وإندلعت الحرب في جنوب النيل الأزرق، لتحاط جمهورية السودان جنوبا، وجمهورية جنوب السودان شمالا، بهلال دامي، يمتد شرقا من الحدود مع إثيوبيا، وحتى الحدود مع تشاد غربا. إنها ذات الحرب الأهلية، إلتقطت أنفاسها الحارقة لبرهة في هدنة مؤقتة – وإن ظلت مشتعلة في دارفور- حتى ذهب الجنوب، لتتجدد في جنوب جديد، جنوب سياسي، يتطابق، حتى الآن على الأقل، مع الجنوب الجغرافي، وإن كنا لا ندري إمتداداته غدا. إنه هلال الموت الذي ظل العشرات من عقلاء السياسة والإعلام يحذرون منه منذ التاسع من يوليو الماضي، ومنذ تفاقم الاحتقان السياسي بعد رفض رئيس الجمهورية لإتفاق أديس أبابا الإطاري والذي وقعه مساعده مع قيادة الحركة الشعبية في الشمال، فكان ذاك الرفض ضوءا أخضرا ليندلع القتال في جنوب كردفان. وأولئك العقلاء، من السياسيين والصحفيين وغيرهم، لم يكتفوا بالتحذير والتنبيه من الخطر المحدق، بل إقترحوا أكثر من مدخل للتخفيف من حدة التوتر ونزع فتيل الحرب، خاصة وأن المنطق البسيط يقول بأن الاحتقان السياسي المتفاقم في كل البلاد، وبالذات بعد اندلاع الحرب في جنوب كردفان، كان كفيلاً بحث أي مسئول عاقل وسوي على دفع الحكومة لاتخاذ التدابير المناسبة للوقف الفوري لتلك الحرب، وللحيلولة دون امتدادها المتوقع إلى جنوب النيل الأزرق. ولكنا في السودان، أصبحنا في زمن لا يسمع فيه العاقل سوى رجع صدى صوته! وهكذا، ومنذ أكثر من عدة عقود، والشعب السوداني، خاصة خارج مثلث “حمدي" في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق وجنوب السودان “بالقديم"، ينوم متوسدا هدير المدافع ومحتضنا القلق. في كل ليلة يتساءل عما إذا كانت هذه “النومة" ستكون الأبدية أم سيصحو على أزيز الطائرات وهي ترسل الموت من السماء، فيركض مرة أخرى دون إتجاه، لاهثا وسط رائحة الدم واللحم البشري المحترق، باحثا عن “الضنى" وعن الحياة. وذات الحالة، ظل يعايشها جنود وضباط القوات المسلحة السودانية والقوات النظامية الأخرى، وهم يخوضون قتالا، ليس ضد عدو خارجي أو أجنبي، وليس ضد إسرائيل أو البنتاجون كما جهر بذلك أحد قادة المؤتمر الوطني وهو يحمّس طلاب الخرطوم للحرب في جنوب النيل الأزرق، وإنما ينفذون أوامر القيادة السياسية، لتلتقي أعين الجنود بأعين مواطنيهم، في وداع شاذ وحزين في نفس الوقت، قبل أن يفتك كل منهم بالآخر. هكذا إستدام حال الإثنين لأكثر من نصف قرن إلا من فترات معدودات. وعندما توقفت الحرب في إحدى محطاتها، بعد إتفاقية السلام الشامل، كان طبيعيا وموضوعيا أن تعم البهجة، ولومؤقتا، إذ لاحت في الأفق ملامح السلام، سلام من نوع جديد لا يقف عند وقف القتال فقط، وإنما يمتد ليرتبط بتحقيق العديد من الأمنيات والطموحات التي ظلت حلما بالنسبة إلى شعبنا. فمن من الناس العاديين، سواء داخل أو خارج مثلث حمدي، منتظم في القوات المسلحة أو الخدمة المدنية، لا يريد توقف الحرب وقتل الإنسان السوداني بيد أخيه السوداني؟ ومن منهم يود ديمومة العيش في رعب إخفاء فلذات الأكباد تحت السرير أو في دولاب الملابس هلعا من إنتزاعهم بواسطة العسس ليرسلوا إلى المحرقة؟... لكن للأسف، لم تكن إتفاقية السلام الشامل إسما على مسمى، إذ لم تتحول إلى سلام شامل حقيقي، كما لم تخرس كل أصوات الحرب في كل بقاع السودان. والكارثة الكبرى الأخرى، كما جاء في بعض الصحف، أن حروب الهلال اللهيب هذه تفوح منها رائحة العنصرية النتنة، حيث ينفذ القتل والاعتقال وفق السحنة أو اللهجة أو البطاقة الشخصية..!! إنها مزيج عجيب ومريب من نزوع لآشكال حياة سابقة، بربرية المحتوى، لكنها تستخدم الأساليب العصرية، وحيث أن مسؤولين في الدولة، وفي عدد من المنابر التابعة، يؤججون العصبوية والنعرات العنصرية لتلتقطها مستقبلات المشاعر الغرائزية البدائية عند المواطن البسيط فتهيئه لسفك دماء من ظل يلاطفه ويبتسم له ويقتسم معه المسكن والطعام! ويا ترى، كيف كان سيكون الوضع لو أن هذه الحرب الكريهة إندلعت في أي بقعة داخل مثلث “حمدي"؟! وكنا في مقال سابق، قبل إندلاع الحرب في أبيي وجنوب كردفان، قد إشرنا إلى أن المسؤولين الذين يطلقون صيحات الحرب يدركون تماما أن هذه الصيحات ستجد أصداءا متجاوبة معها في ظل أجواء الاحباط والاحتقان السياسي الراهن، وفي ظل نجاح هولاء المسؤولين في تقييد حركة المؤسسات الجماهيرية التي تنشر الوعي والمعرفة، لذلك فإن هذه الصيحات تعبر عن منهج مرسوم ومخطط، تمهيدا لحرب قادمة، سواء مع الجنوب الذي ذهب، أو مع الجنوب الجديد، جغرافيا وسياسيا..! إنها اكتمال لحلقة الشر التي لابد من فكاك منها حتى ينجو هذا الشعب بأعراقه وثقافاته المتنوعة المتعددة، إلى حياة آمنة لا يعاب الفرد فيها إلا إذا استحقر الناس وضيق عليهم سبل العيش..!. ولكن، لماذا الحرب، وبهذا الطابع الذي يضعها مباشرة في خانة الحرب العرقية العنصرية؟ جاء في الإعلام أن السبب الرئيس لإندلاع القتال، والذي تشير كل المعطيات إلى أن الحكومة أعدت له ما استطاعت من رباط الخيل، هو الاستفزاز الذي مارسه مالك عقار، رئيس الحركة الشعبية، بحق رئاسة الجمهورية. هذا السبب، في تقديري ليس هو بالمحرك الجوهري لقرار الحرب، ولكن إذا كان فعلا هو الدافع للقرار، كما تصر وتؤكد بعض الكتابات في الصحف، فهو يعكس خللا خطيرا في إدارة الدولة، حيث حصاد أرواح الناس، من الجانبين، يمكن أن يتم هكذا، وبكل بساطة، بقرار إنفعالي لشخص أو بضعة أشخاص! وفي الحقيقة، هنالك إشارات لصالح هذا التسبيب، أهمها الصمت المطبق لقيادات المؤتمر الوطني عقب بدء العمليات العسكرية، ثم تضارب وتناقض تصريحاتها، بما في ذلك تصريحات رئبس ونائب رئيس الجهاز التشريعي، وأخيرا تصريح مسؤول الإعلام في المؤتمر الوطني مفسرا صمت حزبه بأن قرار الحرب هو قرار الدولة، والحزب لا علاقة له به! إن أي قيادة سياسية حكيمة تقود بلدا خرج لتوه من حرب أهلية طاحنة، إنبرى كل العالم شاحذا قدراته من أجل إنهائها وفرض الحوار والتفاوض السلمي لعلاج اسبابها، وسارت مجريات الأمور بعد ذلك حتى فقد الوطن الواحد جزءا عزيزا منه، أي قيادة سياسية حكيمة ستفكر أكثر من ألف مرة قبل إتخاذ قرار آخر بالدخول في حرب أهلية طاحنة جديدة! اللهم إلا إذا كانت تلك القيادة ترى في إستمرار الأزمات حد تفاقم الحروب الأهلية، مناخا ملائما لمواصلة كنكشتها على كراسي الحكم، وساترا يخفي فشل سياساتها وتخبطها وأنقساماتها الداخلية، أي وكأنها ترى في الحرب سلكا شائكا مكهربا لحمايتها. واهمُ من يعتقد أن تأجيج مشاعر الحرب والعصبوية العنصرية سيجعل الناس ينسون أن إنفصال جنوب السودان حدث نتيجة