وأنتَ تخوضُ حروبكَ، فكِّر بغيرك لا تنس مَنْ يطلبون السلام محمود درويش أطل علينا حسين خوجلي في صحيفته (ألوان) بمقالة ممهورة بعنوان "ولأمسيات رمضان أحرف!!" في تاريخ 11 أغسطس- وأشركنا في أمنياته التي تنفي بعضها بعضاً فأشفقت عليه من تناقضات يحملها في جوفه تشي بثقل وعيّه. فقد تمنى حسين خوجلي "أن يأتي اليوم الذي تنقرض فيه رطانات الحلفاويين والدناقلة والمساليت والزغاوة والهدندوة وتسود لغة الضاد الموحدة فلسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين." بل أعلنها صراحة أنها أمنية تُمهد لمعركة لها طحن لصالح الثقافة المركزية. وعجبت أيما عجب من تناقض قوله هذا مع أمنيته التي سبقت أمنية الانقراض والتي ينتقد فيها تقاصر الدول (العربية) والإسلامية عن الوحدة وبذل فيها النصح للدول المتباعدة أن تتبع سنة الوَحدة التي سنها الاتحاد الأوروبي. وراودني سؤال- لا تعزّ إجابته إن قرأنا ما كتب وما بين سطور ما كتب- إن كان يعلم السيد حسين خوجلي أن قيام الاتحاد الأوروبي قارب أضدادها ووحد اقتصادياتها وراعى فروق اللغة وهوّيات مواطنيها وحكوماتها فساوى بينها في اللغات المعتمدة للتخاطب الرسمي. فقد تجاوز أعضاء الاتحاد الأوروبي تاريخ حروبهم السابقة، وتجاوزوا فروقات اللغة، واختلاف الأعراق وتنوّع المذاهب الكنسية. وعجبت من غرور خالي الوفاض خوّل لحسن خوجلي أن يكون حكماً في أمر دول ووحدتها من عدمه وهو من عجز عن تهذيب نفسه وتوطينها لتقبل من يشاركونه الوطن والانتماء لخارطته الكبيرة ونعتهم بالحسد ولعنهم دون أن يطرف له جفن. كيف له أن ينادي بوحدة على صعيد دول وشعوب وهو ضائقٌ صدره باختلاف عرق ولهجة من يجاور.. ومن يزامل... ومن يُطربه غناءه كمحمد وردي؟ ضيقاً دفعه لأن يرفع أكف الابتهال في عشر (المغفرة) تلت عشر الرحمة- بأن تنقرض لهجات غير الناطقين بالعربية! أمنية انقراض اللهجات المحلية أمنية إن قُرئت في ظل دعوته للثقافة المبرأة من الزنوجة أقرب لأن تكون دعاءً بأن ينقرض متحدثوها أيضاً ليصفو له وجه السودان "العربي" ولا تشوبه شائبة من "خال" كما وصفت منظر السودانيين في بحر الجنسيات المتلاطم في الإمارات. اللغة كائن حي متحرك يتأثر ويؤثر في محيطه، فاللغة تمر بمراحل الصبا وتكبر وتشيخ وتموت ولكل مرحلة سبب. ولا أعلم مدى جهل السيد حسين خوجلي باللغويات وعلم اللسانيات، لذا سأكتفي بإيراد البديهيات، وهو أن اللغة، أية لغة، هي ممثل لحضارة شعب ما، وغيابها يعني غياب الشعب أو اندماجه في ثقافة أخرى (وغالباً بشكل قسري) لأسباب اقتصادية/سياسية في المقام الأول. وأيضاً، أية لغة عرضةُ للانقراض ولأن تخسر معركتها أمام لغة أخرى أقوى، وبالتالي ثقافة/اقتصاد أقوى، لذا فأغلب الظن أن نتحدث الصينية قبل أن نعالج لحننا في اللغة العربية لننطق القاف قافاً صراحاً لا "غيناً" بمد. في عصرنا هذا، عصر العولمة، أية لغة تتخاذل عن اللحاق بركب العلم مهددة بالانقراض وستشهد نهاية القرن الواحد والعشرين اندثار تسعين بالمائة من اللغات الحيّة الحالية. لذا فإن اندثار اللهجات المحلية– أو أية لغة بالمطلق- نتاج ظروف متشابكة ليس من ضمنها قطعاً أمنية حسين خوجلي بأن تنقرض. صدقاً، ودت لو كان مدخل السيد حسين خوجلي لترك اللهجات المحلية غير ما ذهب إليه، لو كانت دعوته من باب ترك غلواء التعصب القبلي لهتفنا مؤيدين وكنا من حوارييه المخلصين، لو طرحها من باب توحيد