نجح المحتجون الشجعان والمثابرون في السودان، الذين كسروا قبضة السلطة التي كان يحتفظ بها الرئيس عمر البشير منذ ثلاثة عقود، في وضع الإصلاحيين المدنيين على المناصب القيادية. ربما يتم التغاضي عن أهمية هذه اللحظة من أي شخص يتوقع أن يكون الانتقال الديمقراطي أشبه بحدث رئيسي مثل سقوط جدار برلين، إن الانفتاح الديمقراطي للسودان ملتبس ومحفوف بالمخاطر، إلا أنه ليس أقل أهمية من الناحية التاريخية. في الخرطوم، يجلس القادة العسكريون إلى جانب المسؤولين المدنيين في ترتيب انتقالي يجعل الجميع يشعر بالقلق. فالجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف ب " حميدتي"، عضو في المجلس السيادي الذي سيقود البلاد حتى الانتخابات المقرر إجراؤها 2022. وكان حميدتي قائدًا لميليشيا الجنجويد التي دمرت مجتمعات الفور والزغاوة والمساليت في دارفور غرب السودان منذ أكثر من عقد. وهو الآن يرأس ميليشيا بالوكالة كانت مسؤولة عن مجزرة المحتجين في يونيو. ولا ينبغي لأحد أن يشك في أن أي تقدم ديمقراطي يمكن تدميره بناءً على قيادته. ورغم أن حميدتي عضو في المجلس السيادي، فقد تقدم رئيس الوزراء الذي اختاره المتظاهرون المؤيدون للديمقراطية، الاقتصادي عبد الله حمدوك، ببناء مجلس تكنوقراط أكثر تنوعًا مما شهده السودان. والثلاثاء الماضي، ظهر وزير العدل الجديد، نصر الدين عبد الباري، نيابة عن حكومته في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف ليقول "نعتقد أن السلام لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تعاملنا مع الأسباب الجذرية لحروب السودان، وهي تهميش الدولة للأطراف. " وبالنسبة للسودانيين وكل من يتابعون هذا البلد، من المستحيل سماع هذه الجملة التي يتحدث بها علنًا مسؤول سوداني. ومنذ الاستعمار البريطاني وما بعده، تم إقصاء من هم على مناطق الهامش، ما يعرف الآن بجنوب السودان، إلى جانب المناطق الثلاث، دارفور وشرق السودان، من السلطة. وترتبط عقود من الحرب ووفاة الملايين من السودانيين بهذه السبب الجذري المشترك. وما يجعل الاعتراف بهذا الواقع أكثر وضوحا هو أن عبد الباري هو نفسه من قبيلة الفور. وفي العام 2004، عندما وقف وزير الخارجية الاميركي آنذاك كولن باول أمام مجلس الشيوخ لإعلان أن الفظائع التي تُرتكب في دارفور تشكل إبادة جماعية، كان من غير الممكن تخيل أنه بعد 15 عامًا، سيكون وزير العدل السوداني فرداً ينتمي إلى إحدى الجماعات المستهدفة بالتدمير. تفاصيل خطاب عبد الباري في جنيف توضح خطط الحكومة الجديدة للنهوض بحقوق الإنسان. ويشمل ذلك إنشاء لجنة للإصلاح القانوني "لتعديل أو إلغاء عشرات التشريعات في السودان التي تقيد الحريات أو تتعارض مع القانون الدولي لحقوق الإنسان" وقرار الانضمام إلى معاهدات حقوق الإنسان الدولية بما في ذلك اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة واتفاقية مناهضة التعذيب. وفي اليوم التالي للخطاب وقّعت الحكومة السودانية اتفاقًا مع المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لفتح مكتب قطري في الخرطوم مع إمكانية الوصول إلى جميع مناطق السودان. هذه تطورات مذهلة لكل من يعرف السودان. فعلى مدار أكثر من عقدين، استثمر المسؤولون الأميركيون، الجمهوريون والديمقراطيون على حد سواء، آلاف الساعات من تحليل السياسات والمشاركة الدبلوماسية، إلى جانب مليارات الدولارات في المساعدات، على أمل أن يخرج السودان من ديكتاتورية الإبادة الجماعية. وأخيرًا وجدت الديمقراطية موطئ قدم. إن القول بأن الوضع الحالي هش يقلل من المخاطر. ولا تزال الهياكل التي دعمت عهد البشير موجودة. يشير تاريخ السودان أن الفشل مرجح (من الحكومات الديمقراطية الثلاث التي شهدها السودان منذ الاستقلال في عام 1956، والتي تم إسقاطها جميعًا من قبل الجيش). ولكن يجب ألا يقود هذا الواقع المجتمع الدولي إلى التحوط، في انتظار الاستثمار بالكامل في دعم جهود الحكومة الجديدة حتى يبدو التحول الديمقراطي الكامل بمثابة رهان أكيد. لقد حان الوقت لسحب كل المواقف المسبقة دعما للتطلعات الديمقراطية للشعب السوداني. إن حمدوك وحكومته واضحين بشأن رغبتهم في أن يتخلى السودان عن وضعه المنبوذ. وقد طلبوا على وجه التحديد أن تحذف الولاياتالمتحدة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. إن القيام بذلك سيسمح برفع العقوبات على نطاق واسع. وبالنسبة لحكومة حمدوك الوليدة، سيكون هذا شريان الحياة. وهذه هي اللحظة المناسبة للولايات المتحدة لقيادة الطريق. وفي زمن الاستبداد المتنامي في جميع أنحاء العالم، تعتبر حركة الاحتجاج الاستثنائية في السودان بمثابة منارة أمل. وكما قال عبد الباري في خطابه أمام المجلس " أثبت شعب السودان -من خلال تقديم تضحيات هائلة -أن إنهاء نظام استبدادي وبدء عملية إقامة مجتمع حر وعادل وسلمي أمر ممكن. يجب على المجتمع الدولي أن يظهر تضامنه مع شعب السودان ". نقلا عن واشنطن بوست ترجمة خاصة ب (سودان تربيون)