الشعوب المنكوبة بنظم حكم مستبدة قد تكظم الغيظ قليلاً أو كثيراً، لكنها أبداً لا تتصالح مع واقع الاستبداد الغاشم ولا تسمح له بأن يصادر حلمها بالحرية والحياة الكريمة .. الحراك الجماهيري التحرري الباسل الذي تشهده العديد من مدن السودان يؤكد أن جذوة الحرية لا تموت وإن تراكم عليها الرماد. في المؤتمر الصحافي الذي عقده جهاز الأمن والمخابرات مساء أمس الأول أرجع مدير الجهاز انفجار الحراك الجماهيري ضد نظام الإنقاذ إلى أشخاص تم تدريبهم بواسطة الموساد الاسرائيلي لنسف الاستقرار في السودان .. هذا حديث مضحك ويعكس عقدة الإنكار التي يعاني منها نظام الإنقاذ، كما كل النظم المستبدة .. ولأنه حديث لا يقف على ساقين، سرعان ما نسفه مدير الجهاز بنفسه - في نفس المؤتمر الصحفي - حين صبّ جام غضبه على الجهاز التنفيذي وقصوره وفشله في أداء واجبه، وقال فيما قال: "عندما اندلعت المظاهرات في عطبرة لم يكن هناك جوال دقيق واحد، و جميع عربات نقل الدقيق كانت في صفوف الجازولين في الخرطوم .. من حق الناس أن تحتج خاصة بعد أن أصبحت الرغيفة بثلاثة جنيهات"!! لقد حكم نظام الإنقاذ بسلطة مطلقة على مدى ثلاثة عقود أوغل خلالها في القهر والبطش وأسرف في إنتاج الفشل حتى انتهى بالسودان إلى دولة تحتشد فيها كل معالم توصيف الدولة الفاشلة، ولكنه الآن يواجه لحظة الحقيقة أمام الإرادة الشعبية الطامحة للتغيير ولن تسعفه التدابير الأمنية - المتمثلة في القمع والبطش وإعلان حالة الطواريء وإحكام الرقابة على الصحف وقطع خدمة الإنترنيت وغيرها - لإيقاف نهر الحراك الجماهيري الذي لا بد له، في لحظةٍ ما طال الزمن أم قصر، أن يصل إلى مصب الحرية والحياة الكريمة .. وذلك هو درس التاريخ المتكرر الذي لا تفهمه أنظمة الطغيان إلا بعد فوات الأوان. الملحمة البطولية التي تشهدها شوارع السودان الآن تضع أطياف المعارضة وكل قوى التغيير أمام اختبار تاريخي ولا تترك لها غير خيارٍ واحد هو الارتفاع لمستوى هذه الملحمة بتجاوز تبايناتها الثانوية والتعجيل باتفاق توحيد خطابها وجهودها لمواصلة الحراك الجماهيري وتوسيع رقعته وتصعيده في اتجاه إنجاز التغيير المنشود. المجد للآلاف تهدر في الشوارع كالسيول، والنصر لهم .. للشهداء الرحمة، ولهم الخلود بأحرفٍ من نور في كتاب تاريخ الوطن.