الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    "قطعة أرض بمدينة دنقلا ومبلغ مالي".. تكريم النابغة إسراء أحمد حيدر الأولى في الشهادة السودانية    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    المرِّيخ يَخسر (سُوء تَغذية).. الهِلال يَخسر (تَواطؤاً)!!    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يا للشعرْ .. يا للعلمْ!
نشر في سودانيات يوم 01 - 09 - 2013


(1)
هل يضعضع تزايد نفوذ "العلم التطبيقي" مكانة "الشَّعر"؟!
الإجابة تبدو غير ممكنة ما لم نحدِّد، ابتداءً، ما نعنيه بهذا المصطلح الغامض المعرَّف بالألف واللام: "الشِّعر"!
وكنا شطحنا، صديقي بشرى الفاضل وشخصي، ذات عصف ذهني خلال سبعينات القرن المنصرم ، فخلصنا إلى أن كلَّ فنٍّ هو، في النهاية، "شعرٌ"! ثمَّ لعلنا خففنا الوطء شيئاً، فحصرنا الأمر في فنون الإعلاء اللغوي وحدها! وربما كان ذلك بتأثير الاستخدامات التاريخيَّة للمصطلح بهذه الدَّلالة، حيث وضع أرسطوطاليس، مثلاً، سِفره "فنُّ الشِّعر" الذي يعود تاريخه إلى ما قبل 323 ق م، في سياق اشتغاله على قوانين المسرح؛ وألف بوالو ديبريو كتابه "فنُّ الشِّعر"، خلال القرن السَّابع عشر، في ذات المنحى أيضاً. وذهبنا إلى أن كلَّ "شعر" هو استجابة، على نحو ما، لضرورة اجتماعيَّة موضوعيَّة، سواء وقعت هذه الاستجابة عبر آليَّات الوعي أو اللاوعي، وبصورة مباشرة أو غير مباشرة، ونعني، بالطبع، المستوى الاصطلاحي والمفهومي للظاهرة، لا القيمة الكيفيَّة من زاوية النقد أو التذوُّق. ورأينا أن الأمر ظلَّ دائماً هكذا، منذ رسومات الكهوف والاحتفاليَّات الطقسيَّة الباكرة. ولم تُخصَّص "القصيدة" وحدها كموصوفة ب "الشِّعر"، في سياق نشأة وتطوُّر التَّقسيم المدرسي، إلا مع تزايد وتعدُّد وتنوُّع وتعقد أشكال التعبير الفني.
وبرغم الاختلاف النوعي بين مداخل "الشِّعر" و"الفلسفة" و"العلم"، إلا أن الإمساك بقرون الظاهرة "الشِّعريَّة" لا يكون بغير المقاربة "الفلسفيَّة" لحقيقة الحياة نفسها، الأمر الذي لا يتوفر بغير الوقوف على "فلسفة العلم". ولا أعنى المقاربة بدلالة "التفسير"، بل "التغيير". مع ذلك ففعل "التغيير" نفسه يبدو مستحيلاً بدون "معرفة"، بحيث تفشل أية محاولة لاصطناع صِدام متعمَّل بين "الشِّعر = الفن"، وموئله الوجدان، وبين "الفلسفة" الكامنة وراء كلِّ "معرفة = علم"، وموئلها العقل. وقد نلاحظ، استطرادا، احتفاء الفلاسفة ب "الشِّعر = الفن"، بل وتجريب بعضهم الاشتغال به!
(2)
الذين يطرحون المقابلة بين "الشِّعر" و"العلم" و"الفلسفة" ينطلقون، في الغالب، من الشَّكِّ فى قدرة "الشِّعر"، بخيالاته، وتهويماته، وتصاويره، وأساطيره، على الصُّمود أمام التطوُّرات المتسارعة الجَّارية في عصر "العلم"، فينتهزون أدنى سانحة اهتزاز في عرش "الشِّعر" ليطرحوا تساؤلاتهم، من ثمَّ، عمَّا إذا كانت "ضرورة الشِّعر" ستبقى قائمة، أيضاً، من خلال الحياة المعاصرة! لكن التساؤل، بهذه الطريقة، مقلوب على رأسه تماماً! ف "الشِّعر" ذاته ضرب من الحفر المعرفي يتغيَّا هدم واقع قبيح ومعطوب، وبناء آخر جميل وسليم. ولأن هذا الواقع غالباً ما يبدو، للوهلة الأولى، أكثر واقعيَّة من أن يتيسَّر استيعاب بؤسه، فإن الكثير من الشُّعراء يلوذون بالأسطورة هرباً من جنونه، وتحريضاً على استدباره! ولعلنا نفهم ، من ثمَّ ، قيمة النزوع "الشِّعري" الحثيث لاستلهام الأسطورة، لا كمفهوم يتأسَّس على أسطرة الواقع نفسه، من باب شهادة الزور، وإنما كمحض حيلة فنيَّة لتمزيق قناع هذا الواقع، وجعله أكثر افتضاحاً!
إعادة إنتاج الأسطورة في "الشِّعر"، إذن، نشاط إبداعي يهدف، في حقيقته، لا لنفي الواقع عدميَّاً، كما قد يتوهَّم البعض، بل لتعزيزه، ولتأكيد الاقتدار الإنساني على فعل "التغيير = الثورة"! وبالتالي، فإن كلا "الشِّعر" و"العلم" يستهدف، وإن بطرائق مختلفة، تمكين المستضعف بحفز الوعي لديه ب "ضرورة" وإمكانيَّة هذا الفعل، وذلكم، لعمري، أول (التحريض)! لذا فالأسطرة تستأهل الذمَّ ، فقط، حين تستهدف إنتاج وعي زائف من شأنه التخذيل من فعل "التغيير = الثورة". لكن الأسطرة، بهذا المعنى، ليست خصيصة ملازمة لكل استلهام أسطوري، فثمَّة في الأسطورة وألاعيب السِّحر، أحياناً، ما من شأنه إثراء الخلق "الشِّعري = الفني"، وتعميق الوعي "الحقيقي" ب "الحقيقة"!
(3)
صحيح أن عصرنا قد يبدو حفيَّاً إلى حدِّ الجفاء أحياناً، بحقائق الكشوفات "العلميَّة = العقليَّة"، والناس في كل مكان يلهجون، بنبرة التبجيل، عن "العلم/التفكير العلمي/المناهج العلميَّة" .. الخ. لكن مكابر من لا يرى، أيضاً، أنهم لا يستطيعون، مع ذلك، لجم شغفهم الوجداني القديم، قدم الإنسانيَّة ذاتها، بالموسيقى، والرَّقص، والتشكيل، والدراما، وغيرها، وإلى ذلك سائر ضروب الإعلاء اللغوي، قصيداً كان، أو سرداً، أو نثراً فنيَّاً .. الخ. وإذن، ف "الشعر = الفن" و"العلم" لا يشتغلان بالتبادل interchangeable. هذا مدخل خاطئ لفهم كلا الظاهرتين!
وإذا حصرنا كلامنا في "القصيدة"، فإنها تعتبر، من جهة أولى، من أقدم أشكال التعبير الجمالي، وأكثرها حميميَّة في الذَّائقة، وأوثقها عُشرة مع الفطرة. لذا فهي، على العكس من "الرِّواية"، مثلاً، شائعة في البيئات الحضريَّة، تماماً كما في البيئات البدويَّة، حتف أنف الفارق الخشن بين وصف الممدوح ب "الكلب" في "وفائه"، وب "التَّيس" في "قراع الخطوب"، وبين "عيون" المحبوب "يجلبن" الهوى، "بين الرَّصافة والجِّسر"، من حيث "يدري" المُحبُّ "ولا يدري"!
مع ذلك ليس نادراً ما يقع التوافق المدهش، حافراً لحافر، في صياغة الصُّورة الشِّعريَّة، بين شاعرين، بدوي وحضري، كالذي بين قول شاعر البطانة ود شوراني: "نظرة المِنُّو للقانون بقيت اتحدَّى/ فتحت عندي منطقة الغنا الانسدَّ"، وبين قول شاعر أم درمان محجوب شريف: "وتفتح نظرة من عينيكي لي مجرى الغنا المسدود"! علماً بأن محجوب أنجز قصيدته "سِلِمْتَ" عام 1976م، بينما أصدر البروفيسير سيِّد حامد حريز أوَّل طبعة من "فن المسدار"، بعد ذلك بعام، أي في 1977م، شاملة، لأوَّل مرَّة، مسدار ود شوراني ذاك! فانظر كيف يتجلى ما يُعرف ، نقديَّاً، ب "وحدة التجربة الشُّعوريَّة"، على تباين المصادر، وكيف تتوافق تعبيرات شتَّى الطاقات الشِّعرية عن ذات التَّوق ل "الوجود المغاير"، على قول التجاني يوسف بشير، أيَّاً كانت "الأشكال الفنيَّة" التي تتخذها! ف "الشاعر"، فى المقام الأول وفي نهاية المطاف، "إنسان يخاطب الناس"، كما في كلمة وردزورث. ويعظم أثر هذه المخاطبة وخطرها، كلما عظمت طاقة "الشَّاعر"، ليس، فقط، على تثوير مضمون الفضائل الإنسانيَّة التي يبشِّر بها، بل وعلى تثوير اللغة ذاتها، كجزء من "البنية الفنيَّة" التي يتوسَّل بها، ضمن حمولته "الشعريَّة"، لخلق اللذة، والإدهاش، والإمتاع، وخلب الألباب، قبل جلب الانشغال بجلب المنفعة، أو الدفع باتجاهها، على رأي برتولد برشت. وربَّما كان فى ذلك شئ من وصف "الشعر" كثورة، لا ب "اللغة"، فحسب، وإنما فيها أيضاً، مِمَّا يتيح مسارب ل "العلم" و"فلسفته" إلى شرايين "الشعر" وأدقِّ أوردته!
من جهة أخرى لا يقوم ثراء "العلم" نفسه إلا على ثراء "الخيال" الذي يُعتبر، أيضاً، عنصراً رئيساً في العمليَّة "الشِّعريَّة = الفنيَّة". ف "الخيال"، إذن، من أبرز قواسم الظاهرتين. ومشهورة هي الموافقات بين "الشعر = الفن" وبين "العلم" ، كما ومن المعلوم أن الكثير من الحقائق "العلميَّة" قد تجذَّرت، ابتداءً، في "الشِّعر = الفن"!
من جهة ثالثة، ومع تمام إقرارنا النظري بالفروق الجوهريَّة بين "الفلسفة" و"الشِّعر/القصيدة"، إلا أننا لا نستطيع، من زاوية النظر العمليَّة البحتة، إغفال البنائيَّة الفلسفيَّة المذهلة التى أنجزها أبو الطيِّب، مثلاً، في مستوى "جدل اللغة" و"جدل الصورة الشِّعريَّة"، قبل أن يُصار إلى إعادة إنتاج هذه البنائيَّة فى المستوى "الفلسفي" المحض بقرون طوال، لدى هيغل ثم ماركس. واستطراداً ، ننوِّه بالتأسيسات الباهرة للإمام عبد القاهر الجُّرجاني، مثلاً، في حقل الأدب وفلسفة اللغة، بشأن جدل "المضامين والأشكال"، أو "المعاني والمباني"، دَعْ الانفجار المذهل للمنجز (الشِّعري) والنقدي العربي، على هذا الصَّعيد، في العصر الحديث.
الشَّاهد، لا يُتصوَّر أن يكون ثمَّة "تطابق" تام، ولا "قطيعة" نهائيَّة، بين "الشِّعر = الفن"، وبين "الفلسفة" و"العلم". فطالما بقي في الإنسانيَّة شئ من الشَّغف باللذة المتأتِّية من التطلع ل "الوجود المغاير"، فستبقى ل "الشِّعر = الفن" قيمته المتأتية، بالأساس، مِن خاصِّيَّته التلقائيَّة، مع الأخذ في الحسبان بضرورة مواصلة "القصيدة" التَّغذِّي على أجناس أخرى، كالسَّرد، والمسرح، والسينما ..الخ. لكن، بعد ذلك كله، وليس قبله بطبيعة الحال، قد يمنح المخزون "الفلسفي" و"المعرفي" هذه القيمة قيمة مضافة، دون أن يكون هذا المخزون نفسه مصدر "القيمة الابداعيَّة" الأصليَّة!
(4)
ما كدت أفرغ من النشر الأوَّل لهذه الكتابة، وكنت قد نسبت فيها، خطأ، "نظرة المِنُّو للقانون بقيت اتحدَّى" إلى شاعر البطانة الآخر الحردلو، حتى وصلتني على بريدي الإليكتروني رسالة رقيقة من الصَّديق الشَّاعر الجَّميل عاطف خيري، المقيم بملبورن بأستراليا، مؤرَّخة في 29 يوليو 2007م؛ وعاطف من سنخ أولئك الشعراء الذين لم يركنوا، كآخرين كثر، إلى أيِّ أوهام بشأن "الشِّعر"، مِمَّا ذهب بريح شعريَّتهم! يقول عاطف في رسالته تلك، وبلغته الآسرة المُميَّزة: "عزيزي كمال، تحيَّاتي كثيرة، مودتي أيضاً واحترامي. لعلها سنوات منذ المرَّة الأخيرة التي التقيتك فيها. كيفك يا رجل؟! أتابع بمتعة كبيرة، مثلي مثل كثير من القرَّاء، مقالاتك هنا وهناك عبر الإنترنت. يطربني، أكثر ما يطربني، ذلك التدقيق في الكتابة، ضبط العبارة، الإشارات، إيراد المصادر، المراجع والحواشي. ولطالما ذهبت أنت مذهباً بعيداً في ذلك، وما كان ليعوزك ذلك ولا هذه. هذا ما وددتُّ أن أكتب إليك بشأنه، رغبة في الَّتحيَّة، ثمَّ تساؤلاً حول ذلك المقطع الشِّعري العزيز على الأدب السُّوداني كما تعلم: "نظِرةَ المِّنُّو للقانون بقيتْ اتحدَّى"، إن كان فعلاً يُنسب للحردلو، وقد ظللت أنسبه لعبد الله ود شوراني كاتب "مسدار النجوم"، قارئاً إيَّاه هكذا: "غابْ نَجْمَ النَّطِحْ والحَرْ علينا اشتدَّ/ ضَيَّقنا وقِصِرْ ليلو ونِهارو امتدَّ/ نظِرة المِّنُّو للقانون بقيتْ اتحدَّى/ فتحَتْ عِندي منطقة الغنا الانسدَّ). فبالله عليك، وأنت لا بُدَّ واجد ذلك، كاتبني حول صحَّة المصدر. وقل أنت بخير لأخيك عاطف خيري".
هرعت ، من فوري ، إلى نسخة من "فنُّ المسدار دراسة في الشِّعر الشَّعبي السُّوداني" لسيِّد حامد حريز، كان قد زوَّدني بها صديقي الشُّكري النَّابه ، عاشق المسادير، كرَّار صديق كرَّار المحامي. وابتداءً فقد وجدت البيانات المثبتة في هذا المرجع المهم تشير إلى أنه صادر عن معهد الدِّراسات الأفريقيَّة والآسيويَّة بجامعة الخرطوم، الطبعة الأولي، 1992م. وعجبت، إذ أنني متأكد تماماً من أن الطبعة الأولى، والتي ضاعت نسختي الخاصَّة منها منذ أزمان، قد صدرت عام 1977م! وسبب تأكدي، حدَّ اليقين، أنني كنت تلقَّيتها، أصلاً، في ذلك التاريخ، كهديَّة من شقيقتي أميرة، ضمن مجموعة من الإصدارات الجديدة، آنذاك، وكنت معتقلاً، وطريح الفراش بالمستشفى العسكري بأم درمان، إثر إصابتي، وصديقي المرحوم خالد الكد، بتسمُّم حادٍّ بسجن كوبر، على أن تلك حكاية أخرى!
الشاهد أنني ، بمراجعتي لنسخة كرار، وجدتني مخطئاً، كما أشرت، في نسبة الرباعيَّة إلى الحردلو، ووجدت عاطفاً مصيباً في نسبتها إلى ود شوراني، فكان أن دعوته ليطمئن، وليتقبَّل، أولاً، شكري وتقديري الحارَّين على انتباهته السَّديدة، وثانياً اعتذاري وأسفي الشَّديدين، فلعلَّ أكثر ما أوقعني في الخلط والتخليط، علاوة على ضياع نسختي، واعتمادي، من ثمَّ، على الذَّاكرة الخربة، وذاك أوَّل الوهن، هو المعلوم من عمق الصَّداقة الإنسانيَّة والفنيَّة التي ربطت بين عبد الله ود شوراني المرغوبابي وبين الحردلو أحمد بك عوض الكريم أبو سن الشُّكري، ولطالما ورد ذكر واحدهما في شعر الآخر، وكلاهما، مِن قبل ومِن بَعد، سليل البطانة لهجة، وثقافة، وفناً، ومزاجاً شعريَّاً.
واستطراداً ذا صلة بالوشائج المحتملة بين "الشِّعر" و"العلم = المعرفة"، وواهم بالطبع من يخرج "المعرفة الشعبية" عن دائرة "العلم"، فقد أورد حريز (ص 14، 21، 22، 23)، بالاستناد إلى النيَّل أبو قرون، باعتباره مصدره لنصِّ "مسدار النُّجوم" (ص 51 ، 77)، أن رباعيَّة "غابْ نَجْمَ النَّطِحْ"، والتي استهلَّ بها ود شوراني "مسداره" هذا، هي واحدة من ثمان وعشرين رباعيَّة شعريَّة، بحساب رباعيَّة لكلِّ "عِينة"، حيث لكلِّ فصل سبع "عِيَن". أمَّا "النَّطِحْ" فهي أوَّل "عِيَن الصَّيف"، والأخريات هنَّ: "البطين، التريَّا، الدَّبَران، الهكعة، الهنعة، الضراع". وأما "عِيَن الخريف" فهنَّ "النَّترة، الطرفة، الجبهة، الخيرصان، الصِّرفة، العوَّا، السِّماك". وأما "عِيَن الشتاء" فهنَّ "عريج، الغفر، الزنبان، الاكليل، الشَّولة، البُلد، النعايم". وأما "عِيَن الربيع" فهنَّ "سعد ذابح، سعد السعود، سعد الأخبية، سعد بُلع، الفرق المقدَّم، الفرق المؤخَّر، الحوت".
و"المسادير" منها المكاني ومنها الزَّماني. فلئن كان "المكاني" يصف الرِّحلة مسحاً جغرافيَّاً لطبيعة الإقليم، ف "الزَّماني" يتتبَّع فصول السَّنة من صيف، إلى خريف، فشتاء، فربيع؛ ويعدِّد "عِيَن" كلِّ فصل، مبيِّناً ما يصاحبها من خصائص وتغيُّرات في بيئة الشَّاعر، وبالنتيجة يعطي مسحاً مناخيَّاً وفلكيَّاً للعام الذي تتعاقب أيامه على الشَّاعر المُحِب. ويلعب "المسدار" دوراً شبيهاً بدور الفلكي، أو "السُّوسِي"، كما يطلق عليه في البادية، ويُغلب حريز اشتقاقها من الفعل "ساس"، أي قام بالأمر، من حيث هو ضابط للزَّمن ومُوَقِّع للمنازل. وفي "المسدار" تركيز شديد للمعلومات التي يستمد منها (السُّوسِي) معرفته ودوره القيادي في مجتمع البادية. وفي الرباعيَّة التالية يتغزَّل الكردوسي شاعر "البوادرة" قائلاً: "أخبار ذِكْرَك الفِي خسُوسِي/ وصلن عندي محفوظات بقن في الدُّوسِي/ إلقن سيف برنجو مْحدِّدِنُّو لبوسي/ خلن قلبي يلعب زي نتيجة السُّوسِي"! ويَنسب حريز كلمة "الدُّوسِي" إلى اللغة الفرنسيَّة، في معني "السِّجل" أو "الدَّفتر"، كما يَنسب كلمة "برنجو" إلى الكلمة التركيَّة "برنجي"، في معنى "ممتاز" أو "أوَّل"، ويصف "المسدار"، إجمالاً، بأنه أداة تثقيفيَّة لا غنى عنها للرَّجل البدوي، ولكلِّ مَن يَنشُد المعرفة، وهو، فوق هذا وذاك، وثيقة حضاريَّة لا بُدَّ منها لدارسي التراث، وللمشتغلين بالأبحاث الجُّغرافيَّة واللغويَّة والفلكيَّة بوجه خاص.
ولكم تمنيت، من جانبي، أن تتضافر جهود اتحاد الكتاب السُّودانيين، وجمعيَّة حماية البيئة، وغيرهما من منظمات المجتمع المدني المعنيَّة، بالتعاون مع وزارة البيئة والسياحة، في تنظيم رحلة لمجموعة شعراء، وسرديين، وعلماء، وسينمائيِّين، وتشكيليين، وباحثين مختصين يتتبعون هذه "المسادير" المكانيَّة والزَّمانيَّة لمعرفة التغيُّرات البيئيَّة والمناخيَّة التي وقعت على مسالك أولئك الشُّعراء العُشَّاق الأماجد، يَنشدون القنيص، أو ديار محبوباتهم، ما بين الحقبة التي عاشوها، ووصفوها في تلك الروائع، وبين الحقبة الراهنة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.