تشهد الساحة السودانية حراكا سياسيا لم تعرفه منذ زمن بعيد.وهذا يدل على أن الأزمة السياسية قد وصلت مرحلة المأزق السياسي، أى درجة غياب الحلول الممكنة، والبدائل الناجعة. فقد تحولت اللعبة السياسية السودانية إلى صراع العاجزين بين نظام يحكم بلا سلطة حقيقية تفرض قراراته، ولا قدرة على فرض سيطرته على كامل التراب الوطني. وفى المقابل تحالف معارضة يzضم الأخوة الأعداء، وخلافات الفصائل المؤتلفة تفوق صراعاتها مع النظام. ومن هنا جاء خطاب الرئيس (البشير) فى السابع والعشرين من يناير الماضي، بمثابة طوق نجاة لحزبه ولمعارضته معا. والدليل على ذلك هو أن الخطاب رغم غموضه، وعدم صدور قرارات لبناء الثقة وتهيئة أجواء الحوار، تسبب فى هرولة أحزاب المعارضة الرئيسية رغم نقدها الحاد للخطاب.وحاول بعض الأطراف من المعسكريين تبرير قصوره بأن الخطاب الأصلى تم استبداله. وفى هذا الوضع كثير من الحيرة وعدم الجدية.ومع ذلك فقد أدى الخطاب وظيفته فى كسر الجمود فى العلاقة بين المعارضة والنظام. كان يمكن لهذا التفوق النسبى للنظام على المعارضة، أن يكون ميزة له فى حالة الظروف العادية. ولكنه يحدث، وحزب (المؤتمر الوطنى) الحاكم يعانى من انقسام خطير لا يقل عن مفاصلة الشيخ (حسن الترابى) فى عام 1999والتى كُوّن بعدها حزب (المؤتمر الشعبى). فقد خرجت مجموعة (غازى العتباني) الذى كان يرى فيه الإسلاميون مفكرا مميزا، ومفاوضا من الطراز الأول. وقررت المجموعة فى 3 ديسمبر2013 تأسيس حزب أطلقوا عليه اسم «حركة الإصلاح الآن»، مؤكدين أن حزبهم الجديد «سيطرح نفسه كبديل سياسى وفق ما كفله الدستور». وأكدوا أن الحزب الجديد يهدف إلى «بعث إصلاح أوصال السياسة السودانية وقواها المختلفة بتجميع السودانيين على الحدود الدنيا».وخطورة هذا الإنشقاق فى استخدام كلمة «الإصلاح» ما يعنى الانحراف عن شعارات الإسلام والشريعة التى ميزت النظام. خاصة، وقد أجرى الرئيس (البشير) تعديلا وزاريا قبل شهر من هذا الانشقاق، اعتبره المراقبون تصفية للعناصر المتمسكة بأيديولوجيا الإسلام السياسي. واعتبر كثيرون أن هذه عملية عسكرة وأمننة للنظام. ظل نظام الإنقاذ الإسلامى وحزبه (المؤتمر الوطني) محاصرين بثالوث الأزمات المحكمة: الأمنية، والاقتصادية، والسياسية. أما الخروج من الأزمة السياسية فيكون بتشكيل حكومة قومية انتقالية للقيام بمهام المرحلة القادمة، مثل وقف الاقتتال فى مناطق النزاعات، واجراء الانتخابات. لكن النظام يرفض فى مكابرة غريبة الاعتراف بوجود أزمة أصلا، وأنه ليس فى الإمكان أحسن مما كان. ومشكل النظام الحقيقى هو عدم شعوره بوجود تحد أو خطر ماثل يستوجب التراجع والتنازل ويجبره على الدخول فى حوار جاد. فشلت المعارضة فى التحول إلى حركة جماهيرية ذات وجود فى الشارع. وكان من الطبيعى أن تظهر قوى شبابية من خارج التحالف هى التى قادت احتجاجات سبتمبر الماضى. وانتظر الشباب مساندة جماهير الأحزاب وانضمامها للمظاهرات، وهذا ما لم يحدث. فاستفرد أمن النظام بالشباب المحتج، وقرر قمعهم بطريقة تثير الرعب فى كل من يفكر فى الخروج. وسخر النظام من فكرة »ربيع عربى سودانى» مرددا بأن الربيع جاء مبكرا فى السودان مع استيلاء النظام على السلطة قبل نحو ربع القرن! بالتأكيد لا يمكن لنظام يتعامل بمثل هذا الاستخفاف مع معارضته، أن يدخل معها فى حوار جاد. يرى بعض المراقبين أن دعوة النظام هذه ليست قومية المقصود بها كل القوى السياسية.بل هى فى حقيقتها-حسب هذا الرأي- إحياء لتحالف إسلامى عريض أو كما يسميه (الصادق المهدي):لقاء أهل القبلة،والذى يضم كل الداعين للدولة الإسلامية. وقد ظهرت إرهاصات هذه الدعوة على أرض الواقع فى تشكيل (جبهة الدستور الإسلامي) والتى تعمل كمجموعة ضغط لتمرير الدستور خلال الفترة القادمة.وتعيش البلاد لقاءات ورحلات مكوكية بين أحزاب:الموتمر الوطني، حزب الأمة، المؤتمر الشعبي، وأحيانا الاتحادى الديمقراطية. ومن الواضح أن أغلب الأحزاب يرى ضرورة إصلاح النظام وليس تغييره. وهذا ماقاله الشيخ (حسن الترابى) صراحة محذرا من مصير دول مثل سوريا والعراق وليبيا. وتزيد المعارضة الموقف ارتباكا وغموضا لأنها لا تقدم نفسها كبديل لديه الحلول للأزمات. والآن وقع النظام اتفاقيات ثنائية مع حزبيّ الأمة والمؤتمر الشعبي، مما تسبب فى تجميد مشاركتهما فى المعارضة. ورغم نضوج الازمة السودانية لا تجد الجماهير من ينظمها ويقودها. لذلك يسود إحباط عام ويأس واضح. وهذا عامل دفعه لاستمرارية النظام رغم موته السريرى الظاهري. فقد تم ما يمكن تسميته ب «التسريح السياسي» أى فض اشتباك الجماهير بالسياسة ونشر روح عدم الاهتمام بالشأن العام. وبالفعل اتجهت الجماهير إلى الطرق الصوفية التى تكاثرت تنوعت، وأصبحت الملاذ الآمن والبديل الجمعى للكثيرين. يزداد المأزق السياسى تأزما ليهدد وجود البلاد نفسها، لكن التاريخ لم يعد لديه ترف تكرار محاولات التجربة والخطأ.فالنظام السودانى رغم كل سجله فى نقض العهود، مطالب هذه المرة بأن يتعامل بجدية ومسئولية تجاه ما تحدث عنه: الحوار. وعليه ألا يدخل فى المناورات وإضاعة الزمن. فهو ليس لديه ما يفعله بالزمن الضائع. فالمطلوب هو الدعوة فورا لمؤتمر دستورى تحت إشراف دولى وإقليمي، يكون على رأس اجندته كيفية تأسيس دولة مدنية ديمقراطية، متعددة الثقافات. ثم يلحق ذلك بمؤتمر اقتصادى إسعافى يوقف النزيف والتدهور.وبدون هذا الحل على السودانيين أن يستعدوا جيدا لاستقبال الجحيم القادم. اهرام