دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    الناطق الرسمي بإسم القوات المسلحة السودانية: نحن في الشدة بأس يتجلى!    السودان: بريطانيا شريكةٌ في المسؤولية عن الفظائع التي ترتكبها المليشيا الإرهابية وراعيتها    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    البطولة المختلطة للفئات السنية إعادة الحياة للملاعب الخضراء..الاتحاد أقدم على خطوة جريئة لإعادة النشاط للمواهب الواعدة    شاهد بالفيديو.. "معتوه" سوداني يتسبب في انقلاب ركشة (توك توك) في الشارع العام بطريقة غريبة    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تقدم فواصل من الرقص المثير مع الفنان عثمان بشة خلال حفل بالقاهرة    شاهد بالفيديو.. وسط رقصات الحاضرين وسخرية وغضب المتابعين.. نجم السوشيال ميديا رشدي الجلابي يغني داخل "كافيه" بالقاهرة وفتيات سودانيات يشعلن السجائر أثناء الحفل    شاهد بالصورة.. الفنانة مروة الدولية تعود لخطف الأضواء على السوشيال ميديا بلقطة رومانسية جديدة مع عريسها الضابط الشاب    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    موظفة في "أمازون" تعثر على قطة في أحد الطرود    "غريم حميدتي".. هل يؤثر انحياز زعيم المحاميد للجيش على مسار حرب السودان؟    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    معمل (استاك) يبدأ عمله بولاية الخرطوم بمستشفيات ام درمان    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المهدي مستشهداً : إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وإن كانت مؤمنة
نشر في السودان اليوم يوم 17 - 02 - 2011

قدم الإمام الصادق المهدي ورقه عن الهوية في السودان: جدلية الصراع والتعايش، لمنتديات الراصد، التي تقام في الفترة من 2 فبراير الى 8 مارس بقاعة الشارقة بالخرطوم.
وذكر الإمام الصادق المهدي بأن التنوع من سنن الكون، والحكمة في إدارة التنوع والاختلاف، (فإداراتهما بالقهر ونفي الآخر تحقق استقرارا على المدى القصير، ولكن الاستقرار المستدام لا يكون إلا في توازن عادل، لذلك صار العدل هو أساس السلام الاجتماعي حتى قبل الإيمان).
واستشهد الإمام بإبن تيمية في كتاب الحسبة: “إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وإن كانت مؤمنة. إن الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام"، وقال الإمام ابن القيم: “كلما تحقق به العدل هو من الشرع وإن لم يرد به نص".
(نص الورقة أدناه وفي قسم مقالات – الامام الصادق)
بسم الله الرحمن الرحيم
مركز الراصد للدراسات السياسية والإستراتيجية
سلسلة منتديات الراصد
تحت شعار (السودان وطن يسع الجميع)
في الفترة من 2/2 إلى 8/3/ 2011م- قاعة الشارقة
ورقة بعنوان: الهوية في السودان: جدلية الصراع والتعايش
تقديم: الإمام الصادق المهدي
التنوع من سنن الكون: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) [i] كذلك الاختلاف سنة كونية: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) [ii].
الحكمة هي في إدارة التنوع والاختلاف، فإداراتهما بالقهر ونفي الآخر تحقق استقرارا على المدى القصير، ولكن الاستقرار المستدام لا يكون إلا في توازن عادل، لذلك صار العدل هو أساس السلام الاجتماعي حتى قبل الإيمان، قال الإمام ابن تيمية في كتاب الحسبة: “إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وإن كانت مؤمنة. إن الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام"، وقال الإمام ابن القيم: “كلما تحقق به العدل هو من الشرع وإن لم يرد به نص".
1. السودان وطن كثير التنوع:
دينيا: أغلب سكانه مسلمون، والمجموعات الوطنية الأخرى مسيحية ومنخرطة في أديان أفريقية متجذرة هي أساس أعرافهم وسلوكهم الاجتماعي.
ثقافيا: في السودان الموحد توجد مئات اللغات التي تتبع لأربعة عوائل لغوية مختلفة فهنالك العائلة السامية وتمثلها العربية الأم وقد وجد الباحثون اللغويون أن الباقي من هذه اللغات 143 لغة (ثمانية منها في طريقها للانقراض)، 71 لغة موجودة في الشمال بما فيها العربية التي صارت لغة تخاطب لغير الناطقين بها، وهنالك مئات اللهجات المختلفة في السودان للعربية ولغيرها من اللغات[iii].
اثنيا: في السودان مئات القبائل التي تعود إثنيا إلى خمسة أصول: عربية- زنجية- نوبية- نوباوية- بجاوية.
يؤكد التاريخ القديم أن السودان كان على طول تاريخه جاذبا للهجرات من خارجه لذلك صار مصهرا بشريا عظيما. كما أنه امتاز بإنسانية تسامحية جعلته يستقبل أهم دينين عالميين هما المسيحية ثم الإسلام سلميا.
2. التاريخ مدرسة لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ)[iv] إن ما نشهده اليوم من انفصال جنوب السودان هو آخر حلقة من حلقات الإخفاق في إدارة التنوع، وإذا لم نلم بالدرس المستفاد منه فإنه سوف يتكرر.
كانت أولى ظواهر التشدد في تكوين هوية موحدة في المهدية، تشدد أملته حالة التسيب والتخليط الديني، والتمزق الوطني، والاحتلال الأجنبي فاستطاع أن يحقق أهدافه ولكن على حساب انقسام صار مطية للاحتلال الامبريالي الذي استطاع في ظروف التكالب الامبريالي على أفريقيا في القرن التاسع عشر الميلادي أن يطيح بالدولة المهدية ويحتل السودان في 1899م.
الاحتلال البريطاني في السودان مارس سياسة فصل عنصري منذ عام 1922م تحت عنوان “السياسة نحو الجنوب" بموجبها أبعد الجنوب من التلاقح الثقافي الإسلامي العربي واحتكره لهوية انجلوفونية مسيحية أفريقانية، وفي عام 1928م عقد مؤتمر الرجاف بأهداف معينة هي: اختيار ست لغات جنوبية لوضع القواعد اللغوية لها وتدريس التلاميذ في المدارس بها على أن تكتب بالحرف اللاتيني، وإبعاد العربية تماما من التداول في الجنوب. وتم في هذا الإطار إبعاد المجموعات العربية من الجنوب وخلق منطقة خالية شمال مديرية بحر الغزال بعد أن كانت منطقة تلاقح ثقافي وتواصل بين السكان.
رواد الوعي الحديث في السودان والذي انبثق في الشمال اعتبروا ذلك الغرس كيدا امبرياليا، لذلك كانت أول مذكرة سياسية وجهها الخريجون للحاكم العام البريطاني في عام 1942م تطالب بنقض سياسة المناطق المقفولة في ثلاثة من بنودها.
وعلى الصعيد الفكري انقسم المثقفون السودانيون على ثلاث مدارس: مدرسة عربية إسلامية تأتم بمصر، ومدرسة أفريقاينة تتجه نحو أفريقيا جنوب الصحراء، ومدرسة ثالثة تقول بخصوصية سودانوية أو مدرسة الغابة والصحراء، هذه المدارس كانت تهتم بتحليل الهوية السودانية المركزية وقد ألقت ضوءا قليلا على التنوع في النسيج السوداني نفسه بغض النظر عن الثقافة المركزية ومكوناتها.
3. إدارة هذا التنوع والاختلاف على الصعيد السياسي تعرضت لإخفاقات كثيرة. منذ مؤتمر جوبا في عام 1947م حرص الجنوبيون على المطالبة بإجراءات لحماية الخصوصية الجنوبية، هذا الحرص على الخصوصية الجنوبية صار أساسا لمطلب الفدريشن قبيل استقلال السودان في 1955م، ثم صار أساس للدعوة لنظام الحكم الذاتي الإقليمي في لجنة الاثنى عشر (1966م)، ومؤتمر الأحزاب السودانية (1967م)، وصار نفس المطلب دعوة لعدالة اقتسام السلطة والثروة والاستثناء من الأحكام الإسلامية في إعلان كوكادام (1986م)، ثم صار فيما بعد أساسا لإجماع الأحزاب الجنوبية على المطالبة بتقرير المصير في (1993م)، وتحول لشبه إجماعهم على الانفصال في استفتاء عام 2011م.
4. منذ استقلال السودان في عام 1956م أي قبل 55 عاما حُكم السودان لعشر سنوات فقط حكما ديمقراطيا لبراليا دارت أثناء حكوماته حوارات حول الخصوصية الجنوبية في شكل دعوات للفدرالية، وللحكم الذاتي الإقليمي، ولأسس جديدة لتقاسم السلطة والثروة والاستثناء من الأحكام الإسلامية، ولكن تلك المشروعات لم تبلغ غايتها لأن النظم الديمقراطية المعنية أُسقطت في انقلابات عسكرية.
عيب النظم الديمقراطية أنها لم تتخذ إستراتيجية قاصدة لاستيعاب الخصوصية الجنوبية بل واعتبر بعضهم جزء كبيرا من الخصوصية الجنوبية غرسا امبرياليا ينبغي استئصاله.
ولكنها على أية حالة لم تقطع الحوار مع الأطراف الجنوبية حول مطالبهم ولم تلغ وجودهم السياسي ولم تطبق قسرا برامج أحادية ثقافية.
لكن النظم الدكتاتورية التي احتكرت 80% من عمر الحكم في السودان المستقل طبقت أحادية ثقافية مستعلية كرست لاستقطاب:
‌أ. الأحادية الثقافية الأولى طبقت في نظام نوفمبر (1958- 1964م): هذا النظام فرض تعريبا للتعليم في الجنوب، وألغى إجازة الأحد الأسبوعية مع أن الأحد في المسيحية شعيرة دينية، وحل مجلس السيادة، ومجلس الوزراء، والبرلمان، والأحزاب فحرم الجنوبيين من صوتهم السياسي فلجأوا للخارج حيث شكلوا حزب سانو ثم حركة أنانيا المسلحة في 1963م، وبموجب قانون 1962م طرد المبشرين الأجانب من الجنوب. هكذا أشعل الحرب الأهلية الأولى.
‌ب. الأحادية الثقافية الثانية اقترنت بنظام مايو (1969-1985م) الذي استغل تعاطف الغرب معه بعد بطشه بالحزب الشيوعي السوداني، واستصحب تحضيرات النظام الديمقراطي لحل المسألة الجنوبية فأبرم مع حركة أنيانيا اتفاقية أديس أبابا للسلام في 1972م، ولكن النظم الدكتاتورية بطبعها لا تطمئن للمشاركة في القرار كما أوجبت الاتفاقية فخرقها من جانب واحد، وفي مرحلة لاحقة طبق قوانين سبتمبر سيئة الصيت على البلاد تحت عنوان تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، عوامل مختلفة أدت لانهيار اتفاقية أديس أبابا فتمردت حركة أنيانيا الثانية في 1975م. ثم ساهمت ظروف داخلية وخارجية في تكوين الحركة الشعبية لتحرير السودان وجيشها في 1982م، حركة زاد من تأييدها إعلان قوانين سبتمبر 1983م فحظيت بتأييد أوسع داخليا وإقليميا ودوليا.
قوانين سبتمبر المسماة إسلامية أحكام مرتجلة فرضت على أهل السودان مسلمين وغير مسلمين بصورة فوقية بهدف قمع الحركة السياسية والجماهيرية والنقابية المتصاعدة في الشمال لا سيما بعد إضراب القضاة. فأساءت للإسلام وللمسلمين وحرمت غير المسلمين من حقوق المساواة في المواطنة.
‌ج. الأحادية الثقافية الثالثة مرتبطة بنظام “الإنقاذ" (1989-2005م): الانقلاب من تدبير الجبهة الإسلامية القومية، وهي جبهة نشأت في بيئة سودانية ساعدها الفراغ في التصدي للتمدد الشيوعي في القطاعات الحديثة في السودان، ولكن الأثر الخارجي الإسلامي الفكري والمالي عليها تعاظم مع الزمن فدبت فيها مفاهيم من فكر الشيخ أبو الأعلى المودودي الذي غذته ردود فعل ضد الفكر الهندوسي المتشدد لحماية الجماعة الإسلامية، ومفاهيم من فكر الأستاذ سيد قطب الذي تشدد كردة فعل للبطش الناصري بحركة الأخوان، ومفاهيم فكر آية الله خميني التي تشددت في وجه الشاهنشاهية الإيرانية التي كانت تطبق برنامجا شبيها بالأتاتركية في إيران في تحالف مع المصالح الغربية.
هذه العوامل غذت فكر الجبهة الإسلامية القومية وأوقدت طموحها لتصير طليعة للتحرك الثوري الإسلامي في عالم السنة فاستولت على السلطة عن طريق الانقلاب دون تحضير أو دراسة لما سوف تفعل بالسلطة، ولكنها طبقت أحادية ثقافية نافية للآخر المذهبي، والديني، والثقافي، والسياسي.
هذا التوجه الأحادي تزامن مع انتهاء الحرب الباردة وبروز الدور الأمريكي المعادي للتوجه الإسلامي والذي أصبح أكثر تطرفا ومواجهة تحت قيادة المحافظين الجدد. كانت هذه الخلفية هي دافع الإدارة الأمريكية للتوسط في السلام في السودان لأهداف ليس منها تحقيق السلام في السودان ، فقد صرحت الإدارة الأمريكية بأنهم ((لن يتركوا النفط واليورانيوم في جنوب السودان ودارفور للأصولية الإسلامية الحاكمة في الخرطوم)).
تدخلت أمريكا لفرض السلام في السودان لتحقيق مصالحها وأجندتها التي تتطابق في كثير من الجوانب مع مطالب الحركة الشعبية بالضغط الشديد على حكومة السودان التي فاوضت تحت ظلال سيف قانون سلام السودان فتم التوقيع في عام 2005 على إنهاء الحرب وتقاسم السلطة والثروة ولم يعبأ بما رددناه كثيرا من: ضرورة التوقيع على بروتوكول ثقافي وديني وآلية للتعامل مع مظالم الماضي وإشراك أهل السودان في اتفاقية السلام وإلغاء القوانين المقيدة للحريات. لذلك جاء السلام ناقصا تظهر فيه البصمة الأمريكية بوضوح مثل بروتوكول أبيي الذي قدمه الوسيط الأمريكي جون دانفورث ووقعه الطرفان. بروتوكول أبيي أدى لنشوب الحرب فيها بعد أن كانت آمنة طوال فترة الحرب التي أنهتها اتفاقية نيفاشا في 2005. غابت الثقة بين طرفي الاتفاقية لذلك كان طبيعيا أن يدخلوا في حرب باردة بعد توقيع الاتفاقية، وطبيعيا أن ينفصل جنوب السودان بالشكل الذي شهدنا.
5. في العصور الماضية كان التثاقف القهري أمرا عاديا لا سيما على أيدي الإمبراطوريات الكبرى. وفي ظل الدول لا سيما بعد أن جعل مؤتمر وستفاليا في 1964م الدولة القومية هي صاحبة السيادة المطلقة في إقليمها. لذلك مارست الدول برامج فرض لعقيدتها الدينية وللغتها على الأقليات، وعلى أيد العصبة الحاكمة أو ال STASVOLK أي الجماعة الوطنية المتغلبة مورست كل أنواع القهر الثقافي.
