وضعني مقالي السابق بعنوان: (أين الرئيس.. قراءة في مشاهد من حرب هجليج) في مرمى نيران عدد من القراء الذين قاموا بالتعليق على المقال بموقع صحيفة "الراكوبة"، ومن بينها تعليق ورد بقلم لشخص مثابر يسمٌي نفسه بما يصف حالنا وحاله "قرفان خالص"، حيث خاطبني يقول : " لِمن تحاول أن تثبت وطنيتك؟ لنا أم للأنقاذ أم لنفسك ؟" ، وكتب آخر باسم مرتضى الشايقي ما هو أقسى من ذلك، حيث قال: " يعني ما نستغرب لو شفناك لابس الكاكي ومتقدم الصفوف الأمامية في هجليج وبتكبر مع الجماعة ما لِدُنيا قد عملنا نحن للدين فداء، ويجو ناس نافع يخطبوا فيكم ويوزعوا عليكم البرتقال والحلوى". والواقع أن هذه التعليقات على مرارتها لم تُغضبني بقدرما فعلت بي التعليقات التي أشادت بالمقال من منطلق سوء الفهم ذاته، بِجنس الكلام الذي يقول "كده الوطنية ولٌ بلاش فقد أحسنت التفريق بين معارضة الحكومة والوطن". ليست هذه المرة الأولى التي يُجبرني فيها تعليق قارئ للرجوع الى ما كتبته للوقوف على موطن العجز في التعبيرالذي قاد لسوء الفهم، فقبل بضعة شهور كتبت مقالاً بعنوان "الطيب مصطفى بصلاحية جمال فرفور" تناولت فيه وجه المفارقة في قيام مواطن ليست له صفة رسمية (الطيب مصطفى) بفتح بلاغ لدى نيابة أمن الدولة ضد ياسر عرمان يتهمه فيها بالعمل على تقويض النظام الدستوري والتخابر مع دولة معادية، وقلت أن ذلك كان من واجب المطرب جمال فرفورالذي كان قد جرى تعيينه في نفس تلك الفترة برتبة رائد في جهاز الأمن والمخابرات، ثم تلقيت رسالة غاضبة من قارئ قال فيها ( لقد ظلمت جمال فرفور لأنه صاحب أجمل صوت بين الشباب ويكفيه أنه تغنى برائعته "يا عصافير"). المقال المعني كان في مُجملِه عبارة عن تحليل وجرد لسلسلة الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها الانقاذ والتي قادت للوضع الذي تعيشه منطقة هجليج، وقلت أنها أخطاء شملت ثلاثة جوانب، أولها استراتيجية تمثلت في سعي الانقاذ إلى فصل الجنوب دون أن تدرك عواقب ذلك، وثانيها خطؤها السياسي بقطعها الطريق أمام المفاوضات، وثالثها خطأ عسكري باضعافها للجيش وتسييسه وتفريغه من كوادره المؤهلة بحيث أصبحت الدولة عاجزة عن الدفاع عن أراضيها، ويمكن الرجوع للتفاصيل لمن يريد بالاطلاع على المقال الموجود بارشيف كتٌاب المقالات بموقع "الراكوبة"، بيد أن الذي جلب علينا تلك الأوصاف، هو ما فهمه بعض القراء من أننا نقف وراء جيش (الانقاذ) في تأييد الحرب، وهذا غير صحيح، ونتيجة لسوء فهم بحسب ما سنتولى توضيحه لاحقاً. والحقيقة أن للقارئ ألف عذر في أن يكون في مثل تلك الدرجة من الحساسية تجاه كل حرف يكتب أو كلمة تُقال، فقد تسببت الانقاذ في خلق حالة من (الخلط) في المشاعر الانسانية بحيث أصبحت تحمل الشيئ ونقيضه في آن واحد، وقد كتبت عن هذه الحالة في مقال نشر قبل نحو اسبوعين بعنوان (الشماتة في الوطن)، وكان ذلك بمناسبة الاستيلاء على منطقة هجليج