(تقرير حريات ) لاقي قرار الحكومة السودانية فرض المزيد من التقييد علي المنظمات الدولية العاملة في المجال الانساني بدارفور ، غضب واستهجان العديد من المنظمات واعتبرته استمرارا لسياسات الحكومة الرامية لتدجين المنظمات عبر مفوضية العون الانساني ، والاستفادة في ذات الوقت من المساعدات التي تقدمها هذه المنظمات للنازحين والمواطنين في دارفور ، بما يساعد الحكومة في التحلل من بعض الالتزامات وأوجه الصرف لتسخير الامكانيات والاموال في محاربة الحركات المسلحة. وتعد هذه الوجهة واحدة من الاليات الحكومية المعروفة والمتكررة في محاولة ابتزاز المجتمع الدولي والضغط عليه عن طريق استخدام احتياجات المدنيين الملحة لدر المزيد من الدعم ، لكن تحت سيطرة الحكومة وبشروطها الخاصة ، لا سيما من خلال التحكم في كيفية توزيع المساعدات عبر المنظمات الوطنية التابعة للمفوضية وجهاز الامن في معظمها. ومنذ العام 2009 وكرد فعل لصدور قرار المحكمة الجنائية بالقاء القبض علي المشير عمر البشير ، بدأت الحكومة في تطبيق خطتها المحكمة لتقليل فعالية المنظمات الدولية بل ومحاولة محو وجودها نهائيا. وقبل الاعلان عن الخطة الحكومية التي وضعها غازي صلاح الدين، قامت الحكومة بطرد المنظمات الاكثر تأثيرا وعملا وانتشارا علي الارض – أو ما تسمي في العرف الامني لجهاز الامن والمخابرات السوداني بالمنظمات التي تتبع لدول معادية للسودان. وتم طرد ثلاثة عشرة منظمة تم اختيارها بعناية لتمهيد المسرح أمام الخطة الحكومية الجديدة المبنية علي ارغام المنظمات وتحويلها لاجهزة تخدم سياسات مفوضية العون الانساني التي يقودها ضباط محترفون في جهاز الامن السوداني. وفي هذا الاطار تم طرد المنظمات المشهود لها بالكفاءة والحيدة والنزاهة من قبل المواطنين والنازحين ، مثل اطباء بلا حدود وكير وبادكو رعاية الطفولة الامريكية والبريطانية وغيرها من المنظمات الدولية بجانب عدد من المنظمات المحلية مثل منظمة أمل ومركز الخرطوم لحقوق الانسان. استراتيجية الدهاء بنيت الخطة الحكومية التي عرفت بالاستراتيجية الخمسية التي ستنتهي في العام 2014 بدهاء علي مخاطبة الارهاق الحقيقي الذي أصاب المانحين جراء تطاول الازمة في دارفور لما يقارب العشرة سنوات حتي الان ، الي جانب ادراك الحكومة لاغفال المجتمع الدولي التركيز علي معالجة أزمة دارفور بالنظر لجنوب السودان قبل اجراء الاستفتاء ومحاولة تفادي شبح الحرب الشاملة بين السودان وجنوب السودان حاليا بسبب الخلافات بشأن النفط وعدد من القضايا العالقة. وتبنت الخطة محاور اساسية بنيت علي التصور الامني لحل أزمة دارفور بشكل نهائي بما يعني عمليا المزيد من الحرب والتجويع والابادة وعزل العالم عما يحدث في الاقليم. وشملت المحاور الجوانب الدولية والاقليمية والمحلية للأزمة بحسب ذلك التصور الامني الذي وضعه غازي صلاح الدين بجانب عدد من كبار جنرالات جهاز المخابرات السوداني، شملت ضرورة تحسين العلاقات مع تشاد واستخدام الاموال في ذلك الامر الي جانب استخدام حركات التمرد التشادية ككرت وكبش فداء ، وقد تم بالفعل طرد المعارضة التشادية من الاراضي السودانية بمجرد التوقيع علي اتفاقية سلام مع انجمينا