تحليل سياسي : دواعي إحباط وزير الخارجية السوداني من السياسة الأمريكية تجاه بلاده بدا وزير الخارجية السوداني علي كرتي خلال حديثه لبرنامج ( لقاء اليوم ) بقناة الجزيرة بتاريخ 6 أكتوبر 2012 بدا السيد الوزير مشوشاً ومرتبكاً ومحبطاٌ من تعامل الإدارة الأمريكية الحالية وسياستها تجاه بلاده ، وذلك علي الرغم من أن اللقاء جاء بعد أيام قليلة من توقيع إتفاق التعاون بين السودان وجنوب السودان بأديس ابابا والذي وصفه الوزير تطابقا مع وصف الرئيس الامريكي له ( بالتاريخي) حيث كان للولايات المتحدة وموفدها الرئاسي ليمان دوراً بارزاً في التوصل لحيثيات الإتفاق ، حيث أقر الوزير بحدوث ضغوط ليس علي بلاده هذه المرة وإنما علي دولة جنوب السودان عكس بلاده التي أتت - حسب تعبيره - الي المفاوضات ووقعت راغبةً طائعة ًومختارة . يقوم التحليل في هذا المقال علي اللقاء المذكور أعلاه مع إستدعاء لقاءات اخري لنفس القناة في تواريخ سابقة نسبيا وغير بعيدة ورغم أن اللقاءات وأفادات الوزير إشتملت علي موضوعات أخري في الشأن السوداني إلا أن التركيز سيكون علي دراسة الحالة وهي (السياسة الأمريكية) وإن شئنا الدقة ( تصور وزير الخارجية السوداني لطبيعة هذه السياسة ) . ويفترض التحليل : 1/ أن الوزير غير مدرك لطبيعة عملية صنع السياسة الخارجية الامريكية عموما وبالتالي علي وجه خاص للسياسة الامريكية تجاه بلاده ويتجلي عدم الادراك هذا من خلال نقطتين: . دور القيادة السياسية (الرئيس) في السياسة الخارجية الأمريكية . . طبييعة ودوافع القوي المجتمعية والناشطين (جماعات المصالح) ودورهم في السياسة الخارجية الأمريكية. 2/ أن عدم الإدراك أعلاه أوقعه - أي الوزير- في شباك الإحباط واليأس من علاقة أمريكية سودانية لا يبدو أن هنالك أفقاً لترميمها . أولا: دور القيادة في السياسة الخارجية الأمريكيةٍ : يتناول الوزير دور الرئيس الأمريكي في التعامل مع السودان من خلال مصطلحات ( القيادة ) و (البيت الأبيض) و(الولاياتالمتحدة) ولكن يفهم من سياق الحديث أن المقصود هو الرئيس الأمريكي تحديدا او بشكل اخر الادارة التنفيذية بما يشمل الرئيس وأجهزته المختلفة بما فيها وزارة الخارجية فيقول : . " أتمني أن يكون البيت الأبيض صادقاً في هذا .... والولاياتالمتحدة تحتاج إلى أن تبلور رؤية حقيقية وجادة في التعامل مع السودان، لا أن تترك هذا الملف لناشطين ولمتأثرين بنشطاء ومنظمات لا تحب إلا أن تستمر الأزمة لتعيش هذه المنظمات " . . وكرر والوزير نفس الفكرة " الولاياتالمتحدة إذا لم تكن صادقة فإن هذه المشاكل ستكون مستمرة، إذا استمرت الولاياتالمتحدة بذات المراوغة وإعطاء الفرصة للناشطين والمؤثرين على السياسات العامة فلن يكون لديها دور إيجابي في السودان" . " مع أنها أقوى دولة في نظر الكثيرين في العالم ولكنها أضعف دولة في مواجهة تحديات داخلية قليلة جدا كان يمكن للقيادة أن تتجاوزها وأن تقول بالصوت العالي أننا Dimofinf Player http://www.youtube.com/watch?feature...