المخيم، ونحيب طفلتها الصغيرة وهي تتشبث بنعش أمها المتلحف بالبياض، فيما يحاول آخرون شدّها بعيداً، إلا أنها تأبى وتزيد تمسكاً بالنعش لتقول باكية: "يا إمي خديني معك لا تتركيني وحدي هون".
أسدل وصول سيارة نقل الموتى التركية الستار على هذا المشهد، بينما انطرحت الطفلة أرضاً تواصل بكاءها وصراخها دون أن تعلم أي مصير ينتظرها.
أوضاع اللاجئين السوريين الفارين من هول الحرب في بلادهم تبدو معقّدة، فالنزوح في سوريا ثلاثة أنواع، أسوأها النزوح الداخلي لأنه ليس آمناً بتاتاً وله تفاصيل سأعود لها لاحقاً، أما النوع الثاني فهو النزوح منذ بداية الثورة إلى داخل الأراضي التركية حيث يوجد 13 مخيماً، تضيق بأكثر من 170 ألف لاجئ سوري وصلوا إلى تركيا بطريقة شرعية، وهو أفضل الحلول السيئة حيث يتمتع ببعض الخدمات من مأكل ومشرب ومعونات، غير أن الآلاف تزيد أعدادهم ساعة بعد ساعة تسللوا عبر الحدود ولا يتم تسجيلهم لأن السلطات التركية باتت ترفض استقبال المزيد من اللاجئين لوصول مخيماتها للحد الاستيعابي الأكبر، هؤلاء يبقون في مخيمات مؤقتة في الجانب السوري من الحدود التركية السورية وهذا هو النوع الثالث للنزوح والذي يتمتع بأمن نسبي لكنه بلا خدمات.
هذا عن الفقراء، أما متوسطي الحال فيقومون بتأجير شقق في المدن التركية أو يعيشون لدى أقربائهم المقيمين في تركيا والأردن ولبنان والعراق أي الدول الحدودية، ميسوري الحال بدورهم يقومون بشراء شقق ولا يحملون سوى بعض الهموم على حال الوطن...!
الكثير من اللاجئين السوريين يعانون من نقص في ما يعينهم على احتمال برد الشتاء القارس في هذه المنطقة.. حيث لا ألبسة شتوية ولا أغطية.. ونسبة توفير الخيام متفاوتة حيث أن غالبيتها لا تقي حر الصيف ولا برد الشتاء، مرض اليرقان منتشر بين عشرات الأطفال في عدد من المخيمات، إضافة للالتهابات والإسهال وغيرها من الأمراض، وفي المقابل نقص من الدواء والأطباء، وتبقى شكاوى الدولة التركية بأنها صرفت قرابة 300 مليون دولار على اللاجئين السوريين في أراضيها حتى الآن ما أصبح عبئاً اقتصادياً دفعها لطلب مساعدات خارجية تعينها على إقامة المزيد من المخيمات وتوفير الخدمات.
كانت نقطة وجودنا الرئيسية ومقر انطلاقنا على الحدود من خلال معبر باب السلامة الذي يؤدي إلى حلب، أو معبر كيليس كما يطلق عليه البعض نسبة لمخيم اللاجئين الأكبر في تركيا والذي أصبح اللجوء إليه حلم كل اللاجئين لأنه يعدُ الأفضل وضعاً مقارنة ببقية المخيمات فلا أزمة فيه لمأكل ومشرب أو دواء، وهو المخيم الوحيد الذي يوفر "كرفانات" لإقامة اللاجئين وليس خيام هزيلة كالبقية، كما تقدم السلطات التركية للاجئين المقيمين هناك ما يعادل عشرة دولارات تقريباً في الأسبوع للفرد الواحد، ولكن تبقى حياة السوريين فيه بطعم اللجوء كغيره من مخيمات، استبدل فيها السوريون سقف الخوف بسقف الحاجة في ملاجئ سكنوها لكنهم لم يشعروا فيها يوماً بالسكينة، ليجلسوا فيها انتظاراً لما ستنتهي إليه الحرب في بلادهم، وما تحمله لهم سيارات الإسعاف من أخبار حول أقاربهم في الداخل، فلا تمر ساعة على هذا المعبر وإلا وتمر سيارة إسعاف تحمل جرحى من سوريا اُصيبوا جراء القصف المتواصل على بلداتهم لعلاجهم في مشافي المدن التركية القريبة سواء غازي عنتاب أو كيليس.
وربما هذا ما يخشاه اللاجئون أن يكون أحد هؤلاء الجرحى والمصابين من أهلهم أو جيرانهم، لأن الغالبية منهم يصلون في حالات حرجة ويلقون مصرعهم قبل الوصول حتى إلى المشفى.
بينما كنت أدرس الموقف على الحدود قبل دخولي إلى سوريا، لفت نظري طفل يجلس بين الأشجار القريبة من المخيم يحمل بين يديه دفتراً يكتب فيه، كمن يراجع دروساً اشتاق لمذاكرتها في مدرسته القديمة، ذهبت لأجلس بجانبه، فرحب بي وأهداني ثمرة رمان قال إنه يقطفها من المزارع التركية القريبة ويهرب من رجال الجيش التركي عندما يحاولون منعه، وأكمل أنه يبيع ما يبيعه من هذه الثمار في سوق أقرب مدينة تركية ليساعد أهله بالدخل القليل الذي يحضره (5 ليرات تركية) أي ما يعادل حوالي 3 دولارات.
اسمه إبراهيم لا يزيد عمره عن عشر سنوات، حاولت شراء الرمانة منه لكنه أبى بإصرار رجل شرقي يعول أسرة كاملة قائلاً لي: "أنا عندي مصاري بعدّي هاودي عنِّي، بدك الصحافة تقول مافي رجال في سوريا"، ضحكت من قلبي على ما قاله واستمريت في الحديث معه سائلة عمّا كان يكتب، فقال: "أنا بكتب أناشيد الثورة ودروسي اللي اتعلمتها في مدرستي الريحانية في حلب، ونفسي أرجع للضيعة (البلدة) من شان أدرس في مدرستي وألعب مع رفقاتي، بس مدرستي قصفها بشار وإلى سنتين ما رحت مدرسة بس إن شاء الله الجيش الحر بيهزم بشار ويرجعني لمدرستي ويبنيها من تاني"، كان ما قاله هذا الطفل الذي كبر قبل أوانه كافياً لأعرف ما تخلفته الحروب في نفوس أطفال أصبحوا رغماً عنهم جزءاً من واقعٍ دفعوا فاتورته براءتهم وأمانيهم وربما مستقبلا يبدو مجهولاً أمامهم وإن لم يكن لهم يد في ما يجري حولهم.
الحاصل هنا يدفعني لأسأل لا أدري من، كما سأل تشارلز سمنر أن يعطوني المال الذي تم إنفاقه في كل الحروب وسوف أكسو كل طفل في العالم بملابس الملوك التي يفتخرون بها، فحقاً أسوأ ما في الحرب أنهم يستخدمون أفضل ما لديهم ليقوموا بأسوأ ما يستطيعوا.
النقطة المضيئة الوحيدة هي قصة رجل أعمال سوداني غيرمعروف، حاول الوصول إلى حتى حصل على رقم هاتفي، وسألني عن كيفية الوصول إلى مسؤول عن أموراللاجئين الأكثرحاجة إلى المساعدة، فإذا به يقدم الكثير في وقت قصير طالباً مني الاكتفاء بالقول إنه فاعل خير، وهو بالفعل كان كذلك تركت التواصل بينه وبين آخر لإكمال هذه الترتيبات بعد أن طلب منا التعهد بعدم الكشف عن التفاصيل.
أعادني صوت مزعج لشخص ما من غيبوبة أفكاري، لأجد رجلاً قصير القامة، منتفخ البطن، قال لي بصوت أجَش: "لو بدك تدخلي لجوة انا بساعدك تروحي، وتصوري وين ما كان أنا بشتغل مع الإعلاميين بس تعطيني 200 دولار في الساعة" ومن مصلحتك إني أساعدك أو بتخسري كتيييير، قالها لي بصورة تهديدية، والجشع يطل من عينيه، ومن بطنه التي تبدو منتفخة بخميرة المساومة..لا أدري كيف علم ما يدور برأسي ولا أعلم مصدر قوته...!؟،
لكني أصدق أن الثورة يخطط لها الدهاة... ويصنعها الشجعان... ويدفع ثمنها الشهداء بينما يحصد ثمارها الانتهازيون والجبناء...!