ولكن في أوربا تطورت مواثيق حقوق الإنسان بصورة مستمرة:
* الجمعية الوطنية الفرنسية أعلنت في 1789م حقوق الإنسان والمواطن.
* وفي 1948م اتفق على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
* وفي 1966م اتفق على العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفي نفس العام العهد الدولي للحقوق المدنية.
* وفي 1979م أعلنت اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة.
* وفي 1990م أعلنت اتفاقية حقوق الطفل.
* وأبرمت مجموعة اتفاقيات وعهود ومواثيق لحماية حقوق اللاجئين، والسكان الأصليين، والأسرى والسجناء.
* بالإضافة لهذه المواثيق كونت آليات للمتابعة والحماية مثل:
- مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
- المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان.
- وكونت عدد من المحاكم الجنائية الخاصة.
- وفي 1977م كونت المحكمة الجنائية الدولية للمساءلة على أية جرائم تتعلق بالجرائم ضد الإنسانية – وجرائم الحرب- وشن الحرب العدوانية.
إلى جانب هذه المواثيق والآليات تكونت مئات المنظمات الطوعية المعنية بحقوق الإنسان.
هذه التطورات كونت رأيا عاما عالميا وآليات تتدخل في أية بلد يمارس حاكمها أساليب القهر القديمة، وفي نوفمبر 1995م صدر تقرير عالمي بعنوان “تنوعنا البشري الخلاق" حول التراث الثقافي للإنسانية أصدرته اللجنة العالمية للثقافة والتنمية الصادر في نوفمبر 1995م. وفي نوفمبر 2001م ومباشرة عقب أحداث سبتمبر انعقدت الدورة 31 لمؤتمر عام اليونسكو حيث كان واضحا للمجتمعين الأسباب الثقافية للأحداث. خرجت تلك الدورة بالإعلان العالمي للتنوع الثقافي، مرفقا بخطوط أساسية لخطة العمل باعتباره (أداة أساسية “لأنسنة العولمة") واعتبرت اليونسكو بلسان مديرها العام أن الدفاع عن التنوع الثقافي “أمر أخلاقي أساسي، لا ينفصل عن احترام كرامة الإنسان". وبموجب ذلك اعتبرت حقوق البشر الثقافية حلقة مضافة لحقوق الإنسان العالمية.
هذا المناخ العالمي أقام رقابة على كافة الدول والمجتمعات بحيث لا تستطيع أن تفعل بشعوبها ما تشاء تحت مسمى السيادة الوطنية.
6. الأحادية الثقافية -لا سيما الحلقة الثالثة- أدت إلى ردة فعل واسعة النطاق تكونت نتيجة لها لوبيات داخلية وخارجية مضادة.
- داخليا تكون منبر Sudan Civil Forum الذي ضم كافة الكنائس السودانية للدفاع عما اعتبرته عدوانا على حريتها الدينية.
- وتكون لوبي أوربي تحت عنوان مركز التضامن من أجل السودان Sudan Focal Point.
- وفي أمريكا تكونت لوبيات كثيرة أهمها: لوبي مسيحي- ولوبي يهودي- ولوبي حقوق الإنسان- ولوبي ضد الرق- ولوبي للحريات الدينية- ولوبي الأمريكيين من أصل أفريقي – ولوبي ضد الإرهاب.. هذه كلها ركزت على النظام السوداني باعتباره مسئولا عن تجاوزات في هذه المجالات.
7. في أواسط الثمانينات شهدت دارفور خاصة في غربها ووسطها تنافسا على الموارد ما بين قبائل مستقرة تحترف الزراعة وقبائل وافدة نزحت بسبب الجفاف، وفي أوائل التسعينيات جندت بعض القبائل العربية في الحرب ضد الحركة الشعبية لتحرير السودان.
هذه الظاهرة أدت لانتشار التدريب العسكري والسلاح. بعض هذه القوى دخلت في تصفية حسابها مع بعض المجموعات الحاملة للسلاح التي اعتدت على حواكيرها التقليدية واستقرت بها. وبدا لبعض شبابها أن الحكومة منحازة للرعاة فدفعهم ذلك لتكوين فصائل مسلحة لمحاربة الحكومة وساعدهم على ذلك الاقتداء بالحركة الشعبية لتحرير السودان والاستعانة بها: كان أول تحرك لحركة تحرير السودان (الدارفورية) في يوليو 2002م في منطقة قولو، ثم وزعت منشورات باسم جيش تحرير دارفور في مناطق حول جبل مرة، وفي أبريل 2003م قادت هجوما على مطار الفاشر باسم جيش تحرير السودان.
أما حركة العدل والمساواة فهي تعود للانقسام الذي وقع في المؤتمر الوطني عام 1999م، وقد أعلنت عن نفسها في مارس 2003م.
التعامل الأمني العسكري مع المشكلة والبطش بالمدنيين هي أخطاء قادت لمأساة إنسانية شدت أنظار العالم. حركة المقاومة المسلحة الدارفورية وجدت دعما مباشرا من الحركة الشعبية لتحرير السودان وكانت تلك الحركة قدوة في كثير من الأشياء، وساهمت الحركة الشعبية في شد نظر بعض اللوبيات الخارجية للتعاطف مع المقاومة في دارفور باعتبارها مقاومة أفريقية لبطش عربي. وعلى أثر هذا الانطباع تكونت لوبيات خاصة بدارفور مثل: إنقاذ دارفور- كفاية- ومتحف ذكرى المحرقة- ومنع الإبادة الجماعية- وجماعة مكافحة التشهير.
صحيح أنه بعد ثورة أكتوبر 1964م تكونت في السودان جبهة نهضة دارفور وبرز نشاط أكبر لمؤتمر البجا المكون قبل ذلك. ولكن هذه التكوينات كانت في العهد الديمقراطي مدنية مطلبية وغير مسلحة، وسمح لها بالتعبير عن نفسها ووجدت استماعا لمطالبها بل وتحالفت معها بعض القوى السياسية الكبرى في البلاد مثل تحالف مؤتمر القوى الجديدة.
ولكن الحركات التي تكونت لمقاومة نظام الإنقاذ في دارفور كانت مسيسة ومسلحة واستفادت من ثورة الاتصالات وثورة المعلومات ما جعل إعلام حركات دارفور أكبر أثرا إعلاميا من حركة الجنوب التي سبقتها.
عامل آخر أعطى زخما إعلاميا أكبر لحركات دارفور هو أن نظام “الإنقاذ" كان طاردا لعدد كبير من السودانيين فطلبوا اللجوء في كثير من بلدان العالم، وحيث استقروا كونوا خلايا مضادة للنظام متعاطفة مع الحركات الدرافورية. كذلك انتهزت الحركة الصهيونية وهي تبطش بالعرب الفلسطينيين فرصة لفت النظر لمشهد يوصف بأن فيه بطشا عربيا على أفارقة.
هذا كله معناه أن النظام السوداني خسر المعركة الإعلامية العالمية ضد الحركة الشعبية لتحرير السودان وضد حركات دارفور المسلحة.
أثناء العقدين الماضيين حدث في السودان عامة وفي دارفور خاصة تحول في الخريطة السياسية بظهور قوى اجتماعية جديدة: فالحركات المسلحة تمثل تطلعا شبابيا يعبر عن غبن اجتماعي وإثني وجهوي، وضعف وزن الإدارات الأهلية التقليدية لتخلفها روابط قبلية تحت قيادات جديدة، وتمدد الدور النسوي بصورة قلبت الميزان الجندري، وبرز الوعي بأهمية عدالة التقاسم في السلطة والثروة بين المركز والهامش، واتسعت الفجوة بين قلة محظية وقاعدة فقر عريضة، وصار للوجود المهجري دور قيادي أكبر.
هذه العوامل تتطلب تشخيصا جديدا للخريطة السياسية الاجتماعية لتحقيق توازن جديد في إدارة الشأن العام وإلا غذت ثورة قوى جديدة لن تكون بيضاء كما في تونس ومصر.
8. من الناحية العسكرية اتضحت في كثير من الميادين أن المواجهة غير المتكافئة بين قوات نظامية وأخرى غير نظامية لا تمكن القوات النظامية من توظيف تفوقها الناري والتكنولوجي بما يحقق لها النصر.
هذا ما اكتشفته أمريكا في أفغانستان، وإسرائيل في لبنان وغزة، والقوات المسلحة السودانية في دارفور؛ والنتيجة أن اللجوء للمواجهات العسكرية ضد حركات مجموعات وطنية دينية أو إثنية في ظروف العالم المعاصر تلفت النظر لرقابة لصيقة من جهات دولية معنية بحقوق الإنسان وتمنح المقاومة فرصا لنجاحات إعلامية كبيرة ولمقاومة عسكرية يصعب القضاء عليها بصورة نهائية.
9. هنالك عامل إستراتيجي هام ينبغي أخذه في الحسبان. ففي يوليو 2008م قدم وزيرالأمن الداخلي الإسرائيلي لافي دختر محاضرة كشف فيها أن أمن إسرائيل القومي لا يتحقق إلا بموجب تقسيم الدول العربية إلى دويلات على أسس إثنية ومذهبية ودينية.
وفي نفس العام نشرت مجلة القوات المسلحة الأمريكية على الانترنت خارطة الشرق الأوسط الجديد على موقعها الالكتروني مصحوبة بتقرير كتبه رالف بيترز الكولونيل السابق في الجيش الأمريكي، أظهر فيه تقسيم العراق إلى 3 دويلات: كردية في الشمال، وسنية في الوسط، وشيعية في الجنوب. وهكذا سائر البلدان العربية. أما بالنسبة للسودان فتقسيمه لخمس دويلات: دارفور- جبال النوبة- الشرق- السودان الجديد (الجنوب) – الشمال. هذا يعني أن العوامل الطاردة التي أدت إلى انفصال جنوب السودان ساهمت في تحقيق أهداف العدو الإستراتيجية، والذين يحرصون على الاستعداد لمعاداة دولة الجنوب الجديدة إنما يجندونها لتساهم بما تستطيع في تفكيك بقية السودان.
10. إن أكثر ما يساعد أعداءنا الاستراتيجيين هو مقولة القائلين بأنه بعد انفصال الجنوب سوف تصير هوية السودان واحدة إسلامية عربية ولا مكان لتنوع أو مساواة في المواطنة.
التنوع السوداني بعد انفصال الجنوب سوف يبقى كما هو مع تقليل في عدد الزنوج وفي عدد المسيحيين، وإجبار السودانيين على هوية دينية وثقافية واحدة سوف يؤدي لمطالبات بتقرير المصير على نفس نمط الجنوب. التنوع يتطلب توازنا عادلا كذلك القوى الجديدة المذكورة تتطلب استيعابا واقعيا.
* أما الذين انطلقوا من مواقف إسلامي بمقولة: إن الجنوب إنما فتحته سيوف المسلمين لذلك فإن تقرير مصيره حرام فإنهم بجهلهم الفاضح إنما يدعمون مقولة الجنوبيين الذين سموا الانفصال تحريرا من إمبريالية الشمال واستقلالا وطنيا.
الإسلام لم يدخل السودان بحد السيف أبدا إنما استماله ضياء الدعوة الإسلامية. أما الجنوب فقد دخل مع الشمال في وحدة طوعية بموجب قرارات مؤتمر جوبا في 1947م، وبموجب قرار البرلمان السوداني في 19/12/1955م الذي شارك فيه الجنوبيون. والحديث عن سيوف الإسلام هرطقة فارغة.
* آخرون من أهل الشمال رحبوا بانفصال الجنوب على أسس عنصرية باعتبار الجنوب وأهله سرطانا مؤذيا وعبئا ثقيلا على الشمال وانفصاله نعمة بلا حدود. هؤلاء غذوا الكراهية بين الجنوبيين والشماليين، ويغذون العداء بين أهل الشمال وأهل الجنوب، ويفوت على هؤلاء أنه حتى بعد انفصال الجنوب الجغرافي يوجد جنوب ثقافي ينبغي توفير العوامل الفعالة لاستمراره في وحدة طوعية مع الشمال، كما أن هنالك عدداً كبيراً من الجنوبيين الباقين في الشمال والذين هم سودانيون بالميلاد حتى إذا استقل الجنوب الجغرافي.
هنالك مصلحة كبرى لعدد كبير من قبائل الشمال الرعوية الذين تجبرهم ظروف المراعي في الصيف على عبور الحدود الجنوبية جنوبا ويتطلعون لتأمين مصالحهم بعد قيام دولة الجنوب الجديدة.
11. الذين يتحدثون عن الجنوب كسرطان تم بتره، والذين يتحدثون عن الجنوب كرقعة فتحتها سيوف المسلمين وأن تقرير المصير حرام، والذين يتحدثون عن الشمال بعد انفصال الجنوب باعتباره وطنا لهوية واحدة ولا مجال للاعتراف بالتنوع إنما يمهدون لعلاقات توتر داخل الشمال ولعلاقات عداء بين الشمال والجنوب وهم بذلك إنما يوفرون العوامل التي يستغلها أعداء السودان لتفكيكه:
لا يبلغ الأعداء من جاهل
ما يبلغ الجاهل من نفسه!
كان المسلمون تاريخيا أكثر الناس تسامحا مع الملل الأخرى ولكن ظروفا تاريخية معينة جعلت بعض الفقهاء والمفسرين يجنحون للتشدد بداء من الخوارج الذين كّفروا كل من خالف اجتهادهم إلى الذين اعتبروا آية أو آيات السيف الثلاث ناسخة لكل آيات التسامح وهي 150 في القرآن، وبذلك كّفروا كل من لم يقبل تأويلهم وأهدروا دمه.
عالم اليوم شهد على الصعيد الدولي درجة عالية من التسامح نتيجة معاناة الإنسانية من حروب الملل (الأديان) والنحل (الأيديولوجيات)، هذه الدرجة الأعلى من التسامح هي التي عبرت عنها مواثيق حقوق الإنسان العالمية، حقوق على كثرة مواثيقها ومعاهداتها تعود إلى خمسة أصول هي: كرامة الإنسان، والحرية، والعدالة، والمساواة، والسلام. وقد أثبت في كتابي “الإنسان بنيان الله" كيف أن الإسلام ومن نصوص الوحي فيه يقدس هذه الأصول، نحن أولى بالاعتراف بالآخر والتعامل معه بالتسامح ما يلزمنا بالتصدي القاطع للتأويلات الإقصائية وشرح معاني آيات التسامح ومقاصد التعايش في الإسلام، لا سيما ونحن في عالم اليوم نجد أن ثلث المسلمين يعيشون أقليات دينية في مجتمعات الآخرين ويتطلعون لتعايش وتسامح يصون حقوقهم، المطلوب هو تطوير فقه إنسانية الإسلام.
كذلك أدى مناخ التعايش والتسامح بين الأديان إلى زيادة انتشار الإسلام في العالم، إن الإسلام اليوم يفتح بسيرة محمد (ص) وبالقرآن ما لا يفتح بالسلطان على نحو ما قالت السيدة عائشة (رض) إن المدينة فتحت بالقرآن، والسودان نفسه فتحته للإسلام الدعوة لا الدولة، والعروبة نفسها لم تنشر كما جرى في التاريخ على أساس عنصري بل على أساس ثقافي على نحو ما قال النبي (ص): (ليست العربية لأحدكم من أم أو أب من تكلم العربية فهو عربي)، وجّدنا إسماعيل كنعاني خالط العرب وصاهرهم وأمه هاجر نوبية والكثافة السكانية من فينيقيين، وبابليين، وأقباط، ونوبيين، وزنوج، وبربر، استعربوا ووجدوا العربية وطنا ثقافيا لهم لأن العروبة تحررت من قيود الإثنية الضيقة وفتحت أبواب التثاقف الواسعة.
إن الذين يحاولون تكبيل العروبة بالقيود العرقية إنما يرتكبون خيانة قومية ويعارضون مقولة بطل العروبة الأول محمد (ص) إذ قال إن العروبة لسان.
هذا الفهم الإنساني للإسلام وللعروبة هو الذي يسعفنا في ظروف التعايش والتسامح مع الآخر داخل أوطاننا وعلى صعيد العالم.
12. إن لاستقرار دولة الشمال بعد انفصال الجنوب ومحافظتها على وحدتها استحقاقات ينبغي الإلمام بها وتوافرها باتخاذ خطوات استباقية لدستورها الدائم.
دستور اتفاقية نيفاشا وثيقة اتفاق حزبي ثنائي أملته رؤى أجنبية غير ملمة بالواقع القومي السوداني وقد وضعناه في الميزان في دراسة نشرت في مايو عام 2005م، ما عدد عيوبه التي كشفت عنها الأيام أثناء الفترة الانتقالية. وينبغي تجاوزه في المرحلة القادمة وتكوين لجنة قومية لكتابة دستور دائم جديد، دستور يرجى أن يلتزم بإقامة الدولة الديمقراطية المدنية وأن يوفق بينهما وبين المرجعية الإسلامية، وأن يلتزم باللامركزية الفدرالية، وأن يكفل الحريات العامة وحقوق الإنسان، وأن يستصحب مبادئ ميثاق يكفل التعايش بين الأديان وميثاق يكفل التعايش بين الثقافات، ويقيم آلية حقانية للحقيقة والإنصاف، دستور ينص على ضوابط عادلة لتقسيم الموارد، وعلى تقاسم السلطة، وعلى مفوضية لحراسة حقوق الإنسان، وعلى مفوضية مستقلة لإدارة الانتخابات، دستور تصوغه هيئة قومية شاملة للمكونات الحقيقية لخريطة البلاد السياسية، وتجيزه جمعية تأسيسية منتخبة انتخابا حرا نزيها.
13. هنالك بؤر خلاف بين دولتي السودان لا يمكن حسمها قبل نهاية الفترة الانتقالية كما لا يمكن حسمها في نطاق شريكي اتفاقية السلام، هذه البؤر ما بين عشر وعشرين يرجى أن تحال لمفوضية حكماء مكونة من شخصيات وفاقية مؤهلة وتفوض للتشاور مع كل الأطراف المعنية وتقدم توصيات لحل النزاعات المذكورة في بحر عامين.
14. التعامل بين دولتي السودان في المستقبل ركن أساسي لتحقيق السلام والتعايش والاستقرار فيهما، لذلك يرجى وبصورة استباقية الاتفاق على أسس علاقة خاصة بينهما وصفناها بالتوأمة وينبغي التداول بشأنها والاتفاق عليها قبل يوليو القادم لكيلا تترك العلاقة بين دولتي السودان نهبا للمجهول وبالتالي فرصة للأعداء المتربصين لنصب الفخاخ وتوريط البلدين في مساجلات صفرية تؤجج حربا باردة أو ساخنة تودي بالسلام الذي ما قُبل تقرير المصير للجنوب إلا لتحقيقه.
لا يمكن لدولة الشمال الاستقرار وبناء الوطن على أسس صحيحة ما لم تعالج أزمة دارفور المستفحلة، وهشاشة سلام الشرق، بل والتوتر الجهوي الموجود في سائر المناطق.
هناك فوارق إثنية وثقافية واقتصادية بين الجماعات السودانية، في دولة الشمال لابد من الاعتراف بالتعددية والتمييز الايجابي في خطة التنمية القومية وإلا ستبحث هذه الجماعات عن حماية وستجدها من الغرب وبذلك نكون دفعناهم دفعا للتناصر بالأجنبي.
هنالك إعلان مبادئ يستجيب لمطالب أهل دارفور المشروعة ويعمم الحقوق المنصوص عليها فيه لتحقيق العدالة والتوازن في كافة مناطق السودان. إنها هندسة لإدارة التنوع في معادلة تحقق التوازن والاستقرار وتسد كافة الثغرات التي تهدد الأمن القومي السوداني وتفتح مجالا للكيد الأجنبي.
