مر على مخيلتي سيناريو أسود للاضطرابات الواسعة التي عمت مصر عقب مأساة بورسعيد التي تركزت في محيط وزارة الداخلية ومديريتي أمن الاسكندرية والسويس. السيناريو يبدأ من البيان رقم "1" وقد اخترت هذه البداية مستلهماً ما بثته إحدى القنوات الفضائية عن انسحاب القوات المكلفة بتأمين مبنى الإذاعة والتلفزيون في ماسبيرو. ورغم نفي مصدر مسؤول.. انتابني فزع شديد مع تتابع أخبار السطو المسلح والخطف والهجوم على أقسام ونقاط الشرطة ومحطة مترو الأنفاق في الدقي. كانوا يقولون في السودان قبل عقود إن من يصل مبكراً إلى الإذاعة ويسيطر عليها يمكنه أن يحكم الدولة تعبيرا عن موجة من الانقلابات السهلة التي لا تكلف أكثر من السيطرة على الميكرفون وإذاعة البيان الأول. ذلك في زمن هيمنة الإذاعة.. فما بالك في الزمن التلفزيوني والبث المباشر.. ماذا يعني اقتحام مبنى ماسبيرو ودخول استوديو الهواء للتلفزيون المصري بقنواته المختلفة.. لاسيما القناتان الأولى والثانية اللتان تتابعهما الأغلبية الصامتة من المصريين التي يطلق عليها حزب الكنبة؟! من هنا كان غضب أنس الفقي وزير إعلام نظام مبارك وزكريا عزمي رئيس الديوان شديدا من الزميل عبداللطيف المناوي رئيس قطاع الأخبار وقتها.. عندما سمح بإذاعة البيان رقم "1" للمجلس العسكري يوم 10 فبراير دون الرجوع إليهما. استمعت من المناوي عندما التقيته في دبي قبل أيام إلى قصة الغضب.. وكيف رد عليهما بأن الجيش يحرس المبنى وأن ضابطاً هو من دخل وشغل الشريط ولا يستطيع أن يمنعه. كانت تلك هي الخدمة الكبيرة التي قدمها المناوي للوطن في أزمته.. وليست القصة التي يرددها البعض بأنه استلم خطابا مغلقا من الرئاسة بإقالة المشير.. وبدلا من أن يذيعه للناس.. أخبر به المجلس العسكري. في حديثنا نفى القصة برمتها وقال إنها مختلقة. لكنه طبعا كان يستطيع إبلاغ أنس الفقي بالبيان رقم "1" للمجلس العسكري قبل إذاعته.. ولو فعل ربما كنا سنرى سيناريو آخر مختلفا.. فقيمة ذلك البيان أنه كان المسمار الأول في نعش نظام مبارك الذي دفعه إلى التنحي ومغادرة القاهرة إلى منفاه في شرم الشيخ. عندما اغتيل أنور السادات في 6 أكتوبر 1981 حاولت الجماعة الإسلامية السيطرة على مبنى ماسبيرو.. فاستأسدت القوة المدافعة عنه لأن سقوطه يعني إذاعة البيان الأول بإعلان سقوط النظام الذي قد يدفع الأجهزة الأمنية إلى التخلي عنه وخروج الشعب إلى الشوارع مرحبا ومؤيدا.. هكذا فكر المخططون. هذا المبنى العريق الذي تظهر عليه علامات الشيخوخة يمكنه أن يفعل الكثير.. أن يغير نظاما قائما ويأتي بآخر ليست له أي قواعد. يقول المناوي إن ضابط الحرس الجمهوري الذي وصل على رأس قوة من الجيش لتأمين المبنى يوم 28 يناير 2011 حين حصل الانفلات الأمني أخبره بأن تعليمات صدرت بإطلاق الرصاص على أي أحد يدخل استوديو الهواء من غير المرخص لهم. نزل خبر إخلاء قوة التأمين لمحيط مبنى ماسبيرو كالصاعقة لأنه يعني بداية انهيار خطير في ظل تغطيات تلفزيونية مباشرة من القنوات الإخبارية المحلية والعربية والغربية لحرب شوارع تدور في المنطقة المحيطة بوزارة الداخلية.. وهجمات على أقسام الشرطة ومديريات الأمن خصوصا الإسكندرية والسويس. من هنا نفهم مسارعة المصدر المسؤول إلى النفي والتأكيد على دعم قوة التأمين خلال الأيام الماضية بعد المظاهرات والاعتصامات التي شهدتها منطقة ماسبيرو ومعارك الأحجار التي تخللتها والشتائم والسباب اللفظي العنيف الذي تعرض له الجنود والضباط. تسريب انسحاب قوة التأمين يحرض على اقتحام المبنى فهو أهم المنشآت الحيوية الاستراتيجية.. وتتفوق أهميته على مقر وزارة الداخلية الذي سعى المحتجون للسيطرة عليه لإعلان سقوط رأس الجهاز الأمني المكلف بتأمين البلاد.. لاسيما أن المقر يضم مبنى الاتصالات الذي يعني سقوطه إحداث شلل رباعي للأجهزة الشرطية في جميع أنحاء الجمهورية. *نقلا عن "الجمهورية" المصرية.