وتكوين القوات المشتركة السودانية التشادية ، ويهدف هذا المحور كما هو واضح الي محاولة تجفيف سبل الدعم للحركات المسلحة لا سيما العدل والمساواة كما تتصور الخطة الحكومية. الجانب الاخر من الخطة الذي كشفته مصادر مطلعة ل ( حريات ) وتؤكده الكثير من الشواهد علي الارض ، يقضي بضرورة القضاء العاجل علي الحركات المتمردة عن طريق المزيد من العمل العسكري باستخدام الطيران وتجنيد مليشيات جديدة من القبائل غير العربية الصغيرة التي لا تمتلك حواكير وأراض في الاقليم واغراءهم بالحصول علي مكاسب في الاقليم ، وذلك لخلق حالة من الارتباك وخلط الاوراق بالنسبة للمجتمع الدولي والمحكمة الجنائية تجاه الجرائم التي ارتكبتها بعض الميشيات العربية المدعومة من قبل النظام. ولاسترضاء القبائل العربية – الحليف الاستراتيجي- التي بدأت تتذمر وتتشكك في النوايا الحكومية عندما علمت بتسليح تلك المجموعات الجديدة ، ابتدعت الخطة الحكومية فكرة تقسيم الاقليم لخمسة ولايات بدلا عن ثلاث حتي يتم توزيع أكبر قدر من المناصب والمغانم علي تلك القبائل ، واقناعهم بان الحكومة ما تزال تعتمد عليهم في حماية مناطقهم أمام ضربات الحركات المسلحة. وفي هذا الاطار يري محللون بان نتائج هذا الامر قد اتضحت في مواقف عديدة كشفت عن بدء العديد من القبائل العربية وبعض قياداتها في الخروج عن سيطرة الحكومة والتشكيك في نواياها ، مثل موقف والي ولاية جنوب دارفور عبدالحميد موسي كاشا ، واعتداء مليشيات تابعة لقبيلة البرتي تم تسليحها عن طريق والي ولاية شمال دارفور محمد يوسف كبر ، علي قبيلة الزيادية العام الماضي وقتل عدد كبير منهم بل وقتل معتمد محلية كتم ، الامر الذي قاد القبائل العربية للتحالف لمواجهة كبر نفسه ، وكذلك التمرد البائن من قبل قبيلة البني حسين في الحرب الاخيرة التي دارت في جبل عامر بشمال دارفور وراح ضحيتها المئات وشرد الالاف، وغيرها من المواقف التي تظهر بداية ذلك التململ من قبل القيادات والقبائل العربية في الاقليم في مواجهة الاتجاه الحكومي في تسليح القبائل الافريقية الصغيرة. ازالة المعسكرات ... جريمة جديدة بالعود للخطة الحكومية فقد اعتمدت التصور الامني كذلك في جانبين اساسيين اولهما أهمية ازالة معسكرات النازحين بشكل نهائي ومهما كلف الامر سواءا بطردهم أو اعادتهم الي مناطقهم الاصلية بالقوة ، وقد ظهرت بوادر هذا الاتجاه عندما رفضت الحكومة السودانية التوقيع علي وثيقة معاهدة كمبالا بخصوص حقوق النازحين لا سيما حقهم في اختيار محل اقامتهم واختيار العودة او ابداء الرغبة في استمرار الاقامة في مناطق المعسكرات نفسها. وثانيهما هو تدجين منظمات الاغاثة والاعتماد عليها في توفير الاحتياجات الاساسية للمواطنين والتفرغ لحسم التمرد عسكريا. وتمضي المصادر للتأكيد بان غازي وفريقه الامني استطاعوا اقناع البشير بأهمية ازالة المعسكرات لانها تعد أرضا خصبة للدعاية ضد البلاد ودليلا دامغا علي استمرار الازمة الامنية والانسانية في دارفور ، الي جانب كونها مكانا يوفر الايواء والحماية في بعض الاحيان للمتمردين. أما بالنسبة للمنظمات فقد أفسحت لها الخطة الماكرة ثلاثية الترغيب والترهيب والطرد، فطردت المنظمات