أهم عامل عقّد مسألة دارفور هو محاولة حلها تحت سقف اتفاقية نيفاشا وهي محاولة للحل دون الاستحقاقات المطلوبة فإن دفعت منذ عام 2006م لحلت واستقر السلام:
رُبَّمَا تَجْزَعُ النُّفُوسُ مِنْ الْأَمْرِ
لَهُ فُرْجَةٌ كَحَلِّ الْعِقَالِ
15. إذا تقاعس السودان عن هذه الاستحقاقات فإنه سوف يفتح بابا واسعا لتكرار سيناريو الجنوب في أقاليم أخرى، ويشتبك مع دولة الجنوب في مساجلة صفرية خاسرة، ما يؤدي لاستقطابات عدائية إقليمية حادة تودي بالسلام في المنطقة وتجذب إليها كافة التناقضات السائدة في منطقة البحيرات العظمى، وفي القرن الأفريقي، وفي البحر الأحمر، وفي البحر الأبيض ما يوفر أثمن هدية للأعداء الاستراتيجيين. إن الوعي التام بهذه المخاطر ومآلاتها واجب وطني ملح ينبغي الإلمام به والتحرك السريع الحاسم لدفع استحقاقاته.
هندسة الديمقراطية والتوازن المطلوبة في دولة الشمال كذلك مطلوبة في دولة الجنوب والتحديات التي تواجه دولة الجنوب الجديدة أكبر من تحديات الشمال وربما ساعدها على التغلب عليها ثلاثة عوامل: فرحة الانتصار، والتعاطف الدولي، وتحلي قيادته بدرجة أقل من عنجهية الرضا عن الذات، فالاستعداد للتعليم.
16. إذا نحج السودان في إدارة التنوع داخليا فإن هذا يؤهله لدور تاريخي في أنموذج توحد يضم جناحي أفريقيا شمال وجنوب الصحراء، و يقوم بتجسير إيجابي لكافة المناطق التي يجاورها.
نجاح السودان هذا سوف يؤهله لدور رسالي يتجاوز به محنة الانفصال، أدواته:
* في حوض النيل السودان وحده الذي يملك أراضي شاسعة صالحة للزراعة، هذه الحقيقة مع توافر الثروة الحيوانية والمراعي تؤهله ليصير سلة غذاء المنطقة بجدارة ويساهم للدول المعنية لا سيما مصر وأثيوبيا في تحقيق الأمن الغذائي.
* السودان مؤهل لدور تصالحي في حوض النيل يمكن من استغلال الطاقة الكهرومائية في أعالي النيل الأبيض والأزرق لتوفير الكهرباء بأسعار منخفضة لكل دول الحوض بل ولتصديرها، ويتبنى السودان توحيد الشبكات الكهربائية لتحقيق ذلك.
* السودان يملك المخزون الأكبر للبترول في المنطقة ما يمكن من دور المصدر للمحروقات لكل دول المنطقة، والشريك الأكبر لدولة الجنوب لاستغلال بترولها.
* يستطيع السودان القيام بدور أساسي في التخطيط لجذب رؤوس الأموال العربية لدول أفريقيا جنوب الصحراء لا سيما في القرن الأفريقي، وشرق وغرب أفريقيا.
إنه المنفذ الأفضل لاستثمار تلك الأموال بعد أن اتضحت مخاطر الاستثمار في أوربا وأمريكا، هذا الأموال ما بين ترليون وترليونين دولار أولى بها الاستثمار في الفضاء العربي الأفريقي.
* ويتبنى السودان مشروع تبادل تجاري كبير لفتح الأسواق العربية للمنتجات الأفريقية الاستوائية كما يتبنى تبادلا تجاريا لفتح الأسواق الأفريقية لمنتجات عربية.
* إذا اتخذ السودان نهجا استراتيجيا لاحتواء أية آثار سالبة لانفصال الجنوب، وأقام علاقة خاصة ناجحة مع دولة الجنوب فإنه بذلك يقدم أنموذجا لعلاقة كنفدرالية لفضاء عربي أفريقي واسع.
لكل ما سبق هنا من تحليل ومقترحات فإن التحدي الذي يواجه السودان الآن يتطلب عبورا لعهد جديد عهد يحقق الديمقراطية والتوازن، واستيعاب القوى الجديدة، ويواكب التحولات الجديدة في المنطقة التحولات التي سوف تعصف بالقبضة الفاشستية التي حققت استقرار المقابر في المرحلة الماضية.
في ظروف السودان الحالية وما يحيط به إقليميا ودوليا إن الاستسلام لهوية أحادية تؤجج الصراع سيناريو انتحار ينبغي تجنبه لصالح هوية توفق بين التنوع والوحدة طوق نجاة للوطن.
نَخَلَتْ له نَفْسي النَّصِيحةَ إنّه
عندَ الشدائدِ تَذْهَبُ الأَحْقادُ
ولكن كان ولا يزال وسوف يظل ما قاله تعالى: (فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) [v]..
[i] سورة الروم الآية (2)
[ii] سورة هود الآية (118)
[iii] Ehnoglogue Language of the world- Sudan
http://www.ethnologue.com/show-country.asp?name=sudan
[iv] سورة يوسف الآية (111)
[v] سورة الأنعام الآية (33)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.