مدير مركز الدراسات السودانية استيقظ السودانيون صباح الخميس 22تشرين الثاني/نوفمبر2012 علي صوت دبابات ومدرعات في الشوارع الرئيسية للعاصمة الخرطوم.ولأن الأوضاع السياسية مفتوحة علي كل الاحتمالات،بدأت التكهنات تتري في كل الاتجاهات. وكانت المفاجأة العظمى حين أعلن الناطق الرسمي عن "إجهاض محاولة تخريبية" وقد تم اعتقال الفريق (م) صلاح عبدالله المعروف بصلاح قوش،وهو رئيس المخابرات السودانية لسنوات طويلة؛ومعه13 ضابطا وكلهم من المؤيدين الصلبيين للنظام. وخلال يوم تحولت التسمية-بعد تردد-إلي "محاولة إنقلابية".وبدأ الطرف المؤيد يسرب صفة "الحركة التصحيحية" ويسخر من صفة "تخريبية" بالقول أن النظام لم يترك شيئا يمكن أن يخربه القادمون! لم تكن المحاولة الإنقلابية ساذجة لهذه الدرجة،خاصة وأن القائم بها رجل أمن محنك وقدير،ولكنها الثقة المفرطة.فقد كان الإنقلاب يمثل الحل الوحيد الممكن وبكلفة قليلة،للأزمة السودانية.وهذا هو مخطط الهبوط الناعم(smooth landing) الذي ظلت الدوائر الغربية تقترحه منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي. خاصة وأن(قوش) قد أسس لعلاقة تعاون جيدة مع الأجهزة الأمنية الغربية،كانت بواكيرها مع تسليم (كارلوس) لفرنسا ثم جاء عهد (قوش) ليدشن التبادل السري للمعلومات مع المخابرات المركزية الأمريكية، حسب تقارير بعض الصحف الأمريكية في أيلول/سبتمبر2001.وكان المبعوث الأمريكي للسودان(ليمان) قد صرح قبل فترة قصيرة بأن بلاده مع التغيير في السودان ولكن تخشي عليه من مزيد من التفكك والعنف.وقد حذر – صراحة-ويجب التغيير". وأكد علي دعم حكومته للتغيير والإصلاح الحقيقي الذي يعالج أزمة الحكم، وأن بلاده لا ترغب في أن يؤدي ذلك إلي حرب أهلية أو تفكيك السودان. وشدد علي أهمية مشاركة جميع الأطراف في التغيير. وأضاف: "قوي الإجماع الوطني والجبهة الثورية يجب أن يكون لديهما منبر قومي للإجابة علي كيفية حكم السودان". (ندوة جامعة كولومبيا10/12/2012) وهذه إشارة للتخلي عن الهبوط الناعم من خلال إنقلاب القصر.فقد كان واضحا أن الإنقلابيين يعبرون عن إتجاه إسلامي "إصلاحي". كان قد هزم قبل أيام قليلة في مؤتمر الحركة الإسلامية(15-18/11/2012) كانت المحاولة الإنقلابية عملا استباقيا لأي انتفاضه شعبية تجمع بين العمل السلمي والمسلح.فالنظام يعيش أزمات متعددة خانقة مما يجعل الدولة غائبة تماما.فقد ظن النظام أن فصل الجنوب يخلصه من عبء كبير،ومن عقبة تمنعه من إقامة دولة إسلامية صافية.ولكن فصل الجنوب فاقم من أزمة النظام الإقتصادية بفقدان موارد النفط.وفي نفس الوقت،لم يتحقق السلام وظل خطر الحرب قائما لأن اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) تركت كثيرا من القضايا الحساسة معلقة.أما العملة فقد فقدت قرابة 90% من قيمتها، ووصل التضخم إلي أكثر من 45%، وتزايدت أعداد من يعيشون تحت خط الفقر.فالأزمة الإقتصادية يصعب الخروج منها مع الصرف البذخي بالذات علي الأمن،والدفاع،والقطاع السيادي مع تفشي الفساد. وهي كفيلة بتحريك الجماهير غير المسيسة. تصاعدت الأزمة في دارفور وعاد النظام إلي الأساليب القديمة أي اللجوء للحل الأمني.