التي يصعب تدجينها وسمحت في ذات الوقت بدخول منظمات جديدة لامتصاص غضب المجتمع الدولي ، ثم انطلقت لفتح الباب لدخول الاف المنظمات الوطنية التابعة لمنسوبي جهاز الامن والحزب الحاكم للتحكم في كيفية ايصال المساعدات الانسانية للمحتاجين. وكان لا بد من شعار يتسق في بعض جوانبه مع رغبات المجتمع الدولي فرفعت الاستراتيجة شعار التحول من الاغاثة لاعادة الاعمار في اقليم دارفور، مستفيدة من دعومات قدمها بعض الحلفاء من قطر والصين في هذا الاطار، وللتلاعب في ذات الوقت علي الارهاق الذي اصاب المنظمات نفسها بعد العمل لتسعة سنوات في مجال الطوارئ . ولاعطاء غطاء سياسي فعال لهذه الاستراتيجية كان لا بد من توقيع اتفاق سلام جزئييضمن اقناع الحليف القطري بجدية الحكومة في تحقيق السلام ، ويوفرفي ذات الوقت أرضية يمكن عن طريقها التلاعب علي المجتمع الدولي مع الاستمرار في التفاوض مع أي من الحركات المسلحة لأي فترة كانت دون التوصل لأية اتفاقيات جادة قد تلقي تبعات والتزامات حقيقية علي الحكومة وتأتي بشريك قوي جديد في الحكومة يعيد تجارب الحركة الشعبية وحركة تحرير السودان جناح مناوي. الاستجابة يؤكد عاملون في المجال الانساني في دارفور ان كافة المنظمات الدولية تشعر بالاحباط الشديد جراء عدة عوامل أولها التقييد الشديد للحركة من قبل الامن السوداني ، ودون مبررات واضحة أحيانا ، وثانيا للاستجابة السيئة ورضوخ معظم المنظمات للابتزاز الحكومي وقبولها تقييد الحركة والحصول علي اذن مسبق قبل السفر الي اي منطقة خارج المدن في دارفور ، الي جانب التضييق في تأشيرات الدخول والاقامات وتكتيكات الاستدعاءات المتكررة للمسؤولين الاجانب في المنظمات من قبل مفوضية العون الانساني القومية وأذرعها الولائية في الاقليم. ويمضي بعض العاملين في الغوث الانساني الي ان الحكومة لم تتورع في التخطيط لعمليات الاختطاف المنظم للأجانب في دارفور ، الذي أخذ الطابع المنظم في معظم الاحايين لخلق حالة من الهلع وسط عمال الاغاثة مما يضطرهم للاقتناع بخطورة الوضع الامني علي أمنهم الشخصي وبالتالي الرضوخ الكامل لموجهات جهاز الامن فيما يتعلق بكافة انواع الحركة الخاصة بالمنظمات والافراد، ويؤكد عدد من أبناء القبائل العربية في دارفور هذا الحديث عندما كشفوا ل ( حريات) عن علمهم المسبق بعدد من عمليات اختطاف الاجانب التي قامت بها مليشيات مكونة من اقاربهم بدعم من الحكومة وبالتحديد جهاز الامن. ويقول هؤلاء ان جهاز الامن نفسه فقد السيطرة في بعض حالات الاختطاف علي أعوانه في المليشيات ما اضطر الحكومة لدفع مبالغ طائلة للافراج عن المختطفين الاجانب. أما ثالث العوامل التي دفعت المنظمات الانسانية للاحباط فهو الاحجام الفعلي للمجتمع الدولي عن الايفاء بالاحتياجات الواقعية علي الارض للاستمرار في تدفق الاغاثة الي المحتاجين في دارفور. وتقول مصادر في مكتب تنسيق الشئون الانسانية التابع للأمم المتحدة ان احتياجات العمل الانساني في دارفور تبلغ مليار دولار سنويا علي أقل تقدير، غير ان تقارير مؤكدة تشير الي انه لم يتم توفير أكثر من ثلاثمائة مليون دولار حتي الان لمقابلة الاحتياجات الانسانية المتعاظمة هناك. البديل الكاذب