طالما ان مبدأ قيام لجنة تحقيق مستقلة بإشراف إقليمي ودولي للتحقيق في مجزرة فض الاعتصام قد أصبح متفقاً عليه في تفاهمات ق ح ت والمجلس العسكري ، كان الأجدر إلغاء لجنة النائب العام (المعين) والصمت عليها وعنها بدلاً عن هذا التقرير المخجل المحزن المتهافت الكذوب .. غير ان الإصرار على نشر التقرير كان له مردود إيجابي للغاية اذ اشتعلت البلاد ببيانات الإدانة والرفض من كافة الكيانات الحزبية والنقابية/المهنية ، وبالمظاهرات الشعبية الداوية ، وكان ذلك (تمريناً) جيداً استعداداً لمعركة أخرى كبيرة أيضاً ومصيرية هي معركة استكمال المدنية .. التحقيق في أمر مثل هذه المذبحة المروعة وما رافقها من انتهاكات دامية ، ومحاكمة مرتكبيها محاكمة عادلة وصارمة ، فيه انتصاف للضحايا وذويهم وتهدئة لروع المجتمع وإنفاذ للقانون نصاً وروحاً ، ورغم الأهمية القصوى لكل ذلك ، إلا أن الأمر في مجمله معركة من معارك المصير الكبرى التي يخوضها شعب السودان نساءاً ورجالاً منذ ديسمبر 2018 .. ومن أهم تلك المعارك معركة (المدنية) المرفوعة شعاراً ونداءاً أبدعت القريحة الشعبية في اختصارها "مدنياااو" .. غير أن المدنية لا تعني مدنية أجهزة الحكم فقط (تشكيل حكومة مدنية والتواجد في المجلس السيادي ولو بأغلبيته ورئاسته) ، المدنية في جوهرها المهم هو خضوع كافة القوى العسكرية والأمنية للسلطات المدنية خضوعاً تاماً في عقائدها وسياساتها وممارساتها وأن تأتمر بأمرها دون أية مغادرة لمهامها وتخصصاتها أو الاعتداء على المجالات المدنية خاصةً السياسية منها .. قبول الثورة ، جماهيرها وقياداتها ، بوجود مجلس عسكري في قيادة البلاد جسراً للفترة الانتقالية لم يكن مجرد قبول بأمر واقع وإنما أيضاً لدواع أمنية وسياسية تتعلق بأوضاع البلاد وقواها القيادية ، غير أن ذلك لا يعني أن يتغول المجلس العسكري على مهام القيادات السياسية المدنية ، أن يدخل في محاصصة وزارية مع ق.ح.ت ويقول أن وزارتي الدفاع والداخلية من حصته وهو الذي يتولى تعيين وزيريها !! ، بل ويمضي المجلس العسكري لأبعد من ذلك بالقول أنه من سيتولى مهمة إعادة تأسيس القوى العسكرية والأمنية في البلاد !! . تعيين وزيري الداخلية والدفاع من مهام رئيس الوزراء الذي قد يعين ضابطاً من القوات المسلحة للدفاع وآخر من الشرطة للداخلية ، قد يفعل ذلك لأسباب موضوعية وذاتية تتعلق بالثورة وأوضاع البلاد عموماً ، رغم أنه أيضاً غير صحيح في ظل الأوضاع الديمقراطية المستقرة .. ق.ح.ت قد تقبل بمثل هذا التعيين ولكن بواسطة رئيس وزرائها القادم ، أي بواسطتها هي وليس بواسطة المجلس العسكري .. كذلك ، مهمة إعادة بناء الأجهزة الأمنية والعسكرية وصياغة عقائدها ومناهجها وأهدافها هي من مهام الدولة المدنية وسلطاتها السياسية ، هي التي تباشرها مستعينةً بمن تستأنس فيه الدراية والخبرة والاقتدار من منسوبيها ممن في الخدمة أو بالمعاش .. كل ذلك يعني أن الثورة ترفض تدخل المجلس العسكري في تكوين الحكومة المدنية ، تعيين وزيري الدفاع والداخلية ليس من مهامه حتى ولو سيكونا من ضابطين من الشرطة والقوات المسلحة ، يعينهما رئيس الوزراء ويكونان مسؤولان أمامه .. كذلك ليس من مهامه إعادة تكوين الأجهزة العسكرية والأمنية ، كلها مهام سياسية طالما أن العزم منعقد على أنها ثورة جذرية وشاملة ، ثورة تأسيس للديمقراطية المستدامة التي تظللها رايات العدالة والسلام ، كلها مهام سياسية ستضطلع بها قيادة الثورة مستعينةً بمن تراه من خبراء وطنيين من أبناء تلك الأجهزة ممن هم في الخدمة أو بالمعاش ، وبمن تراه من السياسيين عبر مؤتمرات خاصة أو دستورية .. وهذه هي المعركة القادمة التي كان (تمرينها) الهام هو التظاهرات الشعبية العفوية القوية التي انتظمت المدن والأحياء (وكأنها كانت في جداول تجمع المهنيين) ، وسيل البيانات والتصريحات والمقالات الناقدة والمستهزئة في وجه النائب العام ، في وجه تقريره السطحي المرتجف كذباً وتزويرا .. المدنية ، مدنياااو ، هي حالة أو صفة الدولة التي تكون مسؤولة عن الحكومة بكل كياناتها المدنية والعسكرية والأمنية ..