[email protected] قطعا إن التسريبات التي نشرها موقع (ويكيليكس) نقلا عن وثائق سرية لوزارة الخارجية الأمريكية وضعت رجل الأعمال "أسامة داؤود عبداللطيف" في موقف لا يحسد عليه، فصاحب مؤسسة (دال) الشهيرة سمح لنفسه كما أظهرت الوثائق للحديث في كل شيء تقريبا مع مسؤولي السفارة الأمريكية في الخرطوم على فترات متقطعة بالسنوات الماضية، وبحسب البرقيات السرية التابعة لوزارة الخارجية والتي اطلعت عليها "ويكيليكس" نجد أن الرجل ترك نفسه على سجيتها وهو يعبر عن استيائه البالغ من سياسات الحكومة من أعلى الهرم ولا يتورع في استخدام عبارات قاسية لإظهار سخطه على بعضهم . و قريبا من الموقع المثير للجدل و من تسريباته التي تدفقت وأصاب رشاشها الكثيرين من رجال السياسة وعالم المال والأعمال شرقا وغربا فإننا نرغب هنا في مناقشة الطريقة التي يدون بها الدبلوماسيون الأمريكيون تقاريرهم وبرقياتهم من حيث هم موجودون إلى مقر الخارجية الأمريكيةبواشنطن مقارنة برصائفهم القادمين من دول أخرى وبالتحديد من الوطن العربي عطفا على حديث الكاتب الصحفي "محمد حسنين هيكل" بإحدى حلقات برنامجه "مع هيكل" الذي كان يبث على فضائية "الجزيرة" ليل الخميس من كل أسبوع طوال العامين الماضيين في معرض تعليقه على مخرجات موقع (ويكيليكس) من الوثائق إذ يقول "إن المسألة المهمة في تلك الوثائق أن فيها بانوراما في صورة عريضة جدا للأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية". ويؤكد هيكل أن الوثائق لم تمنحه جديدا لكنها أبهرته قدرتها أو ما شده إليها بالدرجة الأولى هو عرض الصورة التي تعطيها وتقدمها سواء من ناحية الحقائق الإستراتيجية التي تتبدى خلال السطور أو في الصورة البانورامية أو الصورة العريضة جدا التي ترسمها للمشهد برمته. وربما هذا الأمر بالذات مادفع هيكل ليتخذ من الوثائق سبيلا لتوجيه انتقاداته لتقارير وبرقيات دبلوماسيي بلاده و بلدان عربية أخرى مقارنة بأقرانهم الغربيين والأمريكيين على وجه خاص قائلا " أنا عارف وثائق الخارجية المصرية وعارف وثائق الخارجية في بعض برقيات السفراء في بعض السفارات العربية تقريرية معتمدة تقريبا على ما يرد بالصحف" عكس التقارير والبرقيات الحية في العالم كله التي "تصل درجة في التحليل و في رسم الصور، ما يعطي صانع القرار أينما كان بعدا إنسانيا في صنع القرار ،وبالتالي تفاصيل كثيرة جدا وصورا إنسانية مدهشة". ولا يغفل هيكل الإشارة إلى أن التفاصيل قد تصل حدا بأن يصف السفير الأميركي بالتفصيل حتى عدد الأطباق التي تقدم وأنه يدهشه جدا أنه في بعض المآدب قدمت له عشرة أطباق. و يشير هيكل إلى أن هذه لا تخص سفيرا دون آخر "إنما المسألة متكررة وليس لسفير واحد في منطقة واحدة ولا سفير واحد في عهد واحد أبدا ". ويقر السفير المتقاعد الرشيد أبوشامة بوجود فرق لا تخطئه الأعين بين التقارير والبرقيات الأمريكية ومثيلاتها من الدول الأخرى لكنه عزا التفوق الأمريكي لاعتماد سفاراتها على مصادر معلومات متعددة بجانب التمتع بإمكانات هائلة في التمويل والتقنية، ويقول أبو شامة ل (الأحداث) إن السفارة الأمريكيةبالخرطوم لديها طاقم يستمع إلى كافة الإذاعات التي تبث من الخرطوم بما فيها إذاعات "الاف ام" و لأجل هذا تحوز كوادر تقوم بالإنصات وتسجيل البرامج التي ترأى بها قيمة يمكن الاستفادة منها. في المقابل يرى السفير عبدالمنعم مبروك أن المكاتبات الدبلوماسية نظام معروف لكن لا يوجد في الوقت نفسه نظام (ستاندر) متفق عليه لذا تختلف طريقة التدوين من دولة لاخرى و(لكل دولة طريقتها) ويضيف في حديثه ل (الأحداث) أمس هنالك تقارير سياسية واقتصادية وتقارير نوعية وهو تقرير يركز على تناول حادثة معينة مثال تغيير سياسي أو تعديل وزاري حيث يتم تسليط الأضواء عليها ويتم شرح ما حدث وتبيان تأثيره على البلد الذي حدثت به والبلاد التي يمثلها السفير وينتهي التقرير بتوصيات عن كيفية التعامل مع الحدث. غير أن أبوشامة يضيف أسبابا أخرى في حيازة الأمريكان لقصب السبق في هذا المجال ويتمثل في أن السفير الأمريكي في كل مكان لديه مدخل وقدرة للجلوس مع أي شخص مهما بلغ مقامه بالدولة التي يمثل بلاده فيها ويدلل على أن زعيم حزب الأمة القومي الصادق المهدي كان يقضي وقتا طويلا مع السفير الأمريكي إبان توليه رئاسة الوزراء في الفترة الديمقراطية. ويشير أيضا إلى أن السفير يفضل في كافة المناسبات تقريبا الاجتماع مع وزير الخارجية مباشرة متجاوزا مدير الإدارة الأمريكية الذي لا يجد بدا سوى حضور الاجتماع والاكتفاء بكتابة المحضر. ويمضي أبوشامة ليقول ولا ننسى أن البعثات الدبلوماسية لديها شبكة مصادر في كل مكان مهمتهم موالاتها بالمعلومات والأخبار وهذا ما يجعل المعلومات تأتي طازجة إليهم من أفواه أبطالها. وهذا الأمر ليس في السودان فحسب بل في كل عواصم الدنيا وكثيرا ماشاهدت – والحديث لا يزال لأبو شامة- أن سفراء الدول الأخرى يستعينون بالسفير الامريكي لمعرفة ما يدور في البلد. أما عبدالمنعم مبروك فيشير إلى أن 90% من المعلومات صارت تأتي من المصادر المفتوحة لذا لم تعد هنالك أسرار بالمعنى التقليدي ويرى أن معظم المعلومات أضحت في متناول الجميع من الصحف والإذاعات والفضائيات وغيرها من الوسائط الإعلامية وبالتالي يصبح المحك في الطريقة التي تنقلها بها إلى دولتك مع شرح لتأثراتها المحلية والاقليمية والدولية. ولعل هذا القصور المؤسسي متوارث، فالغالبية العظمى من الحكومات العربية تدفع إلى السلك الدبلوماسي بمن تريد التخلص منهم من السياسيين سواء أكانوا موالين لا يجدون لهم مكانا في سدة الحكم أم معارضين من المؤلفة قلوبهم أم فئة ثالثة من كبار العسكريين الذين غادوا الخدمة بالتقاعد وتريد أن تأمن جانبهم فهؤلاء يأتون إلى الخدمة وهم لا يعلمون شيئا عن "سر المهنة" ويتبدى هذا القصور ليس في البرقيات أو التقارير فحسب بل قد تبلغ درجة أن يدلي السفير بما لا يرضي دولته كما يشير "هيكل" في كتابه الموسوم "الانفجار" بأن "مصطفى كامل" السفير المصري في واشنطن إبان حكم عبدالناصر دعا الولاياتالمتحدة إلى أن تمد العون لبلاده لمحاربة الشيوعية (الملحدة) معا بوصفهما دولتين (مؤمنتين) فبدا كأنه يستنجد بالأمريكان لإنقاذ بلاده من السقوط في قبضة الشيوعية . وقد يشعر معها السفير أنه ليس مسؤولا أمام أحد، و أبلغ دليل على ذلك الأزمة التي نشبت بين سفير السودان بالبحرين العميد المتقاعد صلاح الدين محمد أحمد كرار، ووزارة الخارجية في العام 2003م والتي انتهت بإقصائه بعنف بعد خمس سنوات من تسميته سفيرا بالمنامة على خلفيه كتابة مقال صحافي بمناسبة العيد الرابع عشر لانقلاب (الإنقاذ) رأت فيه الخارجية خروجا عن مهام وظيفته. و اللافت أن كرار لم يجد حرجا في الإفصاح في مقابلة مع الزميلين فاطمة مبارك وبهرام عبدالمنعم نشرت بجريدة "الاهرام اليوم" في مايو الماضي بأنه أبلغ القائمين على أمر الوزارة قائلا " أنا مُعيَّن سياسياً ولن أسافر إلا لتنفيذ مُهمة لا يستطيع أن يؤديها السفير العادي" !!. ويبدى أبوشامة تحفظا على هذا الأمر لأول وهلة بأن المعيار يجب أن يكون الكفاءة والمقدرة لكنه رجع وقال إن الأوفق دون الإشارة لأحد بعينه أو حادثة بذاتها اختيار رجال السلك الدبلوماسي عبر الامتحان لكن هذه الطريقة أيضا – حسب قوله - كثيرا ما تكون عرضة للمحسوبية وبالتالي تأتي بكوادر ليست ذات كفاءة، ويستمر الشخص على هذا المنوال دون أن يلاقي من يصلح اعوجاجه أو يصحح مساره على العكس تماما من الأمريكان في هذه المسألة فإنهم لا يسمحون ملطقا لغير الأكفاء بالمضي قدما ولا يتحرجون من تدوين تقارير سيئة للغاية عن أدائهم لذا تجد السفير الأمريكي يتفوق (100) مرة على أقرانه من حيث الكفاءة والمقدرة والإحساس الطاغي بالمسؤولية الذي يعزوه محدثنا حسب ملاحظاته إلى التربية الوظيفية. ويعترف أبوشامة أن البون شاسع بين التقارير والبرقيات الأمريكية وما عداها من الدول الأخرى ويقول بسخرية " نحن نكتب بطريقة غريبة و أحيانا نكتب مقالة في ثلاث أو أربع صفحات تحتوي على مقدمة وخبر وتحليل مذيلة بالتقييم" ويقول أبوشامة نحن نهتم بأن تخرج المقالة "حلوة ولذيذة" بينما الأمريكان يهتمون بالمعلومات في المقام الأول وليس تدبيج المقالات. ويتطرق أبوشامة إلى نقطة بالغة الحساسية بأن بعض السفراء قد يلجأون إلى قلب الحقائق في مرات عديدة لأجل البقاء في منصبه ويقول "أنا شفت سفراء كتار ما بقولوا الحقيقة عشان يبقوا في كراسيهم". و يتحقظ مبروك أيضا على هذه المسألة ويكتفي بالقول "لا أريد التعليق على هذا الأمر" لكن المهم كما يقول إن هناك موجهات يلتزم بها الجميع. جريدة الاحداث نشر بتاريخ 07-09-2011