كل العوامل والضغوط السابقة دفعت المنظمات الدولية للبحث عن بدائل عملية تغطي بها علي فشلها البائن في توفير الاحتياجات الاساسية للمواطنين والنازحين في دارفور ، الي جانب فشلها في تقدير الاحتياجات الانسانية بل ونقل حقيقة الاوضاع وما يجري في الاقليم من انتهاكات متزايدة من قبل الحكومة وأجهزتها الامنية كل يوم. واضطرت المنظمات لطرح بديل التحول من مرحلة الطوارئ الي مرحلة اعادة الاعمار اذ ان مرحلة الطوارئ في الازمات والكوارث الانسانية في العالم يجب ان تترواح في اطول مراحلها بين ستة اشهر الي عام كامل ، وتنفيذا لهذا التحول اتجهت المنظمات لتبني استراتيجية جديدة طرحها برنامج الاممالمتحدة الانمائي في السودان فيما عرف بمشروع فض النزاعات وبناء السلام بين المجتمعات، بما يعني العمل المباشر مع المجتمع بقبائله وقياداته الاهلية لارساء أسس للسلام والحوار وقبول الاخر والتعايش السلمي علي قاعدة المصالح المشتركة في اقتسام المساعدات الانسانية التي تقدمها المنظمات. ورغم جاذبية هذا الطرح والرفض الظاهري الذي تبديه الحكومة لهذا المشروع ، الا ان العديد من المحللين يرون انه يتطابق مع الاستراتيحية الخمسية التي طرحتها الحكومة مع اختلاف المسميات اذ ان الشعار الذي تطرحة الاستراتيجية الحكومية هو التحول من الاغاثة لاعادة الاعمار. والقيادات القبلية التي تعمل مع المنظمات في هذا الاطار هي قيادات حكومية مفروضة علي القبائل في بعض الاحيان أو قيادات تم تدجينها أو شراؤها بالمال في أحيان أخري ، ويالتالي فان المنظمات لا تخرج أيضا في هذا الاطار عن العمل مع الحكومة وأذرعها الامنية الاخطبوطية في دارفور مهما كان الامر. ويري خبير سوداني عمل في مجال فض النزاعات في عدة دول افريقية ان الفكرة تأتي مفرغة من محتواها تماما ، اذ ان المنظمات لا تعمل مع المجتمعات بصورة مباشرة انما تعمل بصورة غير مباشرة مع الحكومة نفسها ، ويقول الخبير الذي فضل حجب هويته ل ( حريات ) ان المنظمات تفقد ثقة الناس لا سيما النازحين وبالتالي يري الكثيرون انها منحازة لطرف علي حساب الاخر ، وبالتالي يعاملون معها ليس من مدخل الثقة انما كمورد ومصدر للمساعدات فقط لا غير. ويقول محللون ان الدوافع الاساسية لهذه المعالجة التي لجأت اليها المنظمات تكمن في عاملين هما عدم توفر الامداد الكافي من قبل المانحين الذين بدأوا يديرون ظهرهم لازمة دارفور الي جانب العراقيل والتهديدات الحكومية المتكررة. ويتفق ناشطون مقيمون في دارفور مع الطرح السابق، مؤكدين ان الحكومة هي المستفيد الاول من وجود المنظمات علي صورة العمل الحالية ، محذرين بان الحكومة تريد الان وعبر قراراتها الاخيرة التي تضع المزيد من القيود علي عمل المنظمات ، تريد تطبيق الخطوات النهائية في استراتيجيتها الخمسية بمحاولة القضاء علي الحركات المسلحة والاخطر انها تخطو الخطوة النهائية لازالة معسكرات النازحين، الامر الذي يعني عمليا بحسب الناشطين ان الحكومة تريد ان تخلي الساحة من المراقبين الدوليين لتتفرغ لموجة جديدة من الابادة في الاقليم ، لا سيما عقب استجلابها للمتطرفين الماليين اللذين نقلتهم الحكومة من ليبيا عبر طائراتها العسكرية الي دارفور.