ذاتها وفي نفس اليوم الذي حدث فيه الهجوم، قلت فيه أن الانقاذ جعلتنا نفرح لما يصيب الوطن من كروب ومصائب، ونتقبل نتائجها التي تؤلمنا ما دامت تؤذي الانقاذ معنا، فالشعب يتمنى العودة لصفوف الرغيف والبنزين لكي لا تجد الانقاذ ما تُمِنٌ به عليه، ويضحك في شماتة وسخرية من ضعف الانقاذ وخنوعها الذي أقعدها عن استرداد حلايب والفشقة بأكثر من حسرته على المنطقتين، وليس هناك ما يجعل هجليج استثناء من هذه الحالة، فترابها لا يختلف عن التراب الذي ذهب قبلها، والبترول الذي يرقد في باطنها لا يهم ما دام الشعب يعلم أن عائده يذهب الى جيوب حفنة من اللصوص، وليس هناك ما يحمل الناس على الموت في سبيل نعيم تلك العصابة وهي تنتظر سماع خبر النصر من شاشة التلفزيون، ولا يسهمون في الحرب بغير زيارة الجرحى في المستشفيات. وهذا الخلط في المشاعر هو الذي يفسر الضيق من ورود أي عبارة تحمل ما (يُفهم) منها أنها تصب في مصلحة الانقاذ حتى لو كانت صحيحة، وهذ الحالة تتلبسني في نفسي مثل الآخرين، وكثيراً ما تمنيت أن تُخسف بنا الأرض نحن والانقاذ معاً، وهذه الحالة هي التي تفسر الغضب من العبارة التي وردت بالمقال والتي تقول بأننا ننتظر اليوم الذي نستعيد فيه أرضنا المسلوبة في هجليج وحلايب والفشقة، والتي فُهم منها تأييدنا للحرب، وبرجوعي للمقال وجدت نفسي اشارك الغاضبين غضبهم، فقد وجدت في العبارة ما يُمكن أن يساء فهمه على ذلك النحو الذي حدث، بيد أن ذلك يبقى مجرد سوء فهم وليس حقيقة المقصود، فالمقال اعتمد على تحليل الموقف من الزوايا التي سبق الاشارة اليها، بأكثر مما انصرف لمناقشة الخلاصات والنتائج، فتحليل الوقائع لا يعني الموافقة عليها، بقدرما يستعرض الحقائق كما هي على أرض الواقع سواء إتفق الكاتب معها أو إختلف. وإذا جئنا للرأي الذي لا يتزحزح عندي بعيداً عمٌا يثير اللبس، فإن الذي يُعيد لنا الأرض المسلوبة في هجليج وغيرها هو زوال الانقاذ لا قوة السلاح، لأن المشكلة ستظل قائمة بين البلدين ما بقيت الانقاذ، حتى لو تمكنت الانقاذ من إستعادة هجليج بالقوة العسكرية، فسوف تكون هناك مئة بؤرة أخرى غيرها سوف تشتعل طالما بقيت الانقاذ، وبزوال الانقاذ سوف تنتهي أزمة هجليج دون أن تطلق رصاصة واحدة من الجنوب أو الشمال، تماماً مثلما انتهت حرب التحرير الأريترية التي استمرت لسنوات طويلة بمجرد سقوط حكومة "منقستو" في إثيوبيا، فمشكلة حكومة الجنوب مع الانقاذ وليست مع شعب السودان، فنحن في الشمال والجنوب شعب واحد فرٌقت بيننا الانقاذ، فكلانا ضحايا الانقاذ، وهي اليوم تحارب الشعبين في وقت واحد. وبسقوط الانقاذ سوف تنتهي كل مشاكل الجنوب مع الشمال، ولن تكون هناك قضايا عالقة أو معلقة، ولن تشتعل حرب جديدة بين البلدين، فالانقاذ تهوى الحروب بطبيعتها، ولكنها تكره الجنوب والجنوبيين لله فلله، وقد قالها قبل أيام أحد عصبجية الانقاذ بأن المسيحي الأريتري أقرب اليهم من المسلم