&v=07nWJAzUz0Y جئنا للتغيير فلا بد للتغيير من أن يشمل علاقات إقليمية ودولية وأن السودان لا يستحق هذه المكانة في علاقته مع الولاياتالمتحدة، ولكن بكل أسف قيادات هي أضعف من أن تتمكن من اتخاذ مثل هذا القرار " والان يمكن من خلال إفادات الوزير هنا تلخيص أهم ما ورد فيها علي النحو التالي: أ/ المطالبة للولايات المتحدة ان تتعامل بصدق(مكرر) وأن تترك المراوغة . ب/ النصح لها ببلورة رؤية حقيقية و جادة في التعامل مع السودان . ج/ اللوم لترك الملف للناشطين والمنظمات والمتأثرين بها للتأثير علي السياسة العامة . د/ الوصف بالضعف القيادة الأمريكية وأنها لا تستطيع مواجهة تحديات داخلية . ومن هن نأتي الي تحليل مبسط لدور القيادة السياسية او الرئيس الأمريكي في صياغة السياسة الخارجية لبلاده والذي أدي خطأ تقدير الوزير لهذ الدور الي وصفه للرئيس (الديمقراطي) باراك اوباما بالضعيف وغير القادر علي مواجهة جبهته الداخلية . يخصص والتر راسيل ميد Walter Russell Mead في سِفره الموسوم ( السياسة الخارجية الأمريكية وكيف غيرت العالم ) (American Foreign Policy and How It Changed the World ) والذي خصص حيزاً فيه غير يسير للرد علي سوء الفهم العام لطبيعة السياسة الخارجية لبلاده وهو المتخصص فيها ، و يمكن تلخيص أراءه و أفكاره في هذا الصدد علي النحو التالي : . أكد علي انه خارج الولاياتالمتحدة هنالك أراء مختلفة عن حالة المجتمع الامريكي وطبيعة السياسة الخارجية أدت في كثير من الحالات الي توصيفها من قبل سياسيين مرموقين في بلادهم بأقذع الاوصاف - ولعل في هذا سلوي للوزير كرتي - حيث وصفها الرئيس الماليزي الأسبق ماهاتير بأنها مجتمع منحل يسمم العالم بقاذوراته وثقافته الشعبية المتردية التي تقود امريكا الي طريق الزوال الحتمي ويقول غورباتشوف ويحذر من افعال امريكا المتهورة الاحادية وروح المغامرة الشديدة التي تهدد بحدوث فوضي عارمة تمثل خطرا علي كل الامم العاقلة. . السياسة الخارجية الأمريكية هي نتاج جهد جماعي ولا تعبر عن توجهات شخصية فردية فعلي عكس أنصار المدرسة الواقعية الذين يؤمنون بنظرية " مؤلف الفيلم " في السياسة الخارجية والتي مؤداها ان أفضل سياسة خارجية هي التي تكون نتيجة تفكير وعمل زعيم واحد فإن النظام السياسي الامريكي غير مهيأ لهذا النوع من الشخصيات. . الدستور الأمريكي محمل بشروط تم حسابها بدقة لتجعل من الصعب علي الحكومة إتخاذ إجراء قوي وسريع في السياسة الخارجية ، والطبيعة الديمقراطية للنظام السياسي تجعل المجتمع الامريكي اكثر المجتمعات إعتياداً علي رؤية الروؤساء يتبعون الرأي العام بدلا من أن يقودوه . . العلاقة بين الدولة والمجتمع في النظرية التقليدية تتجه لإعلاء الفصل بين أنشطة الدولة والأنشطة الخاصة للمجتمع في الخارج فتعتبر أن السياسة الخارجية فقط هي ما تقوم به الدولة هذه العلاقة وإستنتاجاتها لا تنجح وغير مناسبة للسياق الأمريكي فعبر التاريخ كان الفصل بين الدولة والمجتمع أقل وضوحا وقليل من الأنشطة والمبادرات الهامة في المجتمع الامريكي قادته الدولة أو قامت بتنفيذه . ثانيا : طبييعة ودوافع القوي المجتمعية (جماعات المصالح) في السياسة الخارجية الامريكية أبدي الوزير في حديثه تفهماً ووعياً لدور