لفشل سياسات حزب المؤتمر الوطني، وواهمُ أيضا من يفترض أن هذا التأجيج هو بمثابة آليات دفاعية للحماية الذاتية حتى يخفف المؤتمر الوطني من شعوره بجريمته التاريخية في تمزيق السودان. إنها محاولة بائسة لإلغاء العقل تعكس حالة الخواء السياسي الذي تعانيه المؤسسة الحاكمة!. ومن الواضح، أن قوى نافذة في نظام الإنقاذ، بعضهم في أجهزة الدولة والبعض الآخر في المنابر التابعة لها، لا تزال تتغذى بأوهام النقاء العرقي والتعصب الديني، وتريد أن تحتكر مضارب مثلث حمدي، وخيرات المناطق خارج المثلث بدون أهلها. بل بلغ عندها التخطيط مدى خلق توليفة جديدة للحركة الشعبية تقودها مجموعات ضعيفة، تقبل ولا تعترض، وبعضها ولج السياسة صدفة نتيجة ما نعتقده من استهتار وعدم الجدية من قيادة الحركة الشعبية خلال الفترة الانتقالية، لتندرج هذه التوليفة الجديدة في الحياة السياسية حزبا متواليا ومواليا. هذه القوى المتنفذة، إما لم تعي الدرس جيدا، أو هي واعية ولكنها غير مبالية بالحريق ما دام مكمن النجاة مدبرا! إن صراعات الهوية والموارد، والخلافات الناتجة من شعور طرف ما، مهما كان حجمه وقوته، بالظلم والتهميش، لا يمكن أن تحسم عسكريا. فالحرب الأهلية في جنوب السودان إستمرت نصف قرن من الزمان دون حسم، ومراكمة المرارات الناتجة من أهوال وويلات الحرب، إضافة إلى السياسات الخاطئة بعد حلول السلام الهش، عمقت من مشاعر عدم الثقة وأفضت إلى تمزيق وحدة الوطن. إننا في السودان، ومنذ فجر الاستقلال، لا نزال نقبع في حفرة تصادم رؤى النخب السياسية، الذي يجعل بلادنا في حالة أشبه بحالة لعبة السلم والثعبان، ما أن نبدأ في تسلق سلم الديمقراطية نحو مخرج الأزمة، حتى يأتي ثعبان الانقلابات والسياسات الخاطئة حد إشعال الحرب الأهلية، فيرجعنا إلى نقطة البداية. لكن، للديمقراطية حراسها الذين يدركون جيدا أن التحول الديمقراطي الحقيقي وما يتيحه من حريات، هو المدخل الوحيد القادر على حل أكثر النزاعات تعقيدا، وإصلاح ما تخرب في السودان. وهناك أجيال سودانية سابقة لم تكن تمتلك ما نمتلكه اليوم من أدوات تعليم وحراك للمجتمع المدني وربط معلومات واتصال...الخ، ورغم ذلك استطاعت أن تضمن رضا معظم القبائل والاثنيات والاديان لتمثيلهم في الجيش والشرطة ومؤسسات الحكم المختلفة. صحيح أن تلك النزاعات تفاقمت جذورها السياسية والاقتصادية والثقافية إلى درجة لا يمكن تجاوزها أو تبسيطها. ولكن الثابت أن كل إثنيات وقبائل وثقافات السودان، تحتاج اليوم إلى بعضها البعض اقتصاديا وثقافيا وسياسيا، حتى يتحقق في السودان مستوى حياة متطابق مع المعايير والقيم الانسانية. وفي هذا مدعاة لتوافق بإمكانه تطوير الديمقراطية نفسها فينتقل بها من المساواة الشكلية، أو اللفظية، في الحقوق والواجبات، إلى المساواة الفعلية في الواقع، حيث عند هذه النقطة فقط تتحقق العدالة. فعلا.... لقد وصلت الحد!! ولا يمكن لأي سوداني عاقل أن يقبل بهذا الواقع الكريه. لذلك نحن نضم صوتنا إلى الداعين إلى وقف الحرب فورا، وقبل أي حديث عن أي محادثات أو تسويات أو اتفاقات. لقد وقعت الكارثة، ولكن علينا الوقوف بكل قوة وصلابة، وبما تمليه علينا ضمائرنا وعقولنا وإنسانيتنا وسودانيتنا، موقفا أخلاقيا وعمليا ضد الحرب وهوس سفك الدماء. الوسومات: