الحاكمية واحدة من التناقضات المعرفية الإسلاميون يستندون على الميراث الثري لنقض المعرفة الغربية، ولكن ماذا عن الانقلابات الجذرية في المعرفة العلمية المتولدة في الغرب، التي تنطبق أيضا على كل الحضارات، بما فيها الحضارة العربية الإسلامية؟! ميدل ايست أونلاين بقلم : عبد السلام فاروق بادئ ذي بدء ينبغي أن نميز بين مصطلحي "فلسفة المعرفة " و"المنهج "فكلاهما يشتمل .على تعقيدات إضافية يمكن بحثها بالتوازي كلما دعانا السياق لذلك، فعلى المستوي المعرفي هناك ما يميز نظرية "المعرفة العلمية" كما تطورت في الغرب، وكما سادت النشاط البحثي في المجالين الطبيعي والاجتماعي. نقطة انفصام جوهري بين ميراث الفكر العربي ومشروع الحداثة الغربي، ويمكن ببساطة أن نقيم هذه النقطة كموضوع بحثي ممتد، قد يأخذ أجيالا من البحث والباحثين، من أجل الوصول معه إلي وضوح كاف. فمشروع التحديث الغربي الذي انبثقت منه الفكرة السائدة عن العلوم يقوم في نهاية المطاف على الاعتقاد بضرورة الفصل بين المعرفة الدينية والمعرفة العلمية "الوضعية "، أي أن هناك نظرية يمكن أن نسميها ب"نظرية الحقيقتين" أو "ثنائية المعرفة"، فتظل المعرفة الدينية شئ والمعرفة الوضعية شيء آخر. أمامنا هنا، مشكلة معقدة لا يمكن التخلص منها بسهولة على أي من الجانبين، فمن ناحية أمكن للعرب تحقيق زخم معرفي حتى في مجالات الفلسفة والعلوم الطبيعية والبحثية في إطار نظرية وحدة المعرفة، ودون التخلي عنها، ومن ناحية ثانية فان التقدم المؤثر، وبالغ الاتساع الذي تحقق من خلال ثنائية المعرفة لا يمكن إنكاره أيضا. وبالطبع هناك مشكلة معرفية، وليست منهجية، ولا يمكن حسمها بمجرد التوحد مع تراث المعرفة العربي، فالبعض ممن يقولون .على سبيل المثال بإسلامية المعرفة يستخدمون في الجوهر حجة تقوم .على الهوية والهوية (سوسيولوجية) حية، وليست مقولة معرفية ساكنة. إنها حجة ضعيفة من وجهة النظر الإسلامية، على الأقل من زاويتين: الأولي: أن الخطاب القرآني حافل بالأفكار التي لها قيمة معرفية عن الأجداد ومعتقداتهم وممارساتهم، وذلك لأن النص القرآني قد استند إلى استبصارات مأخوذة من الأديان الشرقية عموما. على اعتبار أنها جميعا رسالات إلهية. فكان مجرد كونه عربياً _ أو أوروبياً _ أو من أي أصل كان _ فان ذلك لا يشكل حجة لمصداقية أقوال السلف بحد ذاتها. ومن ناحية ثانية فان الخطاب القرآني قد عرض باستفاضة فريدة من إبراز مقولة العقل التي تمثل مكانة رئيسية، في أسلوب الماجة القرآنية والإسلامية الأصلية. وأمامنا هنا أيضا، حقيقة انقطاع الاجتهاد في العلوم الدينية، وفي الإبداع المتواصل في العلوم والمعارف الإسلامية لفترة تصل إلي سبعة قرون، وهذه الفترة كافية جدا للتأكد من الحاجة إلي قراءة التراث المعرفي للحضارة العربية الإسلامية من خلال منظور يركز على هموم ومشكلات الحاضر الذي انقطع التواصل الفكري معه طوال هذه الفترة. وفي تقديري أيضا، أنه لا يمكن إنكار حقيقة التقدم العلمي والمعرفي الراهن، والذي يأتي من مصادر غربية قد حقق إنجازات مذهلة، فيما هو نشاط عقلي. صحيح أن نتاج هذا النشاط قد تعرض لنقد معرفي _ فلسفي، ونقد اجتماعي حاسم , فمن الناحية المعرفية نحن نعيش لحظة فوضي علمية .على الأقل في مجال العلوم الاجتماعية اثر سقوط النظريات الكبرى، والعجز عن استبدالها بنظريات مماثلة لها قدرة تفسيرية كاملة. ومن الناحية الاجتماعية فأن الأمر لا يحتاج إلى بيان للكشف عن الأوجه العديدة لإساءة استخدام المعرفة العلمية في أغراض مضادة لمصالح البشرية كالحروب وتخريب البيئة وغيرهما من ضروب المعاملة اللاإنسانية التي تستخدم تقنيات متقدمة. إن الإسلاميين على وجه التحديد، يستندون .على هذا الميراث الثري لنقض المعرفة الغربية كما أسلفنا، ولكن الذي لا ينتبهون إليه هي تلك الانقلابات الجذرية للمعرفة العلمية المتولدة في الغرب، تنطبق أيضا .على كل الحضارات بما فيها الحضارة العربية الإسلامية، إذ لا تعوزنا الأمثلة لبيان مدي إساءة استخدام المعرفة، كما أنه لا تعوزنا الأمثلة .على الاضطراب الفكري الشامل الذي ألم بالحضارة العربية الإسلامية لفترات ممتدة جدا، بل ونستطيع أن ننسب هذا الاضطراب إلي لحظة قريبة من الميلاد الأول للرسالة الإسلامية، أي لحظة الفتنة الكبرى وما سبقها بقليل من تفاعلات. إننا هنا أمام محنة معرفية، ومحنة اجتماعية، محنة اللإنسانية ككل، ولسنا بمعزل عن هذه المحنة حتى لو عدنا إلي نظرية أو مقولة "وحدة المعرفة ". أنني لا أقدم هنا حلا سحريا للمعضلة ولكني ألقي بعض الضوء .على المحيط الهندسي العام لهذه المعضلة الفكرية. نستطيع على الأقل، أن نبدأ أو أن نتفق .على قاعدة عملية بسيطة وهي أن المعارف الدينية لا ينبغي أن تصادر المعرفة العلمية أو الوضعية، ذلك أنه لو قمنا بهذه المصادرة فلن نحقق أي تقدم بالقياس إلي التقدم الذي حققته الحضارة الغربية ونستطيع أيضا أن نقدم مقولة علمية أخري لكي تكون لدينا حقيقة معرفية عادلة _ لو جاز التعبير_ وهي المعرفة الإيمانية أو الإلهامية غير جائزة في المجال الوضعي، ولا تفوز بجائزة مرور تلقائية لمجرد إيمانيتها، وإنما ينبغي أن تكون خاضعة لامتحان معرفي غير إيماني ن لأنها في مجال اللا وضعي؛ لا تقبل هذا الامتحان، ومكانها الطبيعي هو الوجدان، ولا نعني بذلك أن الوجدان يقل أهمية في تكوين الإنسان الحديث عن العقل والعلم. إذن لا مناص، من دفع السؤال خطوة نحو الأمام متسائلين: إلى أي مدي اعتمدت هذه المناهج .على الخطابات المعرفية والإجرائية المنتجة في المجتمعات الغربية؟ الأمر الذي لا شك فيه أن المناهج البحثية الحديثة تستند .على الخطاب المعرفي، و.على تطور الشكل الإجرائي للمجتمعات الغربية، هذا أمر لا شك فيه مطلقا، ولكنه لا يكفي لحسم القضية المضمرة في السؤال، ولو تصورنا أن الافتراض المضمر في السؤال قابل للبسط _ على إطلاقه _ لوصلنا إلي النتيجة التالية: أن كل حضارة أو كل نظام ثقافي رئيسي ينتج خطابه المعرفي ومناهجه البحثية الخاصة به، وما يهمنا في هذا السياق، أن هذا الافتراض ينتهي بنا إلي التأكيد .على استحالة التواصل بين أرجاء الإنسانية وأقسامها الثقافية المختلفة؛ خاصة وأن معني الإنسانية ذاته يقتل في مطعن في هذه الحالة. ولنعد مرة أخري إلي الخطاب القرآني نفسه، وسوف نجد أن خطابه يصر .على التنوع والتعدد الذي يزيد اللقاء والمعرفة والتواصل خصوبة ( لقد خلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)، ويقوم هذا الخطاب كذلك .على مقولتين جوهريتين فيما يمكن أن نسميه " الخطاب المعرفي الإسلامي". المقولة الأولي : هي واحدية الله غير المشروط بقبيلة أو شعب، وهذا المعني العظيم لله سبحانه، يختلف اختلافا جذريا وقطعيا عن المعاني القبلية والشعوبية (لله) لدي الشعوب القديمة والأديان البدائية التي استندت .على التوحيد بين الشعب والله ؛ أما الإسلام فيحدث قطيعة مع هذا المفهوم الوثني، ويجرد الفكرة تجريدا مطلقا، ويدركه باعتباره "إلها " لكل الشعوب، حلقة الوصل هنا هي العقل والحكمة، بمعني الاستبصار في شئون الكون وفي المعارف المتحصلة من اللقاء بين الشعوب. أما المقولة الثانية: فهي المعني المضمر في الخطاب القرآني، وهو وحدة المعرفة الإنسانية كترجمة لمعني واحدية الله. خاصة أن القرآن الكريم يقدم خطابه للإنسان عموما بقدر ما يوجه خطابه للمسلمين والمؤمنين، وحتى عندما يخاطب هؤلاء، فانه لا يعني بهم جماعة عرقية أو حتى لغوية أو دينية بالمعني الشكلي، انم ينظر إليهم باعتبارهم تلك الجماعة التي تتواصل بالمعرفة الإيمانية، وهي مسألة لا تجرح مقولة وحدة المعرفة الإنسانية. المشكلة هي ذلك الخلاف التقليدي بين مناهج الفقه ومعاني الفلسفة والفقه يقيم بناءً شكليا يميز الناس، وفقاً لمقولة صارمة ومعطيات مؤسسية؛ أما معاني الفلسفة فإنها تنحو إلي التجريد، وتتسم بمرونة المقولات واتساعها لتشمل استبصارات في الحالة الإنسانية، وفي الثقافة العربية ربما، لا بد أن يأتي اليوم الذي نحسم فيه ما إذا كنا سنقيم مشروعنا الفكري .على منجزات الفقه التقليدي أم ببناء فلسفي متصل بإنجازات الفلسفة العربية الإسلامية.