بعض الجماعات والناشطين في التأثير علي السياسة الامريكية تجاه بلاده ، ذلك التأثير الذي أصبح من مسلمات السياسة الأمريكية تجاه السودان حيث يلعب اليمين الديني المسيحي دوراً بارزاً في وضع قضية السودان علي أجندة السياسة الخارجية الأمريكية ويحرز نجاحاً في تحقيق أهدافه ومراميه ولا يضاهيه ويفوقه في ذلك إلا نجاح اللوبي الإسرايئلي المدعوم من التيارات المسيحية الصهيونية الأمريكية في تأييده ومساندته للسياسة الأمريكية الداعمة لاسرئيل . ولعل من نافلة القول ان هذا التأثير لليمين الديني المسيحي لا ينفي دوراً وتأثيراً للمقومات الصلبة للسياسة الأمريكية ( المصالح الإستراتيجية والأمن ) في صياغة السياسة الأمريكية تجاه السودان ولكنه تدافع وكفاح تتيحه طبيعتها التي تم الإشارة اليها مسبقا . ولكن ممكن العلة يبدو في أخفاقه في ادراك كنه دوافع هذه الجماعات وناشطيها في إهتمامهم التاريخي بالسودان ، وذلك بوصف دوافعهم بالإرتزاق و تسلق المناصب عبر القضية السودانية فيقول . " أصبحت قضية السودان هي قضية معاش ومواقع سياسية وتبوء مناصب ويعيش عليها الكثيرون " . ويقول أيضا " لا أن تترك هذا الملف لناشطين ولمتأثرين بنشطاء ومنظمات لا تحب إلا أن تستمر الأزمة لتعيش هذه المنظمات " ولعل الوزير هنا يستعير أسلوب الإغتيال المعنوي المستخدم كتكتيك ضد الجماعات الوطنية التي تناهض النظام الحاكم فيتم وصفها دوما بالارتزاق والعمالة ورهن الارادة وتستخدم ضدها دعاية من قبيل " معارضة الفنادق " و "ربائب الاستعمار" ولكن إن كان لذلك تأثير يختلف مداه علي جبهة الوطن فإنه منعدم الأثر علي الجبهة الامريكية المتصالحة مع هذا النوع من الأنشطة الذي افرزته الخبرة السياسية الامريكية بل وتفاخر به بإعتباره ميزة تفتقدها الكثير من المجتمعات . والمتابعين والدارسين لجماعات المصالح وإستراتيجيات عملها في المجتمع الامريكي بدأوا يركزون علي النفوذ الكبير للجماعات الدينية التي تستفيد من البيئة السياسية الأمريكية والسياق الذي يوفره النظام السياسي الامريكي لعمل هذه الجماعات فأصبحت ظاهرة سياسية أخذت حيزا مقدرا من حصة الاهتمام العلمي والأكاديمي علي مستوي دوائر التفكير السياسي وذلك لقدرتها الهائلة علي الحشد والتعبئة وسط أنصارها في قضاياها الاجتماعية الداخلية ودورها البارز في الحملات الإنتخابية التشريعية والرئاسية وإمتداد هذه القدرة الي محيط السياسة الخارجية الامريكية حيث المثال الباذخ دائما هو نجاحها في إقرار قانون الحريات الدينية في ولاية رئيس ديمقراطي (كلينتون) في العام 1998وضغطها علي الجمهوري (بوش) الذي أوصل الي توقيع إتفاق السلام السوداني في العام 2005. تتعرض هذه الجماعات للعديد من الإنتقادات من التيارات الليبرالية الامريكية ومن الدوائر البيروقراطية ليس بينها الإرتزاق أو التسلق ولكنها تنتقد بشدة باعتبارها تٌعرض صورة أمريكا في الداخل والخارج للإهتزاز ومناهضتها للقيم الامريكية في نشر الديمقراطية وأن أهدافها تتناقض مع متطلبات المصلحة الأمريكية بعناصرها الصلبة التي لا تعني بالقضايا القيمية كثيرا ، إن هذه الجماعات الدينية أو