د. عوض عثمان محمد سعيد [email protected] من أين أبدأ، لا أدري ولكني أعلم الأن أن الكتابة تحتاج لوقت لا يتوفر لأحد في السودان إلا القلة من الذين حباهم الله بالموهبة والمثابرة والإرادة القوية. كنت في السودان ثلاثة أشهر كاملة. سمعت فيها الكثير وقرأت الكثير، و حاولت أكثر من مرة الإمساك بالقلم لتسطير الشوارد من الخواطر، تارة تعليقاً علي خبر ومرة أخري تحليلاً لما وراء المواقف من دوافع ومصالح، ولكني وجدت نفسي أميل أكثر للمشافهة والحوار والمجادلة العفوية السهلة علي النفس، قليلة المردود محدودة التأثير، فالمشافهة تشعرك بالتفاعل والتمازج مع من حولك من الناس وهمومهم اليومية إلا أن أثرها محدود ووقتي، بينما الكتابة أثرها أوسع وممتد لزمن أطول. غير إني الآن حينما أتذكر صورة الغالبية المتحلِّقة حول بائعي الصحف، لا يستطيعون شراءها فيتصيدون من علي البعد رؤس المواضيع والعناوين الرئيسية، ثم يذهبون صفري اليدين قاصدين هموم أكبر ومشاغل أجل - وهي ظاهرة تلحظها عند كل بائعي الصحف علي إختلاف مشاربهم الجالسون منهم علي الأرصفة أو أصحاب الأكشاك والطبالي - أعود فأقول أن المشافهة هي الطريق الأمثل للوصول لهؤلاء المهمشين، أصحاب العين البصيرة والإيد القصيرة. ولكن هل تجدي هذه المشافهة أن صدرت عن فرد واحد ولم يتابع أثرها آخرون؟ الإجابة واضحة لا ولن تجدي. إذن لا بد من عمل حزبي منظم ومخطط وذو أهداف واضحة تقدم البدائل للأغلبية الصامته المترقِّبة، لتحول صمتها لهدير عالي وترقبها لمبادرات لا تبقي ولا تذر. فإن الإجتماعات المغلقة مع زبانية السلطة للحصول علي نسبة أعلي في المجلس الوطني أو المزيد من المناصب الوزارية، لا تعود إلا بالفتات لأُلئك الذين يحضرونها، كما إنها تكرس مخطط القابضين علي السلطة في تجزئة البلاد وتفتيتها، وبيع ما تبقي منها، وقبض العمولات من المشترين عداً ونقداً. كما أن الأجتماعات والمؤتمرات المعلنة في الجرائد والمنعقدة في دور بعض الأحزاب، بعيداً عن جماهير تلك الأحزاب، والمأمومة فقط من أصحاب العربات الفارهة والعمائم الناصعة البياض؛ بل وحتي الندوات السياسية الموسمية للحزب الشيوعي الموزعة علي أحياء العاصمة وبعض المدن، لن يكون لها مردود، طالما لم تنظم من قواعد تلك الأحزاب ولم يكن ورائها من يتابع أثرها وسط الجماهيرويحولها إلي عمل يومي في الأحياء ومع الشعب سيد الوجعة. أن الوقت يذهب متسارعاً وما زال الكثيرون يقدمون مصالحهم علي مصالح الوطن، وإن لم ينتبهو اليوم قبل البارحة فلن ينالوا مآربهم ولن يبقي ذلك الوطن العزيز كما ورثناه من رجال بزلوا في سبيل عزَّة ووحدة تربته كل غالي ونفيس. أقول هذا القول وأخاطب به كل أبناء الوطن في شماله وجنوبه، وشرقه وغربه، ولكي أبين مدي الخطر المحدق بالوطن لكم هذين المشهدين. في إجتماع أقيم في دار نقابة الزراعيين والتي حول إسمها فصارت الدار القومية للمهندسين الزراعيين، تحدث هجو قسم السيد عن الإستثمار الزراعي وضرورة أن يتحول إلي حيازات كبيرة تنفذها إستثمارت ضخمة، ثم ذكر متهكماً (ما إن جاء وفد إستثماري ليعاين أرضاً ليبدأ فيها إستثماره إلا ووقف أمامه من يحمل فأساً أو طورية وقال الواطه دي حقتو). "والله الكلام الذّي ده بحرق، خاصة لمان يجي من أولاد الغلابة الكبرت كروشن، و زادت قروشن". والشيخ هجو يعرف أن المستعمرين الأنجليز حتي يتثني لهم إستثمار الأرض في الجزيرة، دفعوا لكل أصحاب القصادات، إيجاراً للأرض الواقعة في قصاداتهم، وظل مكتب إيجار الأراضي