حديث المدينة إقالة .. أم استقالة.! الصحيح أنها إقالة وليست استقالة.. الأخ المهندس خالد حسن إبراهيم مدير هيئة المياه بولاية الخرطوم كان في دائرة الضوء خلال الأيام الماضية على خلفية الأزمة الخانقة في المياه.. وانحسر الغضب الشعبي شيئاً ما بعد إعلان الإقالة رسمياً.. ولكن لا يزال في الأفق سؤال يطرحه الكثيرون.. هل تحل الاستقالة أو الإقالة الأزمة؟ ليست أزمة المياه وحدها.. بل أي أزمة أخرى.. في كثير من الدول المتحضرة يقدم المسؤول الأول استقالته حتى ولو لم يرتبط هو مباشرة بالفشل أو الحدث سبب الاستقالة.. وزير النقل في مصر قدم استقالته على خليفة حادث تعرض له قطار.. بكل تأكيد لم يكن الوزير مسؤولاً بصورة مباشرة عن الحادث لكن الرشد السياسي يتطلب مثل هذا التصرف.. لماذا؟ سأقول لكم. في العمل العام.. وبالتحديد المنصب الحكومي يجدر دائماً زرع إحساس الحالة (الانتقالية!) أن يحس الموظف الحكومة (من رئيس الجمهورية إلى أصغر موظف) أنه مكلف بمهام نيابة عن الشعب ولصالحه.. وأن التكليف موقوت.. مثل هذا الإحساس يجعل الموظف العام مشدوداً لأقصى درجة بحبال التجويد والحذر من الخطأ.. فهو ليس مخلداً ولا محصناً.. لكن الموظف العام (من رئيس الجمهورية إلى أصغر موظف) أخطر ما يمكن أن يمسه أو يرتكبه.. أن يخامره إحساس الأبدية في المنصب.. وتغيب عنه حاسة شم الحكمة السائدة (لو دامت لغيرك. لما آلت اليك).. مثل هذه الحالة تغير كيمياء البشر وتجعلهم معلقين في سماء لا تقبل المناصحة ولا المجادلة، وتصم الآذان، وتعمي الأبصار.. بل ويفقد المرء حاسة (الخطر).. وهي حاسة لو غابت.. غاب العقل عن التمييز.. عندما يقدم مسؤول استقالته. أو تطاله الإقالة.. تبث في أثير العمل العام موجات قوية تزرع حالة (الانتقالي!) في ضمير الموظف العام.. فتخفض من نزوة الانفراد والديكتاتورية والصلف السلطوي.. تلك هي الفائدة المباشرة التي تعود على العمل العام بل وتصلح عطبه.. من اليقين -مثلا في حالة مياه الخرطوم- أن المدير الخلف سيتذكر ما جرى للمدير السلف.. ومهما كانت عبقريته أو ثقته في نفسه أو غروره أو تعاليه. سيحسّ أنه في حاجة ماسة للحكمة والحذر من الخطأ.. سيجد نفسه في حاجة ماسة للنظر بعين الاعتبار للشعب الذي يراقب ويغضب ويثور.. ويطيح بالمسؤول.. وعوداً لمشكلة المياه نفسها.. صدقوني لن تخرج الخرطوم من خناق الماء مهما شيدت من محطات.. ومدت من مواسير.. فالمتوالية التي يهاجر بها سكان الولايات نحو المركز أسرع من أن تحتويها إنجازات ..إلاّ إذا..!! إلاّ إذا تغيّرت مفاهيم العمل الحكومي. لتصبح الحكومة جهازاً صغيراً.. ينظم ولا يدير حياة الناس.. عندها يستطيع المجتمع بنفسه تشييد كل ما يحتاجه.. تصغير الحكومة يريحها هي نفسها منا.. ويريحنا نحن المجتمع منها..!! وتصغير الحكومة يعني أن تخرج من حياة الناس بأوسع ما تيسّر..