بقلم: عثمان نواي منذ استقلال السودان قبل ستة عقود الى الان, لم يتذوق هذا الوطن طعم السلام, او الشعور بطمأنينة الانتصار, و تفاؤل السير نحو المستقبل. واكاد اجزم انه حتى عند لحظة الاستقلال لم يكن هذا شعور معظم السودانيين. ان السلام والنصر والمستقبل, هى المعارك الحقيقية التى تخوضها الشعوب لاجل اوطانها. فالسلام السياسى والاجتماعى سواءا الداخلى او الاقليمى او العالمى هو الذى دفع الدول الى الحرب ضد النازية والفاشية والانتصار عليها , ثم انشاء الاممالمتحدة بشعار غصنى الزيتون رمزا لذلك السلام, كما ان الانتصار على الفقر والجهل والعنصرية كانت المعارك الداخلية لمعظم الدول, وهى التى دفعتها الى العمل الشاق لتحقيق نصرها على تلك المهددات الحقيقية لوجود الشعوب والاوطان, اما المستقبل, فهو الامل الذى يفجر الطاقات لتحمل مشاق الطريق للوصول لتلك الغايات العليا, التى تصنع من خلالها الشعوب العظيمة اوطانا عظيمة. وعلى الطريق نحو الهاوية الذى يسير فيه السودان الان, ولمعظم عمره كدولة حديثة, تبدو الحلول التقليدية غير ممكنة. كما ان نظرة اعمق للازمة السودانية تستوجب الخروج عن المألوف للتفكير فى حلول وايضا للتامل حول الاسباب التى ادت الى هذا المسار المغلق النهاية الذى تمضى فيه البلاد. وفى ظل تغيرات فريدة من نوعها تجرى فى العالم حولنا فى السنوات الاخيرة, فان التحدى الذى يواجهه السودانيون يصبح اكثر تعقيدا. فتسارع الاحداث الاقليمية والدولية والتطور السريع الذى يشهده الملعب السياسى الاقليمى والدولى يجعل السودان فى مؤخرة القاطرة التى يتسارع حراكها بدفع جماهيرى قوى ومدعوم بتكنلوجيا وافكار سياسية واقتصادية واجتماعية ثورية وغير مسبوقة. ورغم محاولات الثورة على الواقع الراهن فى السودان, الا ان عجزا فى الرؤية يغيم على المحركين لتلك المحاولات. فالثورة التى تغير بلدا مثل السودان, لا تحتاج فقط الى التعبئة والدعوة للخروج الى الشارع. فالسودان بلد ملىء بالجراحات النازفة بسبب الحروب الاهلية الدائرة, ناهيك عن اسباب تلك الحروب المتمثلة فى الاستبعاد السياسى والاقتصادى والعنصرية فى العلاقات الاجتماعية والممارسة السياسية للدولة, وفى ظل حالة بهذا التعقيد فان الاعتراف بتلك التعقيدات والثورة المفاهيمية القيمية التى تعيد شكلا من التوازن المفقود لهذا البلد المشتت الرؤى والفاقد للوجدان الوطنى الموحد, تعد احدى الخطوات الرئيسية للتقدم خطوة الى الامام من المأزق التاريخى الذى تعيشه البلاد حاليا. لكن فى ظل النظام السياسى الحالى- والمقصود هنا النظام السياسى بمعناه الواسع الذى يشمل الحكام والمعارضين- فان الحراك السياسى يبدو مشلولا ومسدود الافق تماما, حيث ان القيادات السياسية فى المعارضة والحكم تتحرك داخل سقف من المطالب والاستجابة للمطالب, شديد الضيق وربما بعيد ايضا عن طموحات الشعب وتحديات الواقع المأزوم والمتفجر. وفى هذا الوضع لا بد ان ندرك ان الخلاص المطلوب لهذه البلاد من الوضع الحالى, يجب ان يكون خلاصا شاملا من النظام السياسى الراهن بشقيه الحكومة والمعارضة والاتجاه نحو خيارات مستحدثة وجديدة لها قدرة على التعامل مع الواقع بوطنية حقيقية تتعالى على المصالح الحزبية والشخصية والطائفية والقبلية. لقد ضاع من عمر هذا البلد 60 عاما بعد الاستقلال دون ان يحقق السودانيون اى