يدفع لأصحاب الأرض هذا الإيجار حتي جاءت مدَّعِية الإنقاذ فتوقف الدفع. المشهد الثاني هو مسألة (منطقة أمري) والتي شغلت كل الناس في جميع السودان ولم يحركوا ساكناً عدا أهل المنطقة المعنية الذين سالت دمائهم دفاعاً عن حقوقهم الموروثة، وسوف تتبعها مشاهد مماثلة وقد تكون أكثر حدة في مناطق (أوسلي ومساوي والقرير) بعد الإنتهاء من بناء سد مروي، فأن هنالك من ينوي بيع أرض القصادات في تلك المنطقة، والمملوكة لأهله وعشيرته، للمستثمرين الأجانب، ويقبض عمولته من عملية البيع نقداً و عدّاً، والذريعة لذلك هي أن الأرض يجب أن لا تعطي لمن لا يستطيع إستثمارها. لقد عملت في مشروع الرهد الزراعي، في مرحلة التنميه كما كانت تسمى آنذاك، وقمت بزراعة الأرض البكر بمحصولي الفول والقطن، وسُلِمتْ بعد ذلك ثلاثون فداناً من الأرض المزروعة الجاهزة – حتي الطراد الأخضر - لكل مواطن من أبناء تلك المنطقة، مولت من قبل الحكومة التي لم يكن مرضياً عليها آنذاك بسب موقفها من الحريات الديمقراطية، ما كان علي المزارعين بعدها إلا متابعة ريها وجني ثمارها. ومثل هذا حدث من قبل في إمتداد المناقل وفي مشروعي خشم القربة والسوكي. قام سد مروي ويراد توزيع الارض للقادرين علي الاستثمار دون اهل المنطقة، بل وزعت فعلا لا قولاً لمن يستطيع ان يشتري بحر ماله، واشتري كثر من خارج المنطقة، مما يترتب عليه نتائج لم يدرسها الذين قاموا ببيع الارض وهم من ابناء المنطقة الانقاذيون، ولا نعرف الآن / وسوف نري لاحقاً مداها و عمق أثرها، فلا تظلموا أبناء الشمال، فهم أبناء وطنكم، فدوه دوماً بالروح والمهج، وما يقع عليهم من ظلم الآن لهو أشد واقسي، فظلم ذوي القربي أشد و أعظم. نعم أهم المتنفذين في هذه السلطة هم من أبناء الشمال، والبعض منهم يقتطع له كثير المال العام، فيأخذ الجزء اليسير منه ليمول به بعض المشاريع في مناطق أهله، ولذلك أمثلة عديدة لا استطيع حصرها، و يعلم جميع الشعب بها، وهم في هذا يسعون لتكريس الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، ويمهدون لتجزئته حتي يتثني لهم السيطرة الكاملة علي ما تبقي منه. إنهم يقدمون رشوة خسيسة لأهلهم البسطاء، ليجرموهم بها فيصيروا متهمين بمساندة السلطة، والانتخابات المزورة الفائته خير دليل علي ذلك، ففي دائرة الدبة حصل مرشح المؤتمر الوطني علي سته اصوات فقط كما اذيع في التلفزيون، و توقف وسائل الاعلام بعدها عن اذاعة النتائج بصورة نهائية. أهل الشمال أبعد الناس عن مدّعية الإنقاذ فكرياً و ابعدهم عن مساندتها سياسياً، فولاؤهم ثابت ومعروف ولن يتغير. السودان ليست لديه الأن حكومة تحكمه، وليس به تنظيم عقائدي يريد أن يفرض رؤاه وبرنامجه عليه، بل تسيطر عليه مجموعة شراكة أو بالأحري عصابة من قصيري النظر وفاقدي الوطنية، وهي سلة لا يجمعها فكر ولا برنامج سياسي، تجمعها فقط مصالحها الذاتية وشهوة غير محدودة للسلطة، والكل يعرف أن السلطة الغاشمة وشهوتها تفرق أكثر من أنها تجمع، وكل من هؤلاء يسعي لأن (يكبر كومو) بتقديم الخدمات لإِمعَيتِه ومعاونيه وأهله، لتدوم له السيادة وسطهم حينما تتبعثر البلاد ويذهب ريحها. إن إستطعنا أن نوصل للشعب البديل الذي يراعي مصلحة الوطن ككل قبل مصلحة المجموعات الضيقة، حزبية كانت أو طبقية أو جهوية، لإستطاع أن يفرضه علي أرض الواقع بعد أن يرمي بهذه العصابة عديمة الدين والرحمة الي مزبلة التاريخ. فهل يكون الوطن أولاً؟ ---- * 18.05.2006 و عدل في 18.09.2011 نشر بتاريخ 18-09-2011