سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الثلاثاء    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الثلاثاء    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    قصة مانيس وحمدوك وما ادراك ما مانيس وتاريخ مانيس    ضياء الدين بلال: الرصاصة الأولى ونظريّة (الطرف الثالث)..!    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    وزير الخارجية يكتب: الإتحاد الأوروبي والحرب في السودان ..تبني السرديات البديلة تشجيع للإرهاب والفوضى    ماذا جرى في مؤتمر باريس بشأن السودان؟    العطا يتفقد القوات المرابطة بالمواقع الأمامية في الفاو والمناقل – شاهد الصور والفيديو    رفع من نسق تحضيراته..المنتخب الوطني يتدرب علي فترتين    استمرار حبس البلوجر هدير عاطف بتهمة النصب على المواطنين    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    حفظ ماء وجه غير مكتمل    ليفربول يسقط في فخ الخسارة أمام كريستال بالاس    خبراء: الهجوم الإيراني نتاج ل«تفاهمات أمريكية».. وجاء مغايرًا لاستراتيجية «طهران»    أحمد موسى: ده مفيش ذبابة ماتت من الصواريخ والمسيرات اللي إيران وجهتها لإسرائيل    إسرائيل تعيد فتح المدارس!    حزب المؤتمر الوطني المحلول: ندعو الشعب السوداني لمزيد من التماسك والوحدة والاصطفاف خلف القوات المسلحة    ضمن معايدة عيد الفطر المبارك مدير شرطة ولاية كسلا يلتقي الوالي    محمد وداعة يكتب: الاخ حسبو ..!    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تدهش وتبهر مذيع قناة العربية الفلسطيني "ليث" بمعلوماتها العامة عن أبرز شعراء مسقط رأسه بمدينة "نابلس" والجمهور يشيد بها ويصفها بالمثقفة والمتمكنة    شاهد بالصورة.. إبن عضو مجلس السيادة رجاء نيكولا يحمل السلاح مدافعاً عن وطنه وجمهور مواقع التواصل يشيد ويعلق: (أبناء الإسلام والمسيحية في خندق واحد لحماية السودان من الجنجويد)    شاهد بالفيديو.. مالك عقار يفجرها داوية: (زمان لمن كنت في الدمازين 2008 قلت ليهم الجنا حميدتي دا أقتلوه.. قالوا لي لالا دا جنا بتاع حكومة.. هسا بقى يقاتل في الحكومة)    أرسنال يرفض هدية ليفربول ويخسر أمام أستون فيلا    بعد راحة العيد...المنتخب الوطني يُعاود تحضيراته أمس    تركيا تنقذ ركاب «تلفريك» علقوا 23 ساعة    تجاوز مع أحد السياح.. إنهاء خدمة أمين شرطة لارتكابه تجاوزات في عمله    بايدن بعد الهجوم الإيراني: أمريكا ملتزمة بأمن إسرائيل.. وساعدنا في إسقاط جميع الطائرات المسيرة    الموعد الأضحى إن كان في العمر بقية،،    إعلام عبري: طائرات أميركية وبريطانية تسقط مسيرات إيرانية فوق الحدود العراقية السورية    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    والي الخرطوم يزور رموز ونجوم المجتمع والتواصل شمل شيخ الامين وقدامى المحاربين والكابتن عادل أمين والمطرب عوض الكريم عبدالله    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    «العازفون الأربعة» في «سيمفونية ليفركوزن»    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    لن تنهار الدولة ولن ينهار الجيش باذن الله تعالى    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    انتحلوا صفة ضباط شرطة.. سرقة أكبر تاجر مخدرات ب دار السلام    "طفرة مواليد".. نساء يبلغن عن "حمل غير متوقع" بعد تناول دواء شهير لإنقاص الوزن    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    الضربة المزدوجة الإنهيار الإقتصادى والمجاعة في السودان!    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دكتور حيدر نخلة علي الجدول
نشر في السودان اليوم يوم 06 - 06 - 2014


بسم الله الرحمن الرحيم
