يضيق المسافرون ذرعا بداية الطريق بجيران المكان أو المقعد..ثم رويدا رويدا تبدأ الألفة والصداقة..فيتسع المكان الذي كان ضيقا في البداية..وقد يتسع ليشمل علاقة في المستقبل..من عادتي أن ابدأ هذه المراسم بالصمت..او التركيز على المناظر التي يوفرها الشباك..وبالعدم الاستغراق في ونسة مع النفس..في بص متوجها من الخرطوم للأبيض..بدأت الرحلة "بشكلة" وختمتها بأخرى..انتحيت المقعد والشباك خلف السائق..أرشدني أصحابي الميكاميكية..أن احجز مقعدي دائما خلف السائق..في حالة الفشل في الجزء الذي خلف السائق عامة..وهذا لدواعي امنية..صدقتهم فيها..وضربوا مثلا..في حالة أن يمد أحدهم يده ليلكمك في وجهك..فإنك تعترضه فورا لا إراديا بيدك اليمنى..وهكذا في حالة حوادث السيارات يقول أصدقائي الميكاميكية..يعترض السائق بجسم المركبة الأيمن..عيال الذين!! "تعنلقت" في الكرسي خلف السائق مباشرة ومع الشباك وانا اعرف انني حجزت تاني زاوية..وبدأت في قرأءة الجرايد بفرح..وقبل تحرك البص بدقيقتين فقط..حضرت حسناء تسر الناظرين..معليش يا اخي دا مقعدي أظن!..صحيح..لكن اجلسي للداخل في مقعدي..لا..انا احب اجلس على الشباك..هزمتني بالحق..وعلى مضض رحلت مع جرائدي كجار لها على يمينها..رفضت التنازل عن هزيمتي..وتجاهلتها..نزلت هي في القطينة للراحة..لم انزل..واستمريت في البغي والعدوان بالتجاهل..اجيب ليك شاي..شكرا قلتها جافة زي شوكة الحنكسيت..يبدو انها فهمت انني "حنبكت"..عندما اقتلعتني من الشباك..لابد ان "يتونس" معك أحد وانت في مثل هذه الرحلة قطعا للمسافة أو وقد تعرف جديدا من شخص ما..الاخ محامي أظن!..ما السبب الذي يجعل كثيرا من الناس يظنون ان المحامي يلزم أن يكون نحيفا هكذا كالجرادة؟..ضحكت بثغر جميل يُضعف "حسن نصر الله" زاتو..وجميع أنواع المقاومة الأخرى..فتعمقت هزيمتي..لأن النحافة موضة..يجيدها المحامون..انت من الابيض ولا ماشية الابيض..اجبني انت اولا على سؤالي..أنا لست محامي..وياريت.."انا لم اكمل تعليمي حتى"..أنا زول بسيط زول الله ساكت..تكتيكات قديمةBut it work ..لتوريط أحد في الكلام "الدّراب" والتناقضات..قبل أن تجبره على التراجع والفرار بحجج لم يتوقعها..تدفق الحديث..وسهلت الرحلة..واكتفيت أنا بشباك الجمال الجديد على يساري.."ويطير" مرخ النيل الابيض..وشجر سنطه.. ونق..نق.نق..مبالغة..مبالغة..بالله عليك..من المؤكد أغاظت بعض الركاب.. وما أن انزلق البص من جبل كردفان حتى بانت خور طقت فقلت لها..هذه بلادي..ثم هبطنا لنقطة التفتيش الأولى..دقائق قليلة واستأنف البص مسيره..وبغتة سمعنا هرج ومرج..بدأت "الشكلة" التانية..الولد الولد..قول لبتاع البص "اقيف" في ولد راكب..الذين يحكموننا ولا يقودوننا..لا يحزنهم بؤسنا ومعاناة صغارنا..سائق البص تركي له "عنقرة".. استورده هؤلاء لقهرنا..معقول سواقين بصات ما عندنا..ثم تبينت الأمر..الولد بائع متجول "بكرتونه" على كتفه تحتوي السجاير ورقائق البسكويت واللبان ولغاويس أخرى..كان يلزم أن يكون في مدرسته.. متسلحا بجمال جارتي..والإحساس بالتاريخ وقفت منتصبا وصرخت في وجه السائق بصوت تحقنه المرارة..ما تقيف أنت يا سواق..عندما تبينت له جديتي..توقف وقال للولد: أنزل..فقلت له فورا: جدود هذا الولد أنزلوا جدودك من ضهر هذه البلاد..وشوف هناك "وأنا أمد يدي كأنها سيف ناحية الجنوب" شيكان نص ساعة من هنا أمشي فتش عضام جدودك ودمهم الذي لا يزال "يبظبظ" واسألهم!!..فسمعت الله أكبر "القديمة"..ترجعو لمحل اختو يا تركي!..ازداد عدد الله اكبر من المقهورين من أشياء أخرى..وأنا متأكد أن جارتي تفاجأت "وتكيفت".. فأرجعناه بالبص إلى التفتيش والتركي ينفخ في هواء بلادي مقهورا كأجداده..في الموقف وقبل الفراق وداخل البص..تنازلت جارتي في الرحلة وعرضت علي بطاقتها الجديدة الحقيقية هذه المرة وبقيت أنا كما أنا أتذكر جمال الأبيض بجمال تلك "البنية" الزائد.. ولكن الناس لا تضيق هكذا في قطار نيالا..وفي تلك الأيام الخريفية.. ديباجة الحديس: للذي هناك وفي تمام اللحظة هنا..