هويتنا (الأفريقية) والالتفاف على لغة تُسهم في نهضتنا الاقتصادية لوجدنا أمامه نحمل راية دعوته ونموت دونها، وليته فعل، ليجدنا من مسّتبيني النصح والشّاكرين. ولكنه يأمل أن نضع عنّا ألسنتا، وننكر ما في لهجاتنا من حميمية، ونتبرأ من هوّايتنا الإثنية التي نستجير بها من ضيم المركز... للمركز! المركز الذي لم يعطنا خُبزاً أو حُلماً. المركز الذي يهجّرنا من أراضينا يهمّشنا ويرمينا بلدة تلو بلدة في محرقة الحروب حطباً للاتفاقيات الفاشلة. وأنت تحرّر نفسك بالاستعارات، فكِّر بغيركَ مَنْ فقدوا حقَّهم في الكلام محمود درويش إن الدعوة لتكريس ثقافة المركز تصادر حقوق الأقلّيات الإثنية والعرقية في حقوق المواطنة. الوطن ليس مركزاً فقط يا سيد حسين خوجلي! فالمركز نتاج تمازج ثقافات الإثنيات التي تريد أن تسلبها حقها في الحفاظ على لهجاتها المحلية، الأقليات المهددة بالانقراض بالمعنى الحرفي للكلمة نتاج الحروب والنزاعات والتهجير القسري! دع لها فسحة من خصوصية اللغة تبكي فيها من مات متوسداً عشمه في "وطن حر ديمقراطي." أتريد أن تسلبها لهجتها أيضاً وثقافتها لتسود– عربية المركز– المليئة بمفردات "دغمسة" و"لحس كوع" و"نقد عينو"؟ فدفاعك عن الثقافة المركزية يعني ضمناً مسحنا من خارطة الانتماء الإثني وإجبارنا على الذوبان بالكلية في نموذج الوسط (فقط) لا السودان الكبير! نموذج الوسط الدوغمائي الذي يرفض الآخر ولا يحترم اختلافات فسيفساء الأعراق التي كان لها أن تثرينا لا أن تكون سبباً في فرقتنا. نموذج ثقافة المركز يسلبني حق المواطنة بجرة قلم وأمنيات! فدع عنك أمر لهجاتنا المحليّة يا حسين خوجلي، ولك لغتك ولنا لغتنا، نلهج بها لرب يعلم سرنّا وجهرنا ولا نحتاج لندعوه إلى ترجمان! وما دام باب السماء مشرعاً للأمنيات، ما خطل منها وما صلح، لي دعوات أرجو لها أن تصل عتبات أبواب الاستجابة في عشر العتق من النار- فالله يعلم ونحن لا نعلم، وهو غفور رحيم: أدعو أن يأتي يوماً ينال فيه المواطن السوداني (الحي) حقوقه كاملة غير منقوصة، وأن يرحم الله من ماتوا على درب الحق وأن ينتقم من قاتليهم، وأن ينتصر الحق ولو بعد حين، وأن يطرب الوسط طرباً إن صدح صادح باللهجة المحلية من المساليت أو النوبيين أو الزغاوة أو الهدندوة. وأدعوك يا إلهي أن توحدنا وتلم شملنا وأن تجعل تنوعنا سبباً لقوتنا اللهم طهّر قلوبنا من الكبر والغل، اللهم حبب لنا السلم ولا تجعلنا من المعتدين. اللهم نرجوك أن تصحو ضمائر القائمين على أمرنا، وأن يدركوا عيبوهم وندرك مدى ضعفنا وهواننا، وأن نهذّب أنفسنا، اللهم حررنا من جهلنا ومن غرورنا. اللهم لا تحاسبنا بما فعل وقال السفهاء منا، فنحن منهم براء، لم نخترهم واختارونا مصباً للعناتهم. اللهم ارفع عنا البلاء وحكم الجهلاء، وخفف علينا غثاء الثقلاء، اللهم نعوذ بك من ضآلة المنطق، وضيق الفكرة، وعجز العبارة، اللهم لا تجعلنا من المطبّلين، ولا من بائعي الذمم، ولا المقتاتين على فتات موائد اللئام. اللهم اجعلنا من التوّابين المتطهرين العائدين عن الذنب، اللهم اجعلنا من مخلصي التوبة، لا الباكين على ما فاتنا من حظوة في الدنيا، اللهم أعزّنا بالحق، وانصرنا على القوم الظالمين، اللهم... اللهم عجل بنصرك فقد هرمنا يا إلهي! وتولى أمرنا أدنانا عزاز شامي مواطنة سودانية أتحدث النوبية ما حييت وما عاشت مفرداتها في ذاكرتي. * من أقوال الشافعي الاخبار