دكتور حيدر نخلة علي الجدول
يُقال(تستطيع الأمة ولادة عالم كل عام، ولكنها تحتاج لمائة عام لميلاد مفكر او مصلح)، إذا صحت هذه العبارة بهذه الصيغة او بغيرها، وإذا إتفق الناس معها او لم يتفقوا، وإذا تطرفت في حق المفكرين والمصلحين وكيفية بروزهم، او قللت من دور العلماء بالمقارنة معهم، او لم تفعل! فالحقيقة التي لأ مراء فيها، أن للمفكرين دورا عظيما، ليس في قيادة الأمة والخروج بها الي بر الأمان من شر أزماتها فقط، ولكن بصورة أكبر في بناءها وأعادة تكوينها بطريقة ناضجة، بل ومنحها كينونتها وشخصيتها المميزة. أي هم من يشغل عقلها النابض بالحياة، إضافة الي أنهم يحملون إرهاصات المستقبل، او يستلفون من المستقبل ما يساعد علي دفع عجلة الحاضر الكسيح! بمعني أنهم من يستشف قادم الأيام، بناءً علي مؤشرات محددة، تتفاعل مع بصيرتهم الصاحية علي الدوام، او في أوج لحظات عطاءهم. وبكلمة واحدة المفكر يتقدم علي أمته وعلي عصره. وما البحبوحة وفسحة العيش وهناء الحال وراحة البال، التي تنعم بها المجتمعات الغربية الآن، بوصفها تملك قياد اللحظة الحضارية الراهنة، او الأنموذج الذي يتطلع إليه الجميع بوعي او دون وعي! إلا إنعكاس لفضل أولئك المفكرون وقادة عصر النهضة والتنوير. في حين نجد العالِم يعتمد في بروزه او نبوغه علي إتباع منهجية محددة، أي المنهجية العلمية. أما المفكرون فهم من يضع الأسس والقواعد لهذه المناهج، أي يخترعونها ويمكن للآخرين أن يطورونها! وتاليا هم الأقدر علي تجاوزها ليس بالشطحات والخيال والعرفان، ولكن من أفق أكثر منطقية وإنضباط أيضا! أي عبر العقل المبدع وغير المقيد بشروط خارجة عنه! وبتعبير آخر، هم الأقدر علي تفحص حقائق الحياة والقضايا، وإستخلاص الحلول والمقاربات، بطريقة مبدعة وخلاقة وعبر أقصر و أوضح طرق. اي إمتلكوا المواهب والقدرات العقلية والنفسية ذات النفاذية، والتي تمنكنهم لاحقا من تجاوز المظاهر العادية سواء للحياة او القضايا، ومن ثم الوصول الي الجوهر او غير المألوف! وكأن هنالك قوة جذب مغنطيسية، بينهم وبين الحقائق المجردة، ليلتقطوها من بين الركام والثرثرة الفارغة، او كأنهم ينجروفون دون مقاومة لتيار الحقيقة الكاسح! أي يتواجدون حيث الحقائق، ويستعص عليهم البقاء خارجها! وقد يكون في هذا أحد أسباب شقاءهم او الحرب القذرة التي تشن عليهم، تشويها لشخصياتهم وتسفيها لمجهوداتهم. وهذا ناهيك عن عدم توفير المعينات التي تساعدهم علي القيام بدورهم وعلي رأسها الحرية! والسبب مخالفتهم للمألوف والخطأ، والمصالح الخاصة، التي تستتبع بقاء الأحوال علي حالها، أي لصالح بعض الأفراد او الجماعات وغالبا من غير وجه حق! ولولا تَميُّز أغلبهم بالصلابة في المواقف والإيمان بأفكارهم، لظلت البشرية حتي الآن ترزح تحت نير، قبضة التخلف ولغة العنف وسيادة شرعة الغاب. بهذا المعني، تصبح من عوامل تخلف مجتمعاتنا ومنطقتنا بصفة عامة! هي النقص في وجود هؤلاء المفكرين وصلابة مواقفهم، او بسبب التضييق والحرب المعلنة والخفية، التي تمارس ضد القلة القليلة منهم، والتي أنعم الرب بها علي هذه المجتمعات الضائعة. لتعمل كمفاتيح لفتح أبواب الإنغلاقات الثقافية والإجتماعية والفكرية والسياسية..الخ، والتي تعاني منها هذه المجتمعات عناءً مزمنا، أي بإعتبارهم القنوات التي تعبر بها المجتمعات الي شروط حياة أفضل. بتعبير آخر، أنه وبقدر حجم الإساءة او التطاول علي هذه الرموز، والإزدراء او الإستهانة بمنتوجاتها الفكرية، يكون حجم التخلف والتأخر وصعوبة الخلاص والإنطلاق قدما! ومؤكد أن هذا التجاهل او الإهانة للرموز الفكرية، لأ ينفصل عن بيئة عامة، مُعادية للتميُّز والوضوح والصدق مع النفس والمجتمع! أي كارهة للعلاج والتنظيم والإنضباط!
