ثمة صنف من الناس يخلقون لأنفسهم أوزاناً، ويصطنعون أهمية، يعززونها بهالة من القداسة الزائفة، والاحترام المُنْتَحل. وأحد أولئك هو رئيس البرلمان السوداني أحمد إبراهيم الطاهر، وهو قانوني التعليم والمهنة، عرف بانتمائه إلى حزب الإسلام المسيس منذ عهد الطلب. ولم يكتسب أي قدر من الشعبية والنجاح أثناء عمله محامياً في عاصمة الغرب السوداني الوسيط (مدينة الأبيّض). وظل مجهولاً طوال سنوات عمله في نظام "الجبهة الإسلامية القومية"، وهو الاسم الذي اتخذته جماعة الإسلام المسيس واجهةً قبل الانقضاض على الديموقراطية الثالثة في البلاد. وظنّ الطاهر أن موعده مع أقدار النجاح والنفوذ حلّ يوم انضم إلى من قرروا الإطاحة بشيخ الإسلام المسيّس الدكتور حسن الترابي من قيادة النظام، إذ وقع الاختيار عليه ليخلف شيخه المعزول في رئاسة البرلمان، وهي وظيفة يتهافت عليها أرباب الفكر العقائدي ممن كان تأهيلهم حقوقياً، إذ يحسبون أن التحكّم بخيوط التشريع هو مفتاح السيطرة على المجتمع والرعيَّة. وفي عقيدة غلاتهم - والطاهر في مقدَّمهم - أن سن الأنظمة والقوانين هو الأداة لتغيير شخصية الأفراد وفقاً لعقيدة الحزب. وطفق الرجل يتضخم ذاتياً حتّى أضحى منعزلاً في برج عالٍ، وانقطعت صلته بواقع الشعب، وحقيقة ما يواجهه العامة من ضنك في معايشهم، وصعوبات تعترض حياتهم وأشغالهم. ولم يعد يراه السودانيون إلا وهو جالس على كرسي رئاسة البرلمان، أو في المناسبات التي يصطفيها النظام لمشاركته، كاجتماعات تفويج أرتال التجنيد الإجباري أو مجندي ميليشيا الدفاع الشعبي، وكلها محارق يزج فيها النظام أبناء أفراد الشعب، بدعوى زفَّهم شهداء إلى "بنات الحور"، وتنسُّم عبير الجنة! ولا يطيق مثل هذا الرجل أي كلمة تمسه بالانتقاد في الصحافة الذليلة للحكومة وحزبها الحاكم. فقد هدد أكاديمياً محسوباً على الإسلاميين بمقاضاته، بعدما كتب الأخير مقالاً أشار فيه إلى المخصصات المالية لرئيس البرلمان، وهو راتب يفتح له أوسع الأبواب للانضمام إلى زمرة الأغنياء، فيما تتأخر رواتب المعلمين والمتقاعدين والأطباء والممرضين. وكطبع غالبية قادة الإسلام المسيّس في زفارة اللسان، لم يوفر رئيس البرلمان إهانة دون توجيهها إلى الكاتب الأكاديمي الذي ميّز نفسه وسط أجيال محازبيه بمعارضة الانقلاب العسكري وأساليب إدارة الحكم التي انتهجها الحزب بعد انتزاعه السلطة بقوة السلاح، غير آبه إلى أن الكاتب المخضرم تجاوز عقده السابع، ولم يعد يرجو لنفسه مغنماً سوى لقاء وجه ربه بما صَلُحَ من قولٍ وفعلٍ وعملٍ. وآخر ما أسفر عنه رئيس البرلمان من وجوهه المتقلبة، حَمْلُه أعضاء البرلمان على التصويت بالإجماع لمصلحة قرار يعتبر جنوب السودان "عدواً" لجمهورية السودان الشمالي. وزاد في مغالاته بحض النواب والشعب على التحرك للإطاحة بحكومة الحركة الشعبية التي تحكم جنوب السودان. ولا يعرف أحد كيف سينفّذ رئيس البرلمان الشمالي تلك الاستراتيجية الانتقامية. هل سيسعى إلى استصدار فتاوى برلمانية تجيز للحكومة الشمالية غزو الجنوب والاستيلاء عليه؟ أم أنها "هَوْجَةٌ" حمقاء لا تلبث أن تذبل في أذهان العوام ويطويها النسيان؟ ومهما كان شأن مصير تلك الدعوة، إلا أنها تمثل تأسيساً لعداوة رسمية بين دولتين لم يمض على انفصالهما بعد سلسلة من المعارك الدموية سوى أقل من عام. ومن شأن تلك الدعوة أن تزيد اضطرام الخصومة على المستوى الشعبي بين البلدين، وليس على المستوى المؤسسي الرسمي، الذي مهما كان بأس أمثال هؤلاء الشريرين فإن الظن ينصرف إلى أن اتجاهاته قابلة للتغير، والجنوح إلى السلم بتبدل الأزمان والأشخاص. بيد أن ممارسة التحريض على المستوى القاعدي الشعبي ستواصل شحن الأنفس بالبغضاء والمقت والانتقام عقوداً تأتي، وقد لا تتبدل هذه الحال وإن تبدلت وجوه الحكام وسياسات الحكومات. كل هذه الأشياء ليست مستغربة على أحمد إبراهيم الطاهر، فهو تجسيد لتنحية إرادة الشعب، وتغييب الحريات، ومصادرة الرأي الآخر. وهو إلى جانب قدراته الإقناعية - بحكم تأهيله القانوني وسيرته المهنية - يعتقد بأنه الحارس الأوحد للدين والفضيلة، وأنه مصطفىً لرئاسة المؤسسة التشريعية ليكون قيماً على الدين في السودان وما ورائه، حتى لو كان ذلك يتطلب إراقة أنهر من الدماء، والتضحية بملايين الأرواح التي سَيُلْقَى بها في التهلكة تحت دثار إعلاء كلمة الله في أرض السودان. ويحسب الطاهر أنه بقيادته الوهمية لحرب شمالية تستهدف غزو الجنوب والقضاء على حكومة الحركة الشعبية سيفتح الباب الذي أغلقه انهيار سطوة الترابي لأسلمة الجنوب، ونشر الإسلام بالكلاشنكوف في أفريقيا السوداء، خصوصاً أوغندا التي أعلنت أنها ستلقي القبض على رئيس محفل الإسلام المسيّس عمر البشير لتسليمه إلى محكمة الجنايات الدولية التي تتهمه بارتكاب جرائم يندى لها جبين البشرية. وسيعيد الطاهر ورصفاؤه نظام حكمهم إلى سيرته الأولى، في تصدير الثورة، وقلقلة الأنظمة في الدول المجاورة، وتسهيل تنفيذ تلك الأوهام بإقامة تحالفات مع الدول المثيرة للجدل والعداء العالمي كإيران وكوريا الشمالية. غير أن الرجل لم يفطن إلى أن المشهد مختلف تماماً عما كان إبان عصر الترابي. فقد أضحى الجيش النظامي المجاهد سابقاً في الجنوب ينسحب تكتيكياً من أول طلقة تستهدف قواته التي تحرس أكبر حقول النفط الشمالية. و"الانسحاب التكتيكي" هو اسم "الدلع" الإعلامي للهروب والهزيمة! كما أن الحصار على دولة المحفل أضحى محكماً تماماً هذه المرة، معززاً بنفور شعبي غير مسبوق، وإجماع في الداخل على عدم تصديق إعلام النظام، والتفاف كامل حول الاقتناع بأن الحروب التي يذكيها النظام في النيل الأزرق ودارفور وجنوب كردفان هي حروبه وحده، ويجب أن يحترق بنيرانها وحده، وأنه لكي يبقي لظاها متقداً سيضطر إلى أن يُلْقِمها جلود بعض أقطابه، وفي مقدمهم الطاهر ونافع علي نافع ووزير الدفاع الذي ما قاد فريقه العسكري في معركة إلا انتهت بالانسحاب التكتيكي. يستحق رئيس برلمان السودان الشمالي مكانه الطبيعي في التاريخ، باعتباره أحد القادة السودانيين الذين نبغوا في ابتداع أدوات إيذاء الشعب، وتنغيص عيشه، وتفريق بنيه، وحرمانه من أوكسجين الحرية، والحياة الكريمة. ولا شك في أنه سيبقى في ذاكرة الأجيال كأحد أكثر من يمقتهم الشعب السوداني، وأحد الذين استغلوا معارفهم الحقوقية في سلب حقوق الشعب، وتعبيد الطريق لرجال الدين المسيّس ليدمروا السودان بشراً وأرضاً وإمكاناتٍ. * صحافي من أسرة «الحياة». [email protected] دار الحياة