(فايز الشيخ السليك) موت الملك في منطقة مثل منطقة أبيي ، ليس مثل موت ملك لعبة الشطرنج، لأنه بداية منافسة حامية الوطيس، وجولات من الكر والفر، المصحوبين يكثافة النيران، وغزارة الدماء والدموع ، وهو ما يعني أن اللعبة هنا تبدأ من الخطوة التي يعتبرها لاعب الشطرنج بانها هي النهاية، فهنا المشهد ، أي على الواقع، لا يشبه المشهد فوق مربعات اللعبة تلك، فهنا الخيال ، والذكاء، والمعارك الإفتراضية، وهناك العبث والجنون، وغياب الحكمة . وقبل يومين نعي الناعي مقتل الزعيم نفسه، السلطان كوال دينق غدراً ومن غير ( كش ملك) على حسب قوانين اللعبة، وأجرى البشير وسلفاكير اتصالات لإحتواء تداعيات مقتل الزعيم الوفاقي كما أجرى وزيرا الدفاع في السودانيين اتصالات هاتفية في ذات السياق، فيما عبر الأمين العام للامم المتحدة يان كي مون عن قلقه من التصعيد ومقتل الزعيم كوال دينق، في وقت تتجه فيه أصابع الاتهام إلى تورط المؤتمر الوطني في عملية الاغتيال برغم أن وزارة الخارجية أدانت الحادثة المفجعة. و أكدت الحركة الشعبية فى منطقة ابيى في بيان أن الحادث كان ، اغتيالا سياسيا مدبرا من الحكومة السودانية فى الشمال واتهمت الجيش وجهاز الامن والمخابرات ومليشيات المسيرية بالوقوف وراء ذلك . فيما اعتبر الامير حمدي الدودو امير أمارة المزاغنة مقتل السلطان كوال دينق مجوك بأنه سيزيد الأوضاع تأزماً وكوال سليل رجل الحكمة دينق ماجوك ، أحد رموز التعايش السلمي في أبيي بين المسيرية ودينكا نقوك ، مع نظيره ناظر المسيرية بابو نمر وقد مثل الاثنان رمزاً للسلام الأجتماعي على مدى حقب زمنية طويلة في القرن الماضي . وقد ساعدت علاقتهما القوية في تهدئة الأوضاع سنوات طويلة، توطدت خلالها العلاقات القبلية والأسرية منذ عهد كوال الجد، ونمر الأب، لدرجة أن ناظر المسيرية شارك في دفع أبقار مهر زواج دينق ماجوك على حسب طقوس وعادات الدينكا، لكي يكون له في مال صديقه وبيته حق !. ووصف المفكر المعروف فرانسيس دينق في حوار سابق مع (أجراس الحرية ) (العلاقة ما بين الدينكا و المسيرية فى أبيى ترجع الى أربعة عقود للوراء، و بإمكانك القول بأن جدنا أروب كان أول زعيم من الدينكا يلتقى مع العرب، علاقة المواجهة ما بين الدينكا و المسيرية تغيرت و الناس كانت تقول وقتها بأنهم خلطوا الماء بالدم حتى يصبحوا أهل.). لكن، مرت تلك الأيام، بحقائقها وأساطيرها وتعايشها السلمي، وسلامها الإجتماعي، وتباعدت المسافات، وتقاطعت الحروب مع المصالح، والسلام مع الأجندة، ليحتدم النزاع الدامي من جديد بين المسيرية ودينكا نقوك حول أبيي؛ حتى اتفاقية السلام الشامل، ثم صدور قرار المحكمة الدولية في لاهاي ، عام 2009، وهو ( ملزم ونهائي) بعد أن رسم حدود المنطقة الملتهبة. وكلما أبصر الناس هناك ضوءً في آخر النفق الطويل تحرك مغامرون، وأصحاب أجندة اشعال النيران، لنسف السلام فوق كل شبر من مساحات الأرض المهتزة، ويضع كثيرون أصابعهم فوق الزناد ليطلقوا طلقات