والدكتور حيدر إبراهيم علي، يمثل واحد من أبرز وأهم رموزنا الفكرية في عصرنا الحديث، وما يدعو للغرابة، كيف فلت من شروط مجتمعية وسياسية معادية للفكر وطاردة للمفكرين، أي مجتمعات مسكونة بالتقليد والمحافظة، والتهجس من النقاش الحر والتجديد، وكراهة المخالفة والتغيير! وهذا ليس مدحا نابعا من محبة صادقة تجاهه وأفكاره، وهي محبة أعتقد أنها مستحقة ، إن لم تكن دينا يطوق أعناقنا، ولكنها بالطبع ليست حكما او معيارا لفكرية الدكتور حيدر، بل الأمر كله لأ يتعدي تقرير الحال لأ أكثر و لأ أقل. فدكتور حيدر لديه إستعداد فطري للتفكير والإنخراط في الفكر والإنغماس في مادته وقضاياه وإشكالاته. ومنبع هذا الإستعداد الفطري هو الشك والتساؤل وعشق الحرية في معناها الشامل، ومعلوم أنه لأ فكر من دون حرية وبما فيها حرية الضمير. وكذلك تمثُلهُ الأفكار وإنعكاس ذلك علي الأقوال والمواقف، أي سعي هذه الروح الفكرية علي الأرض. بمعني إشتباكها مع قضايا الراهن وأسئلته المُلحة، وعدم الهروب الي خلق قضايا فكرية إنصرافية، تهوِّم في سماء النخبوية المتعالية المنغلقة علي ذاتها، ومعزولة عن أوجاع الجماهير! وهذا ما لأ يحتاج الي دليل لكل ذي عينين، او نفس مجردة من الهوي والمواقف المسبقة، والغرض المبيت الذي ينتظر تعكر المياه! بمعني إن ذلك يظهر ليس في مواده المنشورة علي صفحات الصحف، كالدرر التي تزين جيدها، او من خلال كتبه الجادة، التي تعالج قضايا شائكة وضاغطة وذات أثر علي الحاضر والمستقبل، يخاف الكثيرون من التورط فيها او مجرد الإقتراب منها، خوفا من السطلة او الجمهور! ولكن يظهر ذلك بالتحديد في تخطيطه وإنشائه، لمركز الدراسات السودانية في مصر، ومن ثم إنتقاله الي السودان. بمعني نزوله من سماء التنظير وتقديم النصائح الباردة، الي الفعل المادي علي أرض الواقع. أي بتنفيذ مشروع التغيير علي الأرض، غصبا عن كل المعيقات، سواء أكانت مادية او معنوية او أمنية! وهو مركز يعني أساسا بقضايا الفكر والسياسة والثقافة والأدب والمجتمع. ولكن من أفق أكثر حداثة وعقلانية ورحابة صدر وقبلها إنفتاح عقل، وميل أو إنحياز تام للمفهوم الديمقراطي في أقصي أبعاده. أي المركز يشكل بؤرة لتبني ونشر الحداثة، والتبشير بمستقبل أكثر تحرر وقابلية للنهوض، وتتطلع للإبتكار والتواصل الإنساني الحميم. ومن خلال هذا المركز ظهرت الكثير من العناوين، التي ترفد المجالات المذكورة سابقا، بمنتجات ذات مضامين فكرية ووطنية وإنسانية. لتحريك جمود الساحة من جهة، ولإحداث إختراق حقيقي في جبهة المشافهة، وهدرها لكنوز وتجارب قيمة، وهذا من جانب آخر. وكله من أجل الخطو بالمجتمع خطوة الي الأمام. أي الإهتمام بالتوثيق والكتابة والدراسات كأحد متلازمات الحضارة والتقدم، وإنعكاس لأرتفاع مستوي الوعي والرغبة في النهوض. والمركز في مسعاه لم ينظر لشخص الكاتب او عمره او تنظيمه، أي همه ليس الناحية الربحية او المكاسب السياسية الضيقة، ولكن ما يحرك سياسة المركز هي الناحية القيمية. أي المركز يحمل رسالة جديدة قوامها المعرفة والجدية والبحث عن الحقيقة وتنوير المجتمع، وليس مجاملته او خداعه او التكسب من عاطفته والمتاجرة بطموحه وأحلامه! وقد إستفاد من المركز، كثير من الأصوات والوجوه الشابة، التي منحها الفرصة والحضور(الكتبي) لو جاز التعبير، أي الحضور من خلال إصداراتهم الخاصة التي تحمل أفكارهم وأسماءهم، وما يمثله ذلك من دفعة معنوية وثقة بالنفس لأ تقدر بثمن. وأثبتت الأيام صدق سياسة المركز وقراءته سواء للأشخاص او الأفكار. ومعلوم سلفا أن رعاية المواهب الشابة، ناحية تعاني من قصور بنيوي فادح، ليس علي مستوي الكتابة او الصحافة فقط، ولكنها حالة او ظاهرة او تيار يطال كل المجالات والتخصصات! بسبب أحكام السوق من جانب، او خوفا من المجازفة والتورط مع أعمال او تجارب تسبب لقادتها إحراج، أي كراهة المغامرة! بمعني إن الدكتور حيدر غير النظرة الفاحصة للأشخاص والأفكار، فهو يحمل روح المستقبل وهم القادم. بمعني أنه تخلص من الرواسب الأبوية القاتلة، كالنفس الإحتكاري وروح الوصاية، التي تسيطر علي السابقين والكبار في كل مجال، وكأنهم خُلقوا هكذا ولم يستفيدوا من فرص أُتيحت لهم! وهذه أيضا أحد علامات المفكر الحر، الذي يمثله دكتور حيدر بكل إقتدار. أي الحياة له ولغيره، او كل ما يدعم شرط تحسين الحياة فهو يخدمه. لأن المفكر الحر همومه سامية ومتجاوزة للذات، أو ذات المفكر ذات جامعة يجتمع عندها الجميع، وأيضا يؤرقها هم الجميع!
وبالعودة الي أسباب أهلية الدكتور حيدر لنيل لقب مفكر الوطني بكل إقتدار، علما بأن هذه المسميات والألقاب لأ تشكل لديه هاجس او قيمة معنوية، بسبب تكريس همه وفكره وزمنه للبحث عن الحقيقة لأ غير. ولكن مقصد اللقب هو نوع من تقاسم الأدوار كغاية تنظيمية وإرجاع الحقوق لأصحابها فقط. المهم، من أهم موارد قدراته الفكرية، هو تنوع معارفه وسعة إطلاعه، أي مصادره المعرفية غزيرة، تتمثل في إطلاعه علي التراث بالتوازي مع تبحره في العلوم الحديثة، وإتقانه لأكثر من لغة. ومن دون أن يشكل له ذلك، أي نوع من التناقض او الإرتباك، بل العكس هو الصحيح، أي إستعداده المسبق للقيام بأعباء فكرية، لمصلحة وطنية وإنسانية والحقيقة بصفة عامة، جعله يوظف كل معارفه، وبغض النظر عن مصادرها، لغاية البحث عن الحقيقة، او تفسير الظواهر والأحداث، وحل الإشكالات والعقد التي يعاني منها مجتمعه المحلي علي سبيل الخصوص. أي يملك قدرة فذة علي المواءمة بين المسؤولية والحقيقة والوطن، بطريقة متناغمة غايتها المصلحة العامة. وكذلك مدار همومه الفكرية وفرت له، مصادقة ومعرفة الكثير من المفكرين، خصوصا في مُحيطنا الإقليمي العربي. وهو الشئ الذي طور حاسته الفكرية وشحذ همته النقدية، وأفاده كثيرا في مشروعه الفكري الوطني التحرري. وهو ما لأ ينفصل عن مشروع أولئك المفكرين، بحكم تشابه القضايا والمنطقة والآثار الثقافية المحيطة. ولم يبخل دكتور حيدر بتوظيف تلك العلاقات، في إستضافة رموز الفكر العربي بمركز الدراسات السودانية، وتاليا سهل إتصال الجماهير بهم، وإحتكاكهم بها مباشرة، بكل ما يعنيه ذلك من إضافة ثرة وفائدة ليس لها حدود.
