في الجانب الإيديولوجي تحول كبير في المنظومة الإخوانية على مدار نصف قرن نقلها من الإطار التوفيقي الجامع إلى الإطار السلفي الذي يغلب الاهتمام بالنقاء العقائدي. ميدل ايست أونلاين بقلم: حسام تمام سنلاحظ أن الاستجابة لهذه التطورات التنظيمية والفكرية ستكون إيديولوجية بالأساس لتطال مسائل ظلت إلى اليوم بعيدة عن منطق الحجاج العقدي. وهي استجابات تظهر في الأحداث الهامة التي يواجه فيها الإخوان قضايا خلافية متجددة ذات علاقة بالأخر الإسلامي، على نحو موضوع التشيع حيث اشتبكت قيادات إخوانية في مكتب الإرشاد في النقاش الذي طال وجهات نظر عقدية حين فجر يوسف ندا القيادي الإخواني بالخارج مسألة طبيعة الخلاف بين الإخوان والشيعة على خلفية مسألة العلاقة مع إيران ومشروعها. وقد توافقت في ذلك، وبشكل لافت، رؤية سلفية (محمود غزلان) وأخرى قطبية (جمعة أمين) وكلاهما عضوان في مكتب الإرشاد وهو أعلى مستوى تنظيمي في الحركة (تاريخياً، كان محمود غزلان طالباً في السبعينيات وأشرف على سلسلة صوت الحق، أما جمعة أمين فقد سجن مع قطب عام 1966 ثم عمل في الندوة العالمية بالسعودية وهو من كتب الرسالة الداخلية "عليك بالفقه واحذر من الشرك" حول الإخوان والشيعة). ثم سنجد الاشتباك مع شيخ الأزهر بشكل مباشر في موضوع النقاب الذي تحول فجأة إلى قضية إسلامية رغم أن النقاب لم يكن طرحاً إيديولوجياً للحركة منذ نشأتها. وهكذا، ظهر السلفيون الكامنون والسلفية الكامنة ثم تعاظم المكون السلفي وبروزه خصوصاً في مسألة الهدي الظاهر فبدأت معارك جديدة متجددة حول مسائل النقاب واللحية والتشدد في الملبس بشكل عام؛ أربعة فقط من أصل خمسة عشر عضواً بمكتب الإرشاد غير ملتحين (صار عصام العريان الاّن ملتحياً). ثم ظهر انتشار النقاب بين الأخوات والتأكيد عليه في الأسر. كما ظهرت الالتباسات السلفية في أزمات ملاحقة الكتب والأعمال الفنية ومسائل الرقابة. لقد جرى في الجانب الإيديولوجي تحول كبير في المنظومة الإخوانية على مدار نصف قرن نقلها من الإطار التوفيقي الجامع إلى الإطار السلفي الذي يغلب الاهتمام بالنقاء العقائدي وما يفرضه ذلك من حجاج وصدام ما بين التيارات والأفكار والممارسات التي لا يراها متفقة مع الكتاب والسنة. وهذا يعني أن الإخوان الذين عرفوا طوال عهدهم بتعايشهم مع المكونات الثقافية للمجتمع يتجهون اليوم نحو الانفصال تدريجياً عن التراث الإخواني. فالتمدد السلفي الذي يطال مسألة اللباس والفنون والآداب والموسيقى يتجه نحو تركيزها في طابع مفارق للمجتمع يبتعد عن كل ما هو ثقافي وينفي اختلافات التاريخ والجغرافيا، ويركز على مسألة النقاء التي يجب أن تكون موحدة ومشتركة. وهو بذلك ينفي مسألة الاختلاف والتعدد على أساس من أن القيم الإسلامية النقية تفترض الإجماع والاجتماع عليها؛ يظهر ذلك مثلاً في مسألة النقاب الذي اعتبر نموذجاً للباس الشرعي الوحيد المقبول اجتماعياً، وهو التحول نفسه الذي كان قد طال مسألة الحجاب الفضفاض في السبعينيات عندما بدأت السلفية تثبت أقدامها في المنظومة الإخوانية. في هذه الحالة فإن المكونات التي شكلت مادة للصراع الثقافي لدى الإخوان (وليسوا الاسلاميين الوحيدين)، وفي علاقتهم بالفاعلين الاّخرين، يجري الاّن تنميطها وتوحيد الرؤية بشأنها تدريجياً ليس نحو المحافظة وحسب، بل نحو مزيد من الأرثوذكسية. وهذا ما يفسر حدة الاختلاف الذي بدا في مسائل النقاب ومناهج التعليم الديني وصولاً إلى الموقف من الأقليات والتشيع ومن ثم الاشتباك مع شيخ الأزهر وقبله مع الشيخ يوسف القرضاوي الذي كان يعد حتى وقت قريب مرجعاً أول للحركة. يعكس هذا تحولاً طال الأرثوذكسية الإخوانية التي انتقلت من استعادة الهوية الإسلامية في مواجهة الوافد في الثلاثينيات والأربعينيات نحو مفهوم الحاكمية في مواجهة الدولة والمجتمع في السبعينيات. قبل أن تتجه نحو التركيز على فكرة الدفاع عن الأخلاق العامة من داخل مؤسسات النظام في التسعينيات ووصولاً إلى أرثوذكسية سلفية مفارقة للثقافة وللمجتمع على نحو ما يحدث اليوم. ولأن حالة الحصار التي يفرضها النظام على الجماعة تحسباً للاستحقاقات الانتخابية القادمة ستظل أهم العوامل التي ستؤمن استمرار التماسك التنظيمي والمواقف المبدئية من النظام، فلا يبدو أن السلفية الإخوانية "الجديدة" ستقف ضد المشاركة السياسية بالمعنى العام، بقدر ما ستؤدي إلى تأثيرات سلبية ليس عبر تحويلها إلى وعظ فحسب، بل لأنها ستسبب إرباكاً في الفقه السياسي للجماعة بعد عقود من عمر تجربة تفاعلها مع الدولة والمجتمع بحيث ستكبح تقدم الجماعة في السنوات القادمة. ويقع على رأس هذا الإرباك موقف الجماعة من قضية المواطنة التي تعتبر أم القضايا السياسية والثقافية في مصر. ففي مشروع الإخوان لدستور إسلامي العام 1953 كان من السهل حسم مسألة المواطنة؛ لتصبح بعد أكثر من نصف قرن من التطورات المتلاحقة أكثر القضايا التي سجلت فيها الجماعة تراجعاً على نحو ما ظهر في برنامج حزب 2007. هكذا، تبدو ظاهرة تسلف الإخوان بشكل مزدوج، ظاهرة اجتماعية وفكرية ونتاجاً لحزمة عوامل داخلية وخارجية حاسمة ساهمت في تعميق تأثير السلفية الوهابية في الحركة الإخوانية. لكن الواضح أن النسخة السلفية الناتجة جاءت متأثرة بالسياق المصري الفكري والاجتماعي أكثر منه بالوهابية. فقد أدت العقود النفطية التي اجتاحت مصر وامتدت من أوائل السبعينيات إلى منتصف الثمانينيات على موجة من الهجرة المصرية والإخوانية نحو دول الخليج وبشكل خاص نحو المملكة السعودية، وكانت أشبه بحركة سكان مهولة نقلت المزاج والمعتقد السلفي خارج المحضن الوهابي. وكانت البيئة المصرية مؤهلة لاستقبال الرافد الوهابي بفعل حالة الانفتاح الديني في عهد السادات وتراجع الأطروحة الإخوانية والتفاعلات التي كانت تموج بها فترة السبعينيات بعد انكسار المشروع القومي الناصري وتراجع موجة التحديث الذي صاحبته. وهي التحولات التي تزامنت بشكل واضح مع تعاظم الدور الإيديولوجي الخارجي للمملكة العربية السعودية الذي تمثل في إعادة توجيه المذهب الوهابي نحو الخارج. لقد جاء التمدد السلفي إذن متزامناً مع حلقة من المنعرجات التاريخية التي أدت إلى صعود التيارات التي توسم بالمحافظة، ليس تجاه قضايا الابتذال والتساهل الديني في الداخل المجتمعي فقط بل أيضاً نتيجة انكسار المشاريع الإصلاحية القائمة على الصعيد الإيديولوجي، (الإخوان المسلمون في هذه الحالة)، وتراجع الحركات السياسية التي كانت تقود مشاريع التحديث (الحركة الناصرية في هذه الحالة). وهي تطورات عززت فرص الصعود السلفي بقوة. لكن تمدد المذهب السلفي في داخل المجتمع المصري وشباب الجامعات ومن ثم نحو الحركة الإسلامية برمتها لم يشكل انتقالاً كاملاً، بل تأثر بسياق مصري كان يمتاز بتعددية وانفتاح وحركة مجتمعية متسارعة. لقد جرى جهد مجتمعي وثقافي لتأطير الفكرة السلفية الوهابية بفعل الخصائص الفكرية والاجتماعية في مصر قاد شيوخ الإخوان الجزء الأهم فيها بحيث نقلوها إلى الإطار التنظيمي وصبوا فيها جوانب حركية وإيديولوجية وفكرية يصعب إغفالها على النحو الذي ذكرنا. تفترض التطورات التي تم تناولها في هذه الدراسة أخيراً، أن الجماعة ستفقد كثيراً من مرونتها ومن قدرتها على ضمان التنوع الداخلي في البيت الإخواني باتجاه مزيد من التنميط والمحافظة الذي ستتعاضد فيه المكونات التنظيمية والقطبية والسلفية. وسيكون لبرنامج التكوين والتربية والتأطير الثقافي الدور الأكبر لتلعبه في المرحلة القادمة. مستل من كتاب تسلف الإخوان ... تآكل الأُطروحة الإخوانية وصعود السَّلفية (مكتبة الإسكندرية 2010)، تأليف: حسام تمام (باحث مصري في شؤون الحركات الإسلامية، توفى 26 أكتوبر 2011). ولتمام أيضاً كتابيّ: "مع الحركات الإسلامية في العالم – رموز وتجارب وأفكار" "تحولات الإخوان المسلمين تفكك الأيدولوجية ونهاية التنظيم".