الجماعات القائمة علي الايمان faith-based ngo's تعتمد علي قيادة دينية روحية كاريزمية وعلي قاعدة يحركها ايمان عميق بأهداف وسياسات الجماعة . وعودة هنا الي ميد الذي يشير أنه ليس من الخطأ الحديث عن سياسة خارجية للشعب الامريكي وهي لا تتطابق بالضرورة مع السياسة الدولة وكثيرا ما تقدمت السياسة الشعبية علي السياسة الرسمية . ثالثا: مؤشرات اليأس والاحباط يمكن متابعة هذه المؤشرات من خلال ثلاث إفادات للوزير بدأ فيها برغماتياً متفهماً وانتصف أقل تفاؤلا وانتهي به الأمر آسفا محبطا : . يقول الوزير ويعبر عن فهم برغماتي (حميد ) من خلال حديثه لبرنامج (لقاء اليوم ) بتاريخ 17 أغسطس2011 في رد علي سؤال حول عدم مقابلة المسئولين الأمريكيين للرئيس البشير علي خلفية اتهامات المحكمة الجنائية " قضية الرئيس نحن تجاوزناها باعتبار ان هنالك مصالح يمكن أن يحصل عليها السودان في حالة التواصل مع بعض هؤلاء المسئولين.... إتخذنا سياسة مرنة طالما هناك مصلحة في هذا ىالتواصل " وحول الوعود الأمريكية لحكومته يقول " لا اقول انها تبخرت ولكن هنالك من يلعبون علي حبال مختلفة ...الادارة الرسمية لم يصلنا منها الا التأكيد بأنها علي خارطة الطريق" . لبرنامج بلا حدود بتاريخ 9 مايو 2012 " الولاياتالمتحدة ليست صفا واحدا هناك من يريد أن يتعامل مع السودان ..... طبعاً نحن مضطرون لذلك هنالك بعض الناس لديهم علاقات مع أطراف عدائية موجودة في السودان تمارس عدوان على السودان وتجد الدعم من هذه الأطراف الأميركية وهنالك آخرون لديهم تعقل في تناول قضايا السودان ونحن نتفهم ذلك ومضطرون للتعامل مع كل هذا الواقع " . وبتاريخ 6 أكتوبر2012 يكرر عبارات الاسف صراحة وضمنا " من يقنع أمريكا أن عليها الواجب الاكبر " و " الولاياتالمتحدة لم تكن جهة مأمونة حتي يعتمد عليها السودان" وايضا " لكن بكل اسف قيادات هي أضعف من أن تتخذ قرار " و" يصعب الآن أن أقول أن القرار ميسور مع أنني قلت أن القيادة كان ينبغي أن تكون أقوى من هذا ولكن هؤلاء هم الذين يأتون بالقيادة بكل أسف في أميركا وهم الذين يفرزون القيادات في أمريكا " أخيرا تبدو فرص تحسين العلاقات السودانية الأمريكية إبتداءاً باستيعاب الرأس الدبلوماسي السوداني لطبيعة عملية صناعة السياسة الأمريكية واللاعبين المؤثرين فيها والوعي بدوافعهم العقيدية والأيدولوجية ثم النظر الي أُس بلاء السياسة الداخلية لبلاده - التي لاتنفصل في عصرنا هذا عن السياسة الخارجية - وهي النزاعات والحروب الداخلية التي لا تهدأ الا لتدور مرة أخري وتفتح في كل مرة أبواب المآسي والتراجيديا التي تتيح لهذه الجماعات أبواب التدخل. أما التعويل من وزير الخارجية السوداني أن تأتي قيادة أمريكية جادة وحاسمة أمام تحدياتها الداخلية لتتجاوز الواقع السياسي الامريكي الراسخ ولتكبت هذه الجماعات المرتزقة والمتسلقة - حسب وصفه – أو الانتظار أن تتغير معطيات إتخاذ القرار الامريكي فذلك مما يجلب اليأس والاحباط ويصيب إدارة شئون بلاده الخارجية في مقتل . عبد السلام محمد أحمد ، باحث دكتوراة علوم سياسية – جامعة القاهرة ، 13أكتوبر[email protected]