الحروب الطويلة، ثم يتدخل الحكماء فيخفت أزيز المدافع، وتتراجع حوافر الخيول، ويختفي الجنون ولو مؤقتاً!. لقد تفجر الجنون من جديد، ليصطاد هذه المرة الحكمة نفسها ؛ وذلك باغتيال السطان كوال دينق، ودفع الأمور نحو حافة الهاوية ، لأن : - 1- اغتيال زعيم في قامة كوال دينق يعني ضربة قوية للحكمة في أزمنة الجنون، ومعروف أن في تلك المناطق الملتهبة، يلعب الحكماء دوراً كبيراً في تهدئة الخواطر، واحتواء المشاعر العدائية الملتهبة، ويشير فرانسيس إلى مثل تلك العلاقات بقوله (العلاقة ما بين العرب و الدينكا كانت علاقة إحترام متبادل من غير تدخل المسيرية فى شؤون الدينكا و العكس صحيح، بل بالعكس كل طرف كان ينظر لمصالح الآخر)، وهذا كان يغضب منسوبي القبيلة لشعورهم أن زعيمهم يحابي القبيلة الأخرى على حساب قبيلته، إلا أنه كان في حقيقة الأمر يود بعث الطمأنينة في نفوس قبيلة صديقه في الطرق الآخر؛ بأنهم تحت حمايته . 2- للزعيم كوال أخوة وأبناء عمومة يتبوأون مناصب عليا في حكومة جنوب السودان، وداخل الجيش الشعبي لتحرير السودان مثل بيونق ألور، ودينق ألور وادوارد لينو، ولوكا بيونق، وضباط كثيرون برتب عليا ، يصعب السيطرة عليهم برغم أن رئيس الجنوب الفريق أول سلفاكير ميارديت دعا إلى الحكمة، وضبط النفس وترك الأمور للحكومة . 3- الحادثة تفتح أبواب الجحيم أمام كل قيادات المنطقة، بعد تطبيع الاغتيال السياسي ، وهو أمر نادر الحدوث في السياسة السودانية، ونلاحظ ان عهد الإنقاذ هو أكثر العهود السياسية التي شهدت حالات اغتيالات سياسية ضد معارضين أو شخصيات مؤثرة، وهو ما يمكن أن يطبع لمسألة " الثأرات والفعل وردود الفعل". 4- الحادث يؤسس لمزيد من الفرقة بين قبائل التماس في الشمال والجنوب، لأنه سيصنع جسراً متيناً من الريبة، ويزيد من حالة انعدام الثقة، وهو ما سيهدد النسيج الإجتماعي المهترئ أصلاً.بل سيدخل المنطقة في دوامة من العنف وحمامات الدماء، وارتافع وتيرة العنصرية والقبلية والتي هي أساساً تحرك كل الصراعات السودانية الداخلية والسودانية جنوبية . وقد أكد ذلك قيادي في المؤتمر الوطني نفسه ، و أحد أبناء أ، بيى أمين كير ، والذي وصف الأحداث الأخيرة بأنها ( ضربة في الصميم للتعايش السلمي بين أهالى المنطقة). و فيما يبقي المراقبون على فرضية تورط عناصر تابعة لمليشيات قبلية في حادثة اغتيال الزعيم دينق ، إلا أن المراقبين لا يستبعدون تورط المؤتمر الوطني في عملية الاغتيال في هذا الوقت ، لأن النتيجة النهائية تتسق مع سياساته المعروفة، واتباعه لسياسة حافة الهاوية " كإجراء تكتيكي “ ، يحقق عبره عدداً من الأهداف تتمثل في ارباك دينكا نقوك باغتيال قائدهم، و اجبارهم على التهدئة والتراجع، ومن ثم القبول بأقل المكاسب في أية تسوية سياسية أو مواجهة عسكرية، و وضع عقبات جديدة في طريق استفتاء منطقة أبيي ، لتحديد السكان لمصيرهم؛ للاختيار بين البقاء في الشمال، أو الإنضمام إلى الجنوب ، ويهدف الاغتيال كذلك إلى كسب