أدركت حينها أنني يجب علي الانتباه جيداً حتى لا أقع فريسةً لتجار الحرب، قبل خطوة التحرك إلى داخل سوريا..يجب الترتيب والتفكير ملياً، فيمكن أن يشي بك أحد مقابل 100 دولار، ويمكن أن تأخذك كتائب وألوية صغيرة بقلة أعداد جنودها ونقص ذخيرتها.. وهي تروي لك ما يغريك لفتح شهيَّتك الصحفية بأخذك حصرياً دون بقية القنوات للخطوط الأمامية لتحقق سبقاً لمعاركهم التي يتوهمون أن عزيمتهم وحدها كافية للنصر على أضعاف أضعاف أعدادهم ممن يملكون سلاح الأرض والسماء، ويكون الهدف من اصطحابك في هذه المهمة الانتحارية هو توثيق أن اللواء فلان الفلاني هو الذي حقق هذا المجد هذا إن عدت أصلاً لتتمكن من نقله، فلدى كل الأطراف هناك من لا يأبه لأمنك أو سلامتك، لذا على الصحفي ألا يثق بأحد أبداً، وألا يعتمد إلا على حدسه فقط، وأن يظلَّ في حالة حركة دائمة، فأمنياً يجعل البقاء في مكان واحد بالحرب من الصحفي هدفاً سهل المنال.
ذكّرت نفسي بكل هذه التفاصيل وغيرها، قبل الاستعداد للدخول، لكن أصوات طلقات الرصاص تبدو قريبة لكنها مجهولة المصدر كادت بل بالفعل غيّرت كل مخططاتي، ذهبت مستفسرة رجال الجيش التركي الذين يتحدثون الإنجليزية بصعوبة بالغة، لكنهم صدّوني، بعدها بقليل تصاعد الدخان في سماء المنطقة، وما أن مرت دقائق معدودة إلا وجاءت تعزيزات أمنية مكثفة انتشرت على طول الحدود، وأصدرت السلطات التركية قراراً بإغلاق المعبر، خطوة كانت مفاجئة ومحيرة....!
زادتني هذه التطورات فضولاً على فضولي فاتصلت ببعض المصادر داخل سوريا في البلدات القريبة من الحدود لمعرفة ما يجري،؟؟ وما الذي دفع تركيا لكل هذا الاستنفار الأمني، حينها فقط تنفست الصعداء بعلمي لما يحدث، فطلقات الرصاص الأولى كان مصدرها فوهات بنادق رجال الأمن التركي لإحباط محاولات تسلل اللاجئين إلى الأراضي التركية بطريقة غير شرعية دون وقوع إصابات، ولم يعدو الأمر كونه إطلاق رصاص في الهواء، أما الدخان والرصاص المتلاحق وسبب إغلاق المعبر كان بسبب اشتباكات بين كتيبتين مسلحتين بالقرب من الحدود بعد خلاف نشب بينهما على غنائم الحرب، ما عطّل حركة الدخول والخروج المعتادة لساعات بعدها انتشرت الأنباء بين الناس بأن تدخلات للتهدئة فلحت في حل الخلاف بينهما.
حلّ المساء، واضطرتني الظروف لتأجيل دخولي إلى اليوم التالي، فالدخول ليلاً يعدُّ انتحاراً لأن الطيران الحربي يستهدف كل التحركات الليلية ولو ظهر منها ضوء الهاتف المحمول فقط....!
جئت صباحاً، وكلّي حماسة للذهاب إلى حلب، وأجريت عدة اتصالات مع المكتب الإعلامي للجيش السوري الحر الذي يساعد الإعلاميين كثيراً على أداء مهامهم.
كنت أعلم قبل وصولي أن تركيا فتحت أبوابها الشرعية لدخول الإعلاميين إلى سوريا، وكفلت لهم حرية الدخول والخروج، فذهبت بكل ثقة عبر البوابة الرئيسية للحدود وأنا أناول جواز سفري الأخضر الزاهي لونه إلى أول ضابط وقفت لديه هناك، ولكن كانت صدمتي التي يبدو أنها لم ولن تكون الأخيرة في هذه الرحلة، في رد الرجل علي باللغة التركية وبحزم ((yok، وهي تعني لا، ولأنني لا أجيد التركية لم أتمكن من فهم سبب هذه اللا، فأخرجت له بطاقتي الإعلامية لسكاي نيوز عربية، إلا أنه أصر على (yok)، فأخرجت له القيد الصحفي السوداني، وبطاقة المراسلين الأجانب، وبطاقة وزارة الإعلام بأبوظبي، ولم يفلح كل ذلك، اندهشت مما يجري، فطلبت الحديث إلى من يتكلم الانجليزية وانتظرت حتى حضر ضابط آخر يتكلمها لكنه لا يجيدها، قلت لنفسي: "أحسن من مافي المهم أفهم في شنو"، فهمت وياليتني لم أفهم السبب الذي هو جنسيتي السودانية التي إذا سمحت بدخولي، فلن تسمح لي بالعودة مرةً أخرى لأن الفيزا لدخول تركيا مرة واحدة ودخول سوريا يعني فيزا الخروج التي سأبقى بعدها في سوريا حتى تنتهي هذه الحرب، هذا طبعاً إن بقيت على قيد الحياة حتى ذلك الوقت.
لم أيأس في الحقيقة وحاولت إقناع الضابط بكل الطرق أن يسمح لي بالمرور، وأخبرته بما يقوله لي أبي عن جد جدي التركي الكان عايش في بربر حتى يتعاطف معي، لكن ذلك لم يشفع لي أيضاً فاليوك عند الاتراك تعني ألف ألف لا أمامها كل متاريس الحياة.
وقفت لحظات للتفكير فيما علي فعله في هذه الحالة وأنا أنظر لزميلي المصور اللبناني الذي تسمح له السلطات التركية كالأردني والأجانب دخول بلادها دون السؤال عن الفيزا أصلاً، وقررت المحاولة مرة أخيرة وأنا أصبر نفسي بكل أمجاد بلادي وأدندن بصوت خافت أنا سوداني أنا، حتى وصلت لضابط رتبته كبيرة، أشدت له بالإنجليزية في البداية عن الدور العظيم الذي تقوم به السلطات التركية تجاه اللاجئين، وعن الحضارة والتاريخ في تركيا حتى بدت بين صفي أسنانه ابتسامة ارتفع بعدها منخاره قليلاً فرحاً بكونه يقوم بتأمين حدود بلاده التي تستعد لكي تصبح ضمن دول الاتحاد الأوروبي في المستقبل، حدثته بعدها عن رغبتي الملحة في العبور إلى سوريا، فسألني عن جوازي،
فكرت في إبلاغه أنني تركته في الفندق الذي أقيم فيه وأعطيه بطاقتي الصحفية، ويا لغبائي الذي أنساني أن بطاقتي فضحت جنسيتي أيضاً، فرد علي بأنني إفريقية ولم يقل سودانية حتى، وأنه للأسف لا يستطيع السماح لي بالدخول لأن ذلك سيخالف القانون، حاولت معه مرة أخيرة فتبدلت ملامحه واكتسبت صرامة كانت كفيلة لإقناعي بأن المزيد سيدمر كل شيء، الحيلة لم تفلح إذن وهو كان على حق لكني لن أسمح لهويَّتي أن تكون حائلاً بيني وبين مهنتي، لم يعد أمامي خيار سوى التسلل هرباً من الحدود إلى هناك، وهو ما قد يعرضني لرصاصة طائشة من فوهات بنادق رجال الأمن التركي لتمنع تسللي إن تم اكتشافه، أو في أفضل الحالات ترحيلي من البلاد مع إرفاق اسمي ضمن قائمة الممنوعين من دخول تركيا إلى الأبد...!
كل هذا لم يكن بشيءٍ يمكن أن يمنعني من إكمال مهمتي التي جئت من أجلها، فقضيت يومي بحثاً عن المهربين، ولهذا قصة كادت أن تعصف بما كان وسيكون سأرويها في الحلقة المقبلة...!
[email protected]
في الحلقة القادمة...!
قصة الوصول إلى داخل سوريا....!
كيف اتفق معي المهربون.. وعلام (....) ساوموني...!
قصة زواج على وقع طبول الحرب...!
السوداني
رفيدة ياسين
[email protected]
البحث عن مهربي البشر لم يكن مهمة صعبة ، فهم كُثر...لكن الأصعب كان بالنسبة لي هو دراسة الموقف جيداً لاختيار أفضل السيئين منهم.
وصلت عن طريق البعض لعدد من محترفي التهريب ، تفاصيل الاتفاق معهم جعلتني أشتم رائحة مؤامرة ما تلوح في الأفق ، حاولت طمأنة نفسي بأن فكرة الهروب وحدها جعلتني مسكونة بالهواجس، أو ربما خوفي من وشاية الرجل الذي ساومني سابقاً إذا ما علم بلجوئي لغيره...!
كانوا عشرة نصفهم أشباه رجال ، والنصف الآخر أنصاف مثقفين ، ولا سبيل لدي سوى الاختيار بينهم ، احسست أن هروبي مع أشباه الرجال لا عودة منه ، ففضلت أنصاف المثقفين لربما وجدت لديهم أخلاق الرجال إذا تعرضنا لمشكلة ما ، حيث يبدو على بعضهم أن الحاجة والبطالة هي التي دفعتهم نحو هذا الطريق.
حرصي على الخروج بأقل الخسائر الممكنة قادني للاستعانة بأحد أبناء حلب لخوض التجربة معي ، فوجود من يعرف مداخل ومخارج المنطقة من المؤكد أنه سيفيد وقت الحاجة في العمل أو للهروب من تداعيات هروبنا الأول.
وافق الرجل. فهو لا يملك ما يخسره...مات كل أفراد عائلته في قصف انهار خلاله بيتهم على رؤوس كل قاطنيه ، بينما قادته الصدفة قبل ذلك بنحو ساعة إلى بلدة حدودية لشراء بعض الاحتياجات لأهله، لكنه لم يجد عند عودته إلا الركام مخضبا بدماء أشلاء الجثث.
كان هو الوحيد الذي يحظى بثقة نسبية لدي، مما لمسته داخله من رغبة عارمة لوصول الإعلام لبلاده لنقل الحقائق، إضافة لإيمانه بالثورة الذي لا يضاهيه فيه أحد، ما دفعني لتفويضه للاتفاق على التفاصيل المادية مع المهربين الثلاثة الذين اخترت رفقتهم إلى جانبه.
تفاصيل الاتفاق
اشترط كل واحد من الثلاثة أخذ 100 دولار قبل التحرك ثم أخذ باقي المبلغ المتفق عليه عند الوصول ، فكان ما طلبوا عند لقاءنا في الصباح قرب الحدود ، وزَّعوا أنفسهم على النحو التالي: الأول سبقنا إلى السلك الشائك لتأمين الطريق ، والثاني رافقنا ، أما الثالث فقد بقي وراءنا لمراقبة الموقف.
انتشار رجال الأمن التركي على طول الحدود قلل احتمالات نجاح المهمة ، وهنا جاء دور المهربين الذين يعلمون مواعيد تبديل الدوريات عند عدة نقاط ، لكن كل التوقعات قد تبوء بالفشل ، ففي هذا اليوم لم يغير الجنود دوريتهم في الميعاد المتعارف عليه، ما دفعنا للانتظار ساعتين، في الجانب التركي من الحدود وكلنا خوف وقلق وترقب، بعدها سرنا مسافة الساعة تقريبا حتى وصلتنا الإشارة للتقدم لنقطة يمكن العبور منها إلى الداخل السوري، اقتربنا من السلك الشائك وكلنا ينظر يمينه ويساره، مر الأول والثاني وجاء دوري دقات قلبي كانت تتسارع وتصبب جسدي عرقا رغم الصقيع، لكني مررت بسلام، وإذا بإشارة ممن يراقب الأجواء خلفنا تصل لمن تبقوا بالإسراع في المرور لاقتراب رجال الجيش التركي من المكان. ركضنا مسرعين حتى تجمعنا مرة أخرى وتوارينا بين الاشجار الموجودة على الجانب السوري من الحدود ، سمعنا أصوات إطلاق نار على مقرُبة منا لا ندري إن كنا المقصودين بها ، أم هو دويُّ المعارك ، فما زلنا في دائرة الخطر .
مصاعب الوصول
بقينا لنصف الساعة دون حركة لا نسمع إلا صوت عناق أغصان الشجر، في وقت يطلق فيه البشر الرصاص على بعضهم البعض على ذات الأرض.!
مضينا بعد ذلك بخطى متسارعة حتى وصلنا لسيارة متهالكة كانت تنتظرنا لتقلنا إلى المكتب الإعلامي للجيش السوري الحر، وهنا كانت نقطة فراقنا عن المهربين الذين فضلنا عدم إعطائهم بقية نقودهم لضمان العودة التي كانت ستعصف بما كان وما سيكون.
الحقيقة ليست كاملة..!
الجيش السوري الحر يعد الطرف الوحيد الذي نصل خلاله إلى قلب الأحداث في سوريا ، ما يدفعنا لمعرفة ما يزيد عن نصف الحقيقة بقليل إن لم يكن الصحفي الذاهب إلى هناك يدرك تفاصيل هذه الأزمة ولا ينقصه سوى المعايشة، حتى بحثه ومتابعته قد لا تعينه إلا على الوصول لثلاثة أرباع الحقيقة فقط ، فلا حقيقة كاملة يمكن رصدها في سوريا ،
ليس كل رجال الجيش السوري الحر بملائكة ، ولا جميعهم يقاتلون من أجل الله والوطن والقضية، لكنهم الجهة الوحيدة التي نتحرك من خلالها، وهو ذات الجهة التي لن تسمح لنا بالطبع من نقل بعض التجاوزات التي وصفها قادته الكبار بأنها مجرد تصرفات فردية بتعذيب أسرى الجيش السوري وتصفيتهم أو المخاطرة بأرواح بعض الصحفيين الذين دفعوا ثمن الكلمة والصورة حياتهم لأن الرفقة لم تكن مؤتمنة..!
كما أن الحكومة السورية تتعامل مع الإعلام بسياسة النعام . تغلق الأبواب أمامهم وتعتم على الحقائق حتى لا تُفضح جرائمها المفضوحة أصلاً ، ليس ذلك فقط بل أصبحت تتعامل مع الإعلام الخارجي كهدف يجب إبادته كمن يصفونهم بالإرهابيين.
لكن ما من خيار سوى المحاولة والسعي وراء الحقيقة بأكبر قدر ممكن ، والاستماع والملاحظة لكل ما يجري بدقة.
إعلام الجيش الحر
وصلنا للمكتب الإعلامي للجيش الحر القريب من بلدة اعزاز بريف حلب لواء عاصفة الشمال. المسؤولون من إعلام هذا اللواء غالبيتهم من الشباب تبدو توجهاتهم إسلامية بعضهم لا يصافح النساء ، وبعضهم يحاول أن يبدو وكانه إسلاميا تقدميا بحرصه على إبداء المرونة والتعاون مع كل وسائل الإعلام حتى تلك التي لا يرضون تغطيتها لأزمتهم.
لم أنتظرهم يبلغونني ماذا علي أن أفعل، أخبرتهم أنني أجريت اتصالات للعمل على عدة موضوعات ونريد الرفقة وقد كان.
خنساء تل رفعت
وجهتي الأولى كانت ريف مدينة حلب حيث سمعت عن امرأة يُطلق عليها أم الثوار أو خنساء بلدة تل رفعت، لأنها تأوي عناصر الجيش الحر في بيتها وتعد لهم الطعام والشراب بعد عناء العودة من القتال.
الطريق اليها استغرق ساعة حتى وصلنا لأطلال تحكي عن مدينة كانت موجودة قبل أن تعصف الحرب بغالبية مبانيها، المحال مغلقة ، ولا أطفال يلعبون في الطرقات كما يشتهون.
وصلنا إلى هناك ، فإذا بامرأة خمسينية جميلة القسمات، محتفظة بابتسامة ترحاب بكل قادم إليها رغم قساوة الظروف من حولها ..اسمها فاطمة الزهراء فتحت بيتها منذ بدء الثورة لرجال الجيش الحر تعمل ليل نهار على خدمتهم، وقد دفعت بأبنائها الخمسة إلى القتال معهم.
ردهة منزلها مكتظة بعدد من المقاتلين تبدو على وجوههم وأجسادهم آثار المعارك ، قالت لي بلهجة حانية : "هادول أولادنا ، هدولا البيحرروا بلادنا من احتلال بشار إلنا ، أنا مستعدة أعملهم ايش ما بدهم بس هما يرضوا عليّ"
ترى أم الثوار فيما تقدمه واجبا تجاه وطنها ، ويعينها على أداء هذا الدور زوجها المتعمعم بعزة شاله البدوي.
أصرت السيدة على مشاركتنا لجمع أبنائها الثوار وجبة الغداء التي أعدت فيها كبيبة شامية وبعض الخضروات ، غير مكتفية بوضع الطعام الذي التف حوله كل الشباب أرضا بل جلست وزوجها إلينا
لمتابعة احتياجاتنا جميعا ..
بطعم الاختلاف..!
بدا كل شيء مختلفا في هذه الجلسة ، رغم بساطتها ..طعم الماء والطعام ، المزاح المتبادل بين الموجودين رغم كل الحاصل ..حتى تغريد عصافير الكناري الموضوعة بعناية قرب النافذة ،
ربما هي فكرة الحرية التي تجمعهم جميعا ، يستمدون منها الشعور بجمال الأشياء رغم مرارة الموقف الذي قد يفاجئهم بأن الجلسة القادمة قد يغيب عنها واحد منهم بلا عودة ، أو كما عاد أحد أبناء خنساء تل رفعت إليها وهو مصاب بطلق ناري عقب إحدى المعارك الضارية.
لم يدم صفو الجلسة طويلا ..فطائرات الجيش السوري ظلت تحلق فوق سماء المنطقة ، مع احتمال قصف المنزل في أي لحظة ونحن داخله ، كنت أعلم أن منزل هذه السيدة سيكون مستهدفا لا محالة ، لكني لم أتمكن من صد كرمها وإصرارها على بقائنا ، وبقيت أزمتنا هي كيفية الخروج من هنا؟
نهاية مرتقبة..!
أرض البلدة كانت تحت سيطرة الجيش السوري الحر ، لكنه لا يملك سماءها.
شعرت أنها ربما تكون نهايتنا جميعا في هذا البيت ، هم أنفسهم قالوا لي إنها ليست المرة الأولى التي حاولت طائرات الحكومة السورية استهداف المنزل ، فقبل أسبوعين من زيارتنا أخطأت قذيفة هاون طريقها من بيت أم الثوار إلى البيوت المجاورة.
يا لهول الموقف الذي تضعك فيه الأقدار لتحسب الدقائق التي قد تلقى فيها حتفك ، كنت في حالة صمت ومراقبة لما ينتظرنا وأغلقت هاتف الثريا الذي كنا نحمله فربما يجعلنا هدفا أسهل ، فيما خرج بعض الشباب على طرف الشارع بعضهم سار يمينا والبعض الآخر اتجه نحو الشمال للتصدي للطائرة بأسلحة خفيفة من المؤكد أنها لن تهزمها لكنها على الأقل ستخلق حالة تشتيت.
اتضح أن الهدف حينها لن يكون عامرا بالكثير من الضحايا.
بقينا في حصار داخل المنزل قرابة الساعة والنصف حتى ابتعدت الطائرة لا أدري كيف انتهت دون خسائر في الأرواح ، أهو الحظ أم أن القدر لا يزال يخبئ لنا فاجعة ما.
زواج بلا احتفال..!
الدهشة سيطرت علي عندما أبلغتني خنساء تل رفعت بأن أحد أبنائها الثوار سيتزوج اليوم، وعرضت علي مرافقتهم إلى بيت العروس لحضور المراسم .
كنت أعلم أن ذهابي مع هذه السيدة قد يجلب لي المزيد من المتاعب ، ولم أكن قد خرجت كليا من تلك الأوقات العصيبة لأجد نفسي غير قادرة على مقاومة رغبتي في معايشة هذه المتناقضات لزواج على وقع طبول الحرب.
اتخذت قرارا وزميلي المصور بتوثيق هذا الحدث ، ليس ذلك فقط بل رافقت العريس عند شرائه لهدية بسيطة لعروسته من صائغ فتح أبوابه خصيصا لهم ، وما أن انتهى من شراء خاتم ذهبي حتى أغلق المحل أبوابه مرة أخرى.
وصلنا إذن إلى بيت العروس الذي لم يكن فيه شيء يعبر عن الفرح ، العروس متلحفة بالسواد، لا زغاريد ، ولا أصوات موسيقى، اللهم جمع للرجال في جلسة بدوية يتوسطهم شيخ الجامع القريب لعقد القران ، المراسم كانت بسيطة وهو ما قصده العريس مصطفى وهو شاب عشريني من عناصر الجيش السوري الحر حيث قال لي : " أنا قلت أتزوج عشان لو لاقيت ربي أكون كملت نص ديني ، لكن كيف أسوي احتفال ونص أهالينا شهداء ما بصير...!؟"
الفرحة كانت تبدو على ملامح والد العروس رغم أجواء الحرب الدائرة في بلاده. سألته كيف تزوج ابنتك لمن قد لا يعود إليها مرة أخرى فرد ودمعة تسيل على خده : "أنا أهديت بنتي للي بيقاتل من أجل حرية بلده وهذا أصدق من غيره واللي بنئتمنه على تراب بلدي بأتمنه على بنتي وأنا مرتاح لأنه لو عاش بيكرمها ولو مات بيشرِّفها لأنها بتكون أرملة شهيد".
مر وقت قليل حتى ألقى الشيخ الخطبة وشرع في إجراءات أعلن بعدها إتمام الزواج ، لترتسم ابتسامة على وجوه الحضور ، واقتصرت مظاهر الفرحة بعدها على تقديم بعض الفواكه للحضور
هي زيجة تؤكد أن الحياة تمضي رغم القتال وإن شابتها بعض الأحزان.
عودة محفوفة بالمخاطر..!
انتهى العرس إذن ، ومالت شمس اليوم نحو الغروب ، ما يعني أن الوقت قد حان لمغادرتنا نحو الحدود مرة أخرى ..أبلغني مرافقي أن الوقت لن يسعفني للوصول قبل مغيب الشمس ، فإذا بصوت أم الثوار تعرض علي المبيت لديها بترحاب ، لم يكن أمامي أي خيار سوى رفض هذا المقترح بلطف ممهور ببعض الاعتذارات والحجج بعد هول ما رأيته في بيتها .
كنت أعرف جيدا أن الحركة ليلا قد تكون خطرة على حياتنا لكن المبيت أشد خطورة ، وقفت أفكر ما بين خيارين أحلاهما مر ، ففضلت العودة ومواجهة الموت المباغت ، عن انتظاره ألف ألف مرة دون أن يغمض لي جفن.
تشبثت بموقفي أمام كل المحاولات لإبقائي ، واقترحت عليهم إطفاء نور السيارة أثناء الحركة طالما هم يعرفون الطريق جيدا ، توجهنا إلى حيث فارقنا المهربون الثلاثة ووجدناهم في انتظارنا ، فلا تزال بقية أموالهم بحوزتنا ، اشترطوا أخذها قبل التحرك فكان ما لهم ، ولم تكن لدي طاقة متبقية للمجادلة.
عدنا عبر طريق آخر سلكناه بسلام حتى أصبحنا على مقربة من السلك الحدودي الشائك، لكن لا سلام يدوم على هذه الأرض، فلم يكن هناك منفذ يسمح بالخروج ويبدو أن السلطات التركية أعادت إصلاح ما أفسده المهربون بتقطيع أوصال الأسلاك الشائكة في بعض النقاط ، ويا لسوء حظنا الذي أوقعنا مع هذه النقطة ، قال آخر: "لا مشكلة. لدينا حل لكنه يستغرق بعض الوقت" ، أخرج ما يشبه "الزردية" وبدأ في تقطيع الأسلاك من جديد ، وبقيت أنا بين الأشجار انتظر مصيرا يبدو مجهولا أمامي وإن كان باختياري .
داعبني رزاز المطر وأنا جالسة ، أتكئ بظهري على إحدى الأشجار، فاستبشرت خيرا.
مر حوالي نصف الساعة لم توقف فيها رزاز المطر ولم يزداد هطولها، حتى جاءتني إشارة التقدم نحوهم ..المساحة التي تمكنوا من فتحها كانت صغيرة يصعب الخروج منها لكنه لا يستحيل ،
قبل الفرار طلب المهربون مبلغا آخر بما يشبه المساومة ، فأعطيتهم إياه.
حاول الشخص الذي يتقدمنا دوما الخروج منها بصعوبة بالغة، بينما لم تكن كافية لمروري بلباسي الصحفي الواقي من الرصاص، فقمت بخلعه ومعاودة العبور مسرعة لكن ملابسي علقت في السلك بما لا يسمح مروري أو عودتي مرة أخرى ولا يمكنني أيضا خلع ملابسي. حاول أحدهم مساعدتي على إخراج بعض الأسلاك التي علقت بملابسي لكن ظهور ضوء بعيد لإحدى سيارات الجيش التركي دفعه ومن معه لتركي وحدي مع مرافقي والاختفاء ...لكن ماذا جرى بعد ذلك .. وكيف عدت ...؟ وما هي قصة إنقاذي من الحدود هي ما أسرده في الحلقة المقبلة لرحلة كانت حقا على حافة الموت.
Dimofinf Player
الحدود السورية التركية - رفيدة ياسين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.