بعد الساعة التاسعة والنصف ليلا, لا أرد علي جرس التليفون, أرعي صحتي قبل رعايتي لصحة الآخرين, فاقد الشيء لايعطيه, فاقد الصحة والحرية والعدالة والكرامة لايمنحها للآخرين. امتدت يدي ورفعت السماعة ضد ارادتي, صوت في أعماقي همس استمعي إلي هذا النداء المجهول إنه الصوت الطفولي لنفسي الحقيقية يشق السحب ويستشف الغيب, مخنوقة يا دكتورة اسعفيني أرجوكي تزايد عدد النداءات المخنوقة, مع تزايد العنف الداخلي والخارجي ضد الثوار والثائرات منذ يناير وفبراير2011 رغم الثورات المصرية المتعاقبة, والتي شملت الملايين, نساء ورجالا وشبابا وأطفالا, وكان شعارها يسقط النظام لم يسقط النظام بكل أسف حتي اليوم, بل ازداد عنفا ونهبا وخداعا وتضليلا, محليا واقليميا وعالميا, المستفيدون من كوارث النظام هم أصحاب المهن الحرة في غابة السوق, منهم التجار, والأطباء, والمحامون, والحانوتية في مشرحة زينهم, والمضاربون في البورصة, والمتنافسون في الأحزاب السياسية والانتخابات البرلمانية والرئاسية. كنت طالبة بكلية الطب في الخمسينيات من القرن العشرين, وكان لي زملاء يعملون في الأحزاب السياسية العلنية( مثل الوفد) والأحزاب السرية( مثل الإخوان المسلمين والحزب الشيوعي) أحد زعماء الطلبة الوفديين الليبراليين وقع في حب زميلة لي, وتزوجا بعد التخرج, ثم تم طلاقهما بعد سبعة عشر عاما وثلاثة أطفال, بسبب كذبه المتواصل وعشيقاته المتكررات تحت اسم الليبرالية زميلتي الثانية تزوجت من الإخواني المتدين, تم طلاقهما بعد تسعة عشر عاما وأربعة أطفال, بعد اقترانه بامرأة ثانية ثم زوجة ثالثة وتزوجت الزميلة الثالثة من الشيوعي المتحرر, دام زواجهما ثلاثة وعشرين عاما, أنجبت فيها أربعة بنات وأولاد, ثم اكتشفت أنه أنفق مدخرات عمرها علي علاقاته النسوية تحت اسم الحرية الشخصية والطبيعة البيولوجية, دفعت زميلتي بقية مدخراتها للمحامي لتخلع زوجها في المحكمة. تربية أبي وأمي جعلتني أنفر منذ الطفولة من مهنة التجارة القائمة علي الكذب من أجل الربح, ومهنة السياسة القائمة علي نبذ المبادئ من أجل المصالح, لهذا لم أنجذب إلي زعماء الأحزاب الناجحين في انتخابات كلية الطب, وقعت في حب زميل فدائي( اسمه أحمد) كان يحارب جيش الاحتلال البريطاني في القنال, ويشتهي الموت من أجل تحرير مصر, كنا نهتف معا في المظاهرات: الاستقلال التام أو الموت الزؤام, وانتهي زواجنا بالموت الزؤام دون أن تحرر مصر. منذ وعيت الدنيا لم تتحرر مصر حتي اليوم, بل زادت وطأة التبعية والمهانة والخضوع السياسي والاقتصادي للقوي الخارجية, والاستبداد الداخلي المتزايد والعنف واراقة الدماء المصرية النقية الثائرة, هناك تشابه كبير بين المهن الحرة في ظل النظام الحاكم في أي دولة, وهو نظام طبقي أبوي تطور تاريخيا من العصر العبودي القديم إلي عصر الرأسمالية الحديثة, دون أن يفقد سمات الظلم والكذب, يتحكم الأب قانونا بسلطته المطلقة علي الزوجة والأم والأطفال, وتحكم الدولة بأصحاب الأموال المتاجرة في السوق والانتخابات ومضاربات البورصة والبنوك والشركات. ولا تختلف أسس النظام في بلاد العالم من الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوروبي إلي إسرائيل وتركيا وإيران ومصر والأردن وغيرها.. السلطة والثروة يتزوجان( علنا أو سرا) ينتجان دولة رجال الأعمال غير المنتجة إلا للعنف البوليسي والعسكري والإعلامي. الحفاظ علي الثروة والسلطة يقتضي استخدام العنف ضد الطبقات الفقيرة من النساء والشباب والرجال والأطفال, يعني ضد الأغلبية الساحقة المنتجة في مجالات العمل الزراعي والصناعي والثقافي والفني والفكري والإبداعي, ومهنة الكتابة الصحفية والأدبية لاتختلف كثيرا عن المهن الأخري في السوق؟ سمعنا عن الهدايا التي كانت تعطي بالملايين من قبل المؤسسات الصحفية الكبري, وكان هدفها الترويج للأقلام الكاذبة المنافقة وقصف الأقلام الحرة الثائرة ضد الكذب والفساد. قرأت خبرا بجريدة الأهرام في عدد26 فبراير الماضي يقول استرداد18 مليون جنيه من أسرة الرئيس السابق( مبارك) مقابل هدايا الأهرام. وقد كشف تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات( في5 فبراير الماضي) أن المبالغ التي تم صرفها من عام2000 إلي2005 بلغت163 مليون جنيه تم تخصيصها من خزانة مؤسسة الأهرام فقط, لشراء هدايا وتوزيعها علي كبار المسئولين بالدولة. وقرأت خبرا ثانيا بجريدة الأهرام عدد29 مارس الماضي مثيرا حول الهيئة العامة للخدمات البيطرية شحنة تزن320 طنا من الكبدة الأمريكية المستوردة إلي مصر بعد ثبوت اصابتها بفطر الديوكسين السام المسبب للسرطان وعدم صلاحيتها للاستهلاك الآدمي, كم سمعنا منذ المعونة الأمريكية لمصر ومعها الانفتاح الاقتصادي في عصر السادات ومبارك ومرسي, عن فساد الإعلام والتعليم واللحوم الفاسدة المستوردة والألبان والأطعمة الأمريكية والأوروبية والإسرائيلية؟ كم من الأطفال وتلاميذ المدارس ماتوا بالتسمم الغذائي تحت اسم الثورة الخضراء والتنمية والرخاء؟ كم من الثوار والثائرات سجنوا واعتقلوا وشوهت سمعتهم وقصفت أقلامهم تحت اسم الديمقراطية والتعددية الحزبية؟ كم من فتن طائفية حدثت في مصر تحت اسم الحريات الدينية؟ كم من جمعيات أغلقت, وكم من أفواه كممت, وكم من بنات ختنت, وكم من نساء حجبت ونقبت وحبست وقتلت, تحت اسم الشرف والقيم والتقاليد والخصوصية الثقافية والدينية؟ قالت لي مخنوقة يا دكتورة! قلت لها التقاليد لايمكن أن تكون فوق العدالة والكرامة. الحجاب والختان لاهويتنا ولاخصوصيتنا الثقافية. ردت علي قائلة يا دكتورة أنا مخنوقة مش قادرة أنام. *نقلاً عن "الأهرام" المصرية.