مما يعني قصف القري الآمنة والاعتقالات التعسفية. وعادت المحكمة الجنائية الدولية للتهديد بإضافة تهم جديدة للمسؤولين السودانيين.إذ يبدو ان اتفاقية(الدوحة)قد فشلت بسبب عدم عودة النازحين لقراهم.كما أقر التنفيذيون بنقص التمويل لصندوق إعادة الإعمار والتنمية،إذ لم يبد الممولون حماسا واضحا لعدم إكمال عملية نزع السلاح.بل تزايدت الهجمات علي قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي.وقبل فترة قصيرة،اتهمت حركة العدالة والحرية الموالية للنظام،الجيش الحكومي بقصف قواتها.وهذا يعني باختصار،ان الحرب في جبهة دارفور سوف تشتعل في أي لحظة.وستجد القوات المسلحة نفسها في وضع لا تحسد عليه.فهي قد انهكت في حروب في جبهات متعددة،مع وجود مليشيات غير نظامية.وقد كشفت الضربة الصهيونية لمصنع( اليرموك) للتصنيع الحربي،عن حقيقة استعدادات القوات المسلحة السودانية. كان النظام يراهن علي تماسك الجبهة الداخلية مع ضعف المعارضة. ولكن التماسك الداخلي اصابته انشقاقات خطيرة بدءا من المذكرات الاحتجاجية علي أداء الحكومة والتي دفع بها إسلاميون وحتي المحاولة الإنقلابية التي ستكون لها تداعيات بعيدة المدي.أما المعارضة،فرغم أنها تمثل الأغلبية العددية،ولكن مشكلتها في خطأ الاولويات والآليات.بالنسبة للأولويات،فالمعارضة مشغولة أكثر بترتيبات المرحلة الإنتقالية ووضع الدستور الإنتقالي قبل أن تقوم بإسقاط النظام! وفي هذه الحالة تهمل البحث عن الآليات الصحيحة والفاعلة لاسقاط النظام.وهذا ما يجعل بعض فصائل المعارضة تفتعل تناقضات مع الجبهة الثورية التي تحمل السلاح في وجه النظام.مع أنه من الممكن أن يسمح لكل فصيل بتحديد وسيلة المقاومة والمعارضة.ولكن المشكلة تكمن في وجود فصيل مثل (حزب الامة)بقيادة الصادق المهدي يصر علي فرض استراتيجية"التغيير السلمي بالضغوط"ويخشي أن يعتبره النظام محبذا للعمل المسلح.ومن هنا وجدت المعارضة المدنية،ممثلة في (قوى الإجماع الوطني)نفسها في مماحكات شلتها عن اختيار الآلية الصحيحة لإسقاط النظام وليس مجرد تغييره سلميا،مع ترك كل الخيارات مفتوحة ولظروفها. وسط هذا الارتباك الذي يعيشه النظام والمعارضة،كان لابد أن يظهر بديل،وتقدمت القوي الشبابية والطلابية لتقود احتجاجات الصيف الماضي. ولكن الانتفاضة توقفت في مهدها لأن القوى السياسية التقليدية لم تسندها. وظل الغضب الشبابي متقدا ولكنه كامن.حتي جاءت أحداث قتل طلاب جامعة الجزيرة الأربع ،يوم 3/12/2012بطريقة وحشية وعنصرية في نفس الوقت.فهم ينتمون إلي إقليم دارفور.واستغل طلاب الجامعات في العاصمة وجماعة (قرفنا) الشبابية، مناسبة التشييع في الأحد9/12/2012 ،للقيام بتظاهرات اعادت للأذهان انتفاضة الصيف الماضي.وهذه المرة ظهرت بوادر مناصرة من القوى الممثلة في الإجماع الوطني حيث تم اليوم اعتقال رئيسه لفترة.ويظل المشهد السوداني مفتوحا ولا يخلو من مفاجآت بالطريقة السودانية. [email protected]