إبراهيم صموئيل ما إنْ تجمّع عشرات من أبناء الشعب السوداني وهتفوا احتجاجاً، حتى انبرى صوتٌ من السلطة الحاكمة يقول: إنهم شذّاذ آفاق!! على الفور، وعقب تظاهر العشرات، حسمت السلطة السودانية توصيفهم: شذّاذ آفاق!! ليس جراء تسرّع في التوصيف والحكم، ولا تعجّل في إطلاق الإدانة، وإنما بسبب تركيبة الآلة الحاكمة في البلدان الاستبدادية التي صُمّمت وجُهّزت لإطلاق الإدانات حال تظاهر مواطن أو بضعة مواطنين في الشارع! السلطات الحاكمة أشبه بآلة، أو بجهاز إنذار يعمل تلقائياً: أي تجمّع يعترض أفراده فهم خونة، مجموعة مخربين، أو هم من المندسين، المغرضين، المرتبطين بالأعداء أو بالخارج... وإلى ما شابه من توصيفات واتهامات!. لسان حال الأنظمة الاستبدادية يقول: «نحن قوم لا توسّط بيننا.. لنا الحكم دون الآخرين أو القبر» وأيّ «آخر» يرى غير ما نرى فهو خائن وعميل! الوطنية هي السلطة الحاكمة، والعمالة كل ما عدا ذلك!! ان تكون وطنياً يعني أن ترضى وتقبل. أي تذمّر أو احتجاج أنتَ هدّام يجب محاربتك أو اعتقالك أو قتلك! لم يرتبك مسؤول الإعلام في السودان ولم يضطرب. استحضر ما قاله مسؤولو الإعلام في دول الربيع العربي التي سبقت، استحضره عينه، ورماه في وجه السودانيين المعترضين! لا ابتكار، ولا إبداع، ولا تغيير، ولا تبديل، حتى بالمفردات: الأسطوانة المشروخة عينها، صناعة الأنظمة الفاسدة عينها، تتكرر وتُعاد! السودانيون المحتجون، وبخفة دمهم المعهودة، عمدوا إلى تسمية يوم احتجاجهم «جمعة شذّاذ الآفاق» نكاية في نظامهم السياسي وسخرية منه! غير أن اللافت في عموم بلدان الربيع العربي موقف السلطات الحاكمة من المعارضين راسخ رسوخ الجبال: معادون، مرتبطون، شذّاذ، مغرضون، مخربون، جرذان، عيال... أي أن فكرة المعارضة ملغاة من أساسها، بحيث بات المرء يشتهي أن يشذّ نظام عربي واحد، سلطة حاكمة واحدة... ولكن عبثاً! منذ مئات السنين، من التاريخ العربي، يعتقد الحاكم أنه حاكم بأمر الله، وأنه مكلّف تكليفاً من إرادة عليا فوق البشر لإدارة شؤون البلاد والعباد. العديد من رجال السلطات الحاكمة لا يلفظون اسم الحاكم ولا منصبه مثل: «أبلغنا السيد الرئيس فلان» بل يقولون، حتى بين أوساط أعلى القيادات والهيئات: «جاءنا من فوق أن علينا القيام بكذا وكذا» يستخدمون كلمة «فوق» إشارة وإقراراً ضمنياً لما هو مفارق للبشر، ومختلف عنهم! نوّاب الرؤساء الذين يمنحهم منصبهم حقّ التوقيع بدلاً من الرئيس تراهم حين يتم استدعاؤهم يقفون مرتبكين، مذعورين، مطرقين أمام الرئيس! كلنا رأينا هيئة عزّت الدوري وقبّعته التي كادت تسقط عن رأسه من الرعب حين كان يخبر صدام حسين عن أحد مؤتمرات القمة العربية! وثمة من النواب من هم أشدّ فزعاً، وجفافاً للحلق، واصطكاكاً للركب من عزّت الدوري! في ظل مسلَّمة تقرر أن الحاكم العربي حاكم بأمر الله، وليس خادماً للشعب، وأن بينه وبين أول مسؤول يليه مسافات ومسافات... كيف له ولرجال سلطته ان يتقبّلوا، أو يتفهّموا، أو يهضموا فكرة أن الرعاع، المهمّشين، المنبوذين، المارقين، الحثالة، الشذّاذ، الفئران والجرذان على حد تعبير القذافي نفسه أصحاب النعال الممزقة، والثياب الرثّة، والوجوه الكالحة شقاءً، العيال، المخبولين، أن الذين هم في أدنى المراتب الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية... أن هؤلاء جميعاً قد نهضوا، مثل عمالقة مردة، «يريدون إسقاط النظام» وخلع الحاكم، الحاكم بأمر الله، وكنس نظامه؟!