الجنوبي، وبسقوط الانقاذ سوف تنتهي جميع الحروب الأخرى التي تسببت في اشعالها العقليات المنحرفة التي تدير الحرب أيضاً في دارفور وكردفان والنيل الأزرق، فالمدفعية والقنابل التي تستخدم اليوم في هجليج هي نفسها التي كانت ولا تزال تقصف الأهالي في تلك المناطق. بسقوط الانقاذ سوف تضع الجبهة الثورية السلاح وكذلك ستفعل الحركات المسلحة في دارفور دون شروط وبلا مفاوضات، فتلك الجهات تحارب الانقاذ لما فعلته بهم من مظالم وما تركته في نفوسهم من مرارة ولا تحارب دولة السودان، فكل مشاكل السودان مربوطة في ذيل الانقاذ وستذهب معها، فهي التي شرٌدت الناس من ديارهم ووظائفهم، ودمٌرت الاقتصاد، وأجٌجت روح العنصرية والقبلية والجهوية، واحالت شعبنا الى معسرين وفقراء، وهي التي أدخلت جرثومة الفساد في جهاز الدولة وتحت سمعها وبصرها وفي غياب كامل للقانون. وقد أضحى إسقاط الانقاذ واجباً اليوم أكثر من أي وقت مضى، ويدفعني الى هذا القول ما سمعته قبل يومين في خطاب الرئيس البشير أمام جماهير مدينة الأبيض، الذي وصف فيه حكومة دولة مستقلة بأنهم حشرات، وقطع الوعد باسقاط حكومة الجنوب وتحرير أهلها منهم، فمثل هذا الكلام يشير الى أننا قد دخلنا مرحلة جديدة من مراحل غفلة حكامنا وجنونهم، فالرئيس يعلم قبل غيره أن تهديده يثير عليه الضحك والسخرية ومد اللسان في الشمال قبل الجنوب، فهو يعلم أنه قد فشل في هزيمة الحركة الشعبية حينما كانت تقاتل بالأسلحة الخفيفة والشخصية، وهي اليوم تمتلك دبابات وراجمات ومنصات صواريخ وطائرات مقاتلة، ولديها جيش نظامي بمثلما يمتلك جيش الانقاذ وربما أفضل، وليس في هذا التهديد ما يحملنا للوقوف عنده طويلاً، فمثل هذا الكلام كان يقال له في المدارس الابتدائية زمان (هرجلة)، ولكنه يطرب أهل الانقاذ ويزيدهم نشوة وصياح وزعيق، ولكن لنا من الوقوف عند خطورة الطريق الذي تمضي فيه عقلية الانقاذ في ادارة البلاد، فهو تفكير يبشرنا بليل طويل، ومشوار من العنف والحروب بلا نهاية، وهناك في الطريق مئة سبب ومطب في العلاقة بين البلدين لا تقوى مثل هذه العقلية على تجاوزها، وفي مقدمتها مشكلة أبيي والحدود المختلف عليها، ولذلك لا بد أن تنصرف جهودنا لاسقاط النظام بكل الطرق الممكنة اليوم قبل الغد لتلافي هذه المصيبة التي حلت بنا ولنكتب النهاية لمحنتنا التي طالت. ولكن تبقى هناك حقيقة يجب أن تُقال حتى لو أسيئ فهمها، وهي أنه ليس من الحكمة أن نستعدي الشعب ضد القوات المسلحة، فهي الأخرى ضحية من ضحايا الانقاذ، وقد عملت الانقاذ على تسييسها وتفريغها من معظم كوادرها المهنية، واستبدلت كفاءاتها العسكرية التي توارثت التجربة بقادة من الدراويش الملتحين الذين أفسدوا العسكرية وأضاعوا هيبتها وانضباطها، ولكننا في المقابل نعلم بأنه لا يزال هناك كثير من الشرفاء والوطنيين الذين لا زالوا بالخدمة، ونحن نعقد عليهم الأمل في أن يكون لهم دور في التغيير، تماماً مثلما كان الشعب السوري يعتقد أن جيشه عبارة عن عصابة تعمل لحماية نظام الأسد وشبله لأكثر من أربعين عام، فتفاجأ بخروج آلاف من الأبطال من جوفه (الجيش الحر) الذين انشقوا عن جيش النظام وإنبروا للدفاع عن ثورته الشعبية وحمايتها. ان الحكمة تقتضي أن ننادي بهدم جيش الانقاذ لا بهدم القوات المسلحة ، وعند سقوط الانقاذ سوف يتسنى لنا اعادة بناء القوات المسلحة وتطهيرها من الدنس الذي أصابها، وعودة الذين فصلوا للصالح العام من الراغبين والقادرين على العمل من الضباط والجنود، وينطبق هذا الحال على قوات الشرطة وأجهزة الدولة الأخرى، فينبغي علينا ألاٌ نكرر الخطأ الذي ارتكبناه في أعقاب ثورة ابريل بتصفية وتسريح جميع أفراد جهاز أمن الدولة بجرة قلم في ليلة واحدة دون تمييز بين رجال الوطن ورجال مايو، وسرعان ما اتضح للحكومة الديمقراطية خطأ ذلك القرار، التي حاولت انشاء جهاز جديد لأمن الدولة دون أن تفلح في ذلك، حيث عهدت به الى من ليس لديهم خبرة ولا معرفة بما يجري في دنيا المخابرات وحصاد المعلومات التي تحمي الحكم من لصوص السلطة، تهورات، وهكذا ظلٌ ظهر الحكومة الديمقراطية مكشوفاً، حتى استطاع شخص مثل عمر البشير بمعاونة (300) عنصر اسلامي من الاستيلاء على السلطة في انقلاب كان يجري التخطيط له في العلن، دون أن يعترضهم عسكري دورية. وفي الختام، لا بد من القول بأنه ليس لدينا حزب سياسي لندعوا له أو لنخطب من أجله وُد القراء أو جذبهم اليه، ولكننا نعمل بكل ما في وسعنا من أجل الوطن والخروج به من هذه المحنة التي إسمها الانقاذ، ورفع الظلم الذي يقع على البلد وأهله، فقد جربنا الظلم في انفسنا وكنا من أول ضحايا الانقاذ، ليس بفقد الوظيفة، ولكن بتشريدها لنا بالعيش خارج الوطن لربع قرن هو عمر الانقاذ، حرمتنا فيها من العيش وسط أهلنا وأحبائنا، ولم يتيسر لنا وقوفنا على قبور أمهاتنا وآبائنا وذوي القربى الذين رحلوا عن هذه الدنيا من ورائنا، ولا زالت دموعنا تملأ وساداتنا حزناً عليهم وعلى حالنا كل ليلة، ولكن ما أصابنا من ظلم بيد الانقاذ لا يقاس بما ظلمت به الآخرين، فقد أزهقت الانقاذ أرواحاً أحق بالحياة مننا ، فقد قتلت شباباً نضراً من طلبة وطالبات المدارس والجامعات، وتعرٌض كثير من اخواننا وأبناءنا للتعذيب الوحشي في بيوت الأشباح، وإغتصبت الحرائر، وإمتهنت كرامة الرجال، فنحن في خندق واحد مع القراء الذين عابوا علينا ما كتبنا، وما نقوم به من كتابة هو محاولة في المساهمة بالتبصير بما يحيق ببلادنا ويقودها الى الهاوية ان لم تكن قد بلغتها بعد. ولا أتمنى اليوم الذي أضطر فيه لكتابة مقال لشرح ما قصدته في مقال سبقه، والحقيقة أنني ما كنت لأفعل حتى هذه المرة لو أن الأمر لم يبلغ حد وضعي في صفوف الانقاذ ولو ليوم واحد، حتى لو كان ذلك على حساب انتمائي للوطن، فحريقة في (وطنيتي) اذا كان ثمنها الوقوف في صف واحد مع الانقاذ. سيف الدولة حمدناالله [email protected]