انجازات على مستوى البناء الوطنى للدولة, بل على العكس, فقد حدث اسوأ ما قد يحصل فى اى دولة على الاطلاق, وهو انقسامها الى دولتين وفقدان جزء من ارضها ومواطنيها عبر انفصال الجنوب. اضافة الى ان اسم السودان اصبح مرتبطا بالانقلابات العسكرية والانتفضات المهزومة والمسروقة, و المجاعات والحروب الاهلية , واضيف حديثا الى هذا السجل الاسود, المذابح الجماعية والاغتصاب الجماعى والتطهير العرقى والارهاب الاصولى الدينى. ان هذا السجل الحافل بالفشل والذى يخزى كل سودانى, دفع بالكثيرين للجوء لدول اخرى والانتماء اليها هربا من الوصم بانهم سودانيون وليس فقط بحثا عن مستقبل افضل. ان ضياع الارض وانتهاك العرض وتبديد الموارد عبر الفساد وسوء واحتكار ادارة ثروة البلاد اضافة الى عدم القدرة على وضع تحريم دم السودانيين كقاعدة اساسية لعقيدة الجيش والشرطة واجهزة الدولة بشكل عام وايضا كقيمة للمجتمع, كان سببا فى ضياع ملايين الارواح , وهذا هو الامر الاكثر كارثية لاى وطن, اى ان ترتوى ارضه بدماء ابناءه , ليس تحريرا له من معتدى خارجى, ولكن فى سلسلة احتراب داخلى متوالية سببتها سلطات حاكمة ديكاتاتورية وغير وطنية الرؤى والتوجه واجهت المظالم الاقليمية بعنجهية وعنصرية اجرامية. ولذا لا يجب ان يحاكم بدم السودانيين المسكوب منذ الاستقلال فقط عمر البشير, بل كل من اعتلى سدة الحكم ولو ليوم واحد, بل والمعارضة فى كل الاوقات تقتسم المسؤولية ايضا, لانها لم تعمل بما يكفى لوقف سفك الدم السودانى, وبالتالى هى شريكة فى الجريمة فى حق الوطن عبر العقود الماضية. وفقد السودان عشرات المثقفين والمهنيين والمتعلمين الذين فروا من البلاد التى كانت بالنسبة لهم مستنقع غير قابل للعيش فيه, وفى ظل هذا التخلى عن البقاء عن السودان من قبل فئات الشعب الفاعلة, تاكلت الطبقة الوسطى, وتحولت المدن السودانية الى مدن ريفية لا تحمل داخلها مكونات المدنية التى تدفع البلاد الى التطور, و ادى ذلك الى تشوه الشخصية السودانية , مما حول المجتمع واليات انتاجه الى اليات طفيلية ريعية غير منتجة ومرتبطة بالسلطة الحاكمة بشكل اساسى, مما شكل دعما وسندا لبقاء الديكتاتوريات واخرها الديكتاتورية الحاكمة الان. وفى ظل هذا الفرار والتفتت الاجتماعى والقيمى لمقومات المجتمع المدنية والحديثة, الذى تحول الى جمود قدرة الشعب السودانى على رفض النظم الحاكمة الحالية والسابقة, نجد السودان كوطن يقف وحيدا دون انتماء شعبه اليه و ليكون المدافع الاول عنه فى وجه الرياح التى تعصف به نحو التفتت وربما الزوال. يقول البعض ان الامم لا تزول وابرز القائلين الكاتب المصرى محمد حسنين هيكل, لكن من الواضح ان السودانيين لم يصبحوا امة يوما, ولم يتمكنوا من الانتماء للسودان كوطن قادر على حمل الجميع فوق ارضه وليس دفن معمظمهم تحتها, حروبا وغبنا وجوعا وفقرا ومرضا. بل يستمر السودانيون فى تضييع وطنهم, الذى وسعهم بوديانه وجباله وصحرائه , وبثرواته المعدنية والحيوانية والزراعية, ووسعهم بنيله وانهاره وامطاره, وطنا تحمل احترابهم و غربتهم عن بعضهم وتعاليهم على بعضهم, فهل هذا الشعب الذى يقطن بلدا اسمها السودان و الذى سمح لتلك النظم السياسية المتعاقبة بتضييع وطنه وساهم معها فى ذلك بصمته عليها طويلا, هل سيتوقف يوما عن اضاعة ما تبقى له من وطن . [email protected]