وأيضا سعي الدكتور حيدر من خلال المركز، ليس للتبشير بالحداثة والعقلانية وضرورات الدولة المدنية فقط، ولكنه عمل أيضا علي إعداد جيل جديد من الشباب، مشبع بالقيم الديمقراطية ومسلح بلغة الحوار والموضوعية، وهو يعمل تحت إشرافه ومتابعته، مما يشكل نواة لمستقبل جيل سليم قائم علي المؤسسية والتفضيلات الديمقراطية. وكذلك شكل المركز نافذة مضيئة، وهو يفتح أبوابه وأنشطته للإحتفاء بالرموز الوطنية، او صاحبة الأثر الحميد في مجتمعنا المحلي، وهي رموز لطالما واجهت حملات التشهير والإساءة وإشانة السمعة، وكل مشكلتها أنها أحبت وطنها بصدق، وأجتهدت ما وسعتها إمكاناتها، من أجل تحسين شروط حياة المواطنين، والوقوف مع قناعاتها الشخصية ضد الزيف والقهر والإستبداد، أي ضد الحضور الطُغياني للمُتسلطين والهدر الإنساني لبقية المواطنين! ودفعت ثمن ذلك فادحا. أي مثل المركز ومؤسِسه، دور الوفاء والقدوة الحسنة والإعتراف بالجميل لأولئك الرموز، كأضعف الإيمان الذي يمكن أن يقدم لها، في زمان سيادة الجحود ونكران الجميل والإستغراق في الذات الفردية او التنظيمية! وفي ذلك المسلك، سلوك رفيع وحس حضاري، يبعث علي مزيد من الإحترام والتقدير للمركز ومؤسسه. الشئ الذي يعكس أن المركز نفسه، قائم علي أسس وطنية وحضارية، تشكل بدورها بقعة ضوء في نفق الحاضر المظلم. خاصة وهو يُقاتل ضد تغييب الذاكرة الوطنية، وإستبدالها بذاكرة إسلاموية خربة مشوهة وقاتلة، ومهينة للتاريخ والإنسان، وجاهلة بقيمة الرجال/النساء وناكرة للعطاء، وضد محاولاتها الطفولية الجهولة لصناعة تاريخ مزور، تشغل فيه صوت العقل والحق والضمير. ولهذا صعب إحتماله او تركه يقوم بدوره، بعد أن عجزت محاولات السلطة والخصومات المفتعلة والمغرضة في محاربته او إيقافه او حرفه عن مساره! كيف يحتمل الظلام أرق الضياء وعناد الشموع؟!
وعموما دكتور حيدر شخصية تستحق الإحترام والتقدير، سواء أتفقت معها او لم تتفق، ومن أين أتيته، أي كمفكر مثقف وطني صاحب مشروع خاص. او علي الأقل من أجل حضوره البارز في الساحة الفكرية والسياسية الآن، أو من خلال منتوجه ومواقفه السابقة، التي لم تترك أثرها علي الحاضر فقط، ولكنها أيضا وضعت رجلها بثقة في المستقبل. ونقصد بذلك مشروعه الفكري، والذي يدعو للحرية والديمقراطية والعقلانية وإحترام الآخر، كمبادئ عامة وأساسية، أثبتت قيمتها وحيويتها وفاعليتها تاريخيا وعمليا في دول أخري، تعتير سائدة علي العالم الآن. وعموما هو طريق لأبد أن يسلكه كل من أراد النهوض او التقدم الي الأمام، ويحتاج فقط، لقليل من الثقة وكثير من الشجاعة! والعكس أيضا صحيح، أي سيادة الإستبداد والإحتكار السياسي والإقتصادي وإحتقار الآخر! هي سبب كل هذه البلاء والتأخر والتراجع بإضطراد! وهو الشئ الذي ظل يناهضه علي الدوام، او يفضحه ويكشف مخاذيه من خلال ذاك المشروع. بتعبير آخر، إن كل قيم الديمقراطية والتنوير الماثلة الآن، والتي أصبحت تجد لها أعوان ومكان في الساحة السياسية والفكرية، الملبدة بالغيوم والتبلد الكيزاني العميم! أسهم فيها دكتور حيدر من خلال مشروعه الفكري. وكل الإنتصارات المُستقبلية الموعودة، التي ستُنجزها هذه القيم، سيكون له فيها نصيب أيضا. وبهذا يصبح دكتو حيدر نفسه، مشروع فكري تنويري تحرري، أي وجوده الشخصي وآثاره وأقواله وأفعاله، كلها تندرج داخل هذا المشروع، والذي آت جزء من أكله حاضرا كما ذكرنا آنفا، ولكن كل المستقبل الزاهر مربوط بهذا المشروع، وكفي بهذا دورا ورسالة.
ولكن هل يعني إحترام الدكتور حيدر وتقدير أفكاره، بل النهل منها بكلتا اليدين. تبرير عدم الإختلاف معه، او معاملة أفكاره كمقدسات! يتعامل معها بفقه، ممنوع الإقتراب او النقد او الإختلاف. لأ أعتقد ذلك، والسبب أن مشروعه قائم أساسا علي تجاوز المقدسات الفكرية والسياسية والإجتماعية والدينية، أي مشروعه قائم علي المساءلة للكل، دون حواجز او خوف! أي قائم علي تحرير الفكر والثقافة والسياسة والدين والمجتمع، من ما يُعطلها او يحولها الي ممتلكات خاصة، او شقق مفروشة لبعض الأفراد عاليِّ المقام والمكانة! بمعني، إنه مشروع مصادم للجمود والسكون، وتأليه البشر وحجب الإله والحق والعدل او إحتكار نصوصه! او البقاء رهينة تحت رحمة الإيديولوجيات، وقانون حصارها المطبق علي العقل والضمير والحرية! أي يمكن الإختلاف معه ومع مشروعه، بل من الواجب الإختلاف معه، لكل من يري غير وجهة نظره او رايه. ولكن وفق أصول مرعية لأ تتعدي الأفكار للإشخاص او نياتهم او التشكيك في جهودهم وأفكارهم. وفي هذه الجزئية بالتحديد أجدني مختلف مع دكتور حيدر، في تأويله لمقولة الأديب الراحل الطيب صالح الذائعة الصيت(من أين أتي هؤلاء؟!) في أحد نصوصه الأخيرة او النص مثار التهجم بالتحديد! أي أعتقد أن دكتور حيدر حمل هذه العبارة أكثر مما تحتمل، وهو يدخلها في مجاهل عنصرية تخدم خط النص المشار إليه، أكثر مما تخدم حقيقتها او سياقها! ومع إتفاقنا أن النيات في قلوب أصحابها، ولكن سياق العبارة المشار إليها، يتحدث عن الشخصية السودانية(بعيدا عن التعريف العلمي للشخصية السودانية ، وهل هي موجودة أم لأ) والمقصود ما تعارف أنها شخصية كريمة وأمينة ومسالمة تكره العنف والإهانة او الحقارة ..الخ، أي جماع هذه الصفات هي ما شكل الشخصية السودانية في الوعي العام او الثقافة العامة، سواء في الداخل او الخارج! وبغض النظر عن صدقيتها، إلا أنها عبرت عن مراحل تاريخية محددة، أسهمت في تكريس هذا الوعي او تلك الصورة! والشخصية السودانية المقصودة، هي بالطبع جماع مكونات الدولة السودانية بحدودها الجغرافية السابقة. أي هذه الصفات عابرة لكل التكوينات القبلية والمناطقية. وهنالك عوامل محددة ساهمت في تكوين هذه الشخصية، أي ليس بوصفها سودانية ولكن لأن المؤثرات العامة كانت مساعدة علي بروزها. وبتعبير آخر، لم تكن الدولة السودانية، بهذه المعاناة المعيشية والإنحطاط القيمي، والحدة العنصرية او القبلية او المناطقية، التي أوجدها الضلال الإنقاذي المقيم! لذلك أعتقد أن مقولة الاديب الراحل الطيب صالح، تندرج في سياق الشخصية السودانية المذكورة سابقا. وليس مبعثها او مقصدها، النفس العُنصري المُستشري في الزمن الإنقاذي الأليم، الذي لقم المشاعر وعبأ النفوس بالكره وأطلق عقال الشرور من مكامنها! أي سيرة الإنقاذ العُنصرية هي الأقرب لتأويل الدكتور حيدر، وليست عبارة الأديب الراحل المُقاسة علي الشخصية السودانية التي عاصرها. أردت من إيراد هذه الجزئية المطولة، أن أشير الي وجهة محددة، وهي هل يمكن تقييم مفكر او كاتب من مادة واحدة او مقالة بعينها؟ او فقرة مأخوذة من مقالة او مادة منشورة، حتي لو كانت فقرة كاملة؟! بمعني هل يتم التقييم للمشروع كله بإيجابياته وسلبياته، وهل أضاف للوعي الفكري والسياسي..الخ إضافات أيجابية أي تخدم الوطن والإنسانية ام العكس هو الصحيح! إذا ما طبقنا هذا المعيار علي مشروع الدكتور حيدر، فإن الكفة تميل لصالحه دون عناء، بل يستحق علي ضوءها، ان يرفع مكانا عليا، كأقل تقدير او شكر للرب المفضال.
ولا يمكن أن نبرح هذه المكانة دون أن نتعرض لبعض النقد، الذي وجه للدكتور حيدر من خلال أحد مقالاته الأخيرة، بل النقد ينسحب لكل معارضة المهاجر! ونقصد الجزئية التي تتحدث بلُغة التشكيك، وتشير الي عدم جدية الدكتور حيدر في مسار التضحيات، أي النضال من الداخل وتحمل أعباء وكلفة هذا النضال؟! وهذا التساؤل/التشكيك يبدو ظاهريا سليم، ولكنه يحتاج لوقفة. ومن ضمنها أن الناقدين لموقف الدكتور حيدر النضالي، لم يُعرف عنهم أنهم كنّوا يوما إحتراما او تقديرا مستحقا لرموز وطنية نضالية، صادقت أعناقها المشانق وأخترقت أجسادها الرصاص، وكانت الزنازين مأواهم الدائم، من لدُن الدكتاتور نميري وصولا لسيئ الذكر والسيرة والمسيرة والهارب من العدالة البشير! ولم يظهروا تعاطف حقيقي ومستحق أيضا، لمن نكَّلت بهم تلك النظم الجائرة، من عامة المواطنين، وحاربتهم في أرزاقهم ومساكنهم ولم ترحم حتي أجسادهم! بتعبير آخر، لم يكن النضال يوما شاغلا لهم، او مكترثين لعذابات رموزه! ولكنه يُتخذ هُنا، كمطية لتصفية الخلافات مع الخصوم! أي يؤدي وظيفة محددة، تتمثل في الطعن في شرف الخصومة ومصداقية الخصوم! والدليل أنهم لم يطرحوا بدائل حقيقية وعملية، تنوب عن مجهودات الدكتور حيدر، وتعوض عن مواقفه النضالية المُتخاذلة! علي الأقل لكفوا دكتور حيدر مشقة المواجهة وعذابات السنين، ولإنصرف لمشاغبة قضايا أخري تهوم في الفراغ! كما أنهم لم يوضحوا لنا، وببيان بالعمل عن نموذج النضال المثالي الذي يطمحون له او يعشقونه! علي الأقل في حينها يمكن للمواطن المغلوب علي أمره، أن يُفاضل بين عدة مشاريع نضالية! أما إذا كان نموذجهم النضالي، الكلمة الحسنة وتصديق خزعبلات الحوار وأوهام الإصلاح! كنموذج للنضال الحريري! الذي يُلامس تطلعات او طموحات شخصية، يمكن أن يقدمها هكذا نظام! لأ يصلح لأ للحكم و لأ للإصلاح و لأ للجدل حوله. فلهم في السيد الصادق المهدي ومصيره العبرة الحسنة!!
ولكن يصح أن النضال من الداخل، وربط القول بالعمل النضالي الأرضي، أكثر فاعلية وأقيم رمزية، وهو ميزة كبري، لأ ينكرها إلا مُغالط فاجر الجدل البيزنطي! ولكن الأكثر صحة، أن من بالداخل هم الأكثر تعرض لأذي النظام وإذلاله وتضييقه، وحرمانه لهم من التمتع بسعة العيش ونعمة الحياة! وتاليا هم الأولي بالنضال والأكثر إستفادة من ثمراته، إضافة الي أنهم الأكثر مقدرة ومرونة، علي تبني وسائل وأدوات أكثر فاعلية وتأثير وتهديد جدي للنظام. بجملة واحدة، هم من يلتصقون بلمعب التغيير مباشرة. كما أن الفصل بين المواطنين في الداخل والخارج، هو فصل تعسفي! ولأ يخدم قضية النضال ذاتها. وهذا إذا لم يحدث نوع من الشقاق بينهما او أقلاه بناء حاجز وهمي بينهما، شديد الحساسية تجاه الخارج ومساهماته. وذلك لأن القضية واحدة، وهي قضية حرية وكرامة ومستقبل أجيال ومصير بلاد في مهب الريح! وقبل ذلك هي قضية حق مسلوب وكرامة مهانة وفسادٍ مستشرٍ! ولذلك فهي مسؤولية الجميع، سواء في الداخل او الخارج، كل حسب ظروفه وإمكاناته! بل الأبعد من ذلك أنها مسؤولية الأحرار في كل مكان حتي ولو لم يكونوا سودانيين! أي القضية هي قضية عامة، بقدر ما تخص السودانيين فهي تخص كل شعوب الأرض. أي القضية قضية موقف من متلازمات الإستبداد/الفساد والقهر/الخراب والذل/المصادرة العامة للوجود. كما أن السودانيين الموجدون بالخارج لم يهاجروا عن رغبة او للفسحة والإستجمام، ولكنهم أقتلعوا من جذورهم إقتلاع، بطريقة مباشرة او غير مباشرة! فمعظم الهجرات تمت بسبب التضييق والقهر وقطع الإرزاق، الذي مارسه النظام ليس ضد خصومه وأعدائه فقط! ولكن حتي لمن ليس له صلة بالسياسة! أي الهجرة في معظمها كانت قسرية ومريرة! وغير ذلك، لأيمكن التقليل مما قام به المهاجرون من مهاجرهم، وتوظيفهم مساحة الحرية والظروف المادية المتاحة، في فضح النظام وتعريته وأقلاق منامه. وعموما في مواجهة نظام قتل محترف وفساد منظم، او نظام برنامجه الوحيد مواجهة شعبه ونهب ثروات البلاد، وهو سلفا مجرد من الرحمة والقيم الإنسانية! يضيق هامش المواجهة ويؤخَر الحسم، بسبب تشبع البيئة بالإرهاب والمظاهر الأمنية! ولكن هذه البيئة ليس في مقدورها، معالجة إخفاقات وعجز النظام عن الإيفاء حتي بالحدود الدنيا من واجباته! وتاليا يقود الأمور كلها الي نقطة الإنفجار او الحسم العنيف. خاصة في حالة عجز الشعب نفسه، عن تطوير آليات تصل به الي مراده او حقوقه بأقصر الطرق وأقلاها تكلفة. أي بناء كتلة التضامن والتلاحم الجماهيري. أي لأ جبهة سلمية فاعلة تجرده من سلاحه، وتاليا منتصرة، دون توحد الجماهير او كتلها الحية، في مواجهة جبهة الشر او جبهة النظام. في هذا الإتجاه يطال التقصير في مواجهة النظام، الجميع في الداخل والخارج علي السواء. ولكن كل ذلك لأ يمنع أن التغيير او الثورة، عملية تراكمية وتكامل ظروف، بعضها ظاهر وقد يكون متوافر في حالتنا الراهنة، وبعضها غير مرئي بل وغير مدرك! المهم عند نضوج كل الظروف الظاهرة والخفية، يمكن لحادث بسيط لأ قيمة له! أن يشعل الأوضاع ويقلب الأمور رأسا علي عقب. والأغرب في الثورات، أن ما كان يري أنه في طرف النظام او يشكل له حماية، يمكن إن ينقلب ضده ويعجل برحيله! مما يؤكد تعقيد الثورات و غموض تفاعل الظروف المؤدية لنجاحها! وللتأكد من ذلك يمكن مراجعة معظم الثورات السابقة، وبما فيها ثوراتنا المحلية، ودور المؤسسة العسكرية في نجاحها ولحظة التحول او بروز هذا الدور! ومؤكد أيضا أن هذا الإنعطاف في الدور العسكري، مبعثه إصرار الجماهير ووضوح الرؤية التغييرية أمامها! وبالطبع لأ يعني ذلك أن الثورات تشبه بعضها، او تسير في مسار واحد مرسوم لها سلفا. ولكن لكل دولة ظروفها ولكل مجتمع أدوات تعبيره الخاصة. والأكثر تأكيد، أن ما تحمله المنابر الإلكترونية والصحف الورقية وأركان النقاش بالجامعات وغيرها من وسائل التعبير والتوعية، سوف تؤتي أكلها في حينها. علي الرغم من كمية السخرية والإحباط الذي يلصق بها! ولنا في ثورات الربيع العربي أكبر برهان ودليل. والمقصود إمكانية التغيير موجودة ومتوافرة وممكنة، رغما عن مظهر الإستحالة المحيط بها، وضعف عناصر المواجهة والتأثير! أي التغيير لأ يحتاج الي العجلة، علي الرغم من صعوبات الإحتمال وعظمة التكاليف! ولكن ما يحتاجه حقيقة، هو عدم الإنتكاس او الفشل في إستثماره وسوء التعامل معه! مما يفتح المجال مجددا لعودة الإستبداد، والدخول من جديد، في لعبة إنقلاب غادر وثورة مغدورة.
آخر الكلام
لأ تشوشوا علي بقع الضوء القليلة، التي تواجه جحافل الظلام والوحشة والإنكسار!
عبدالله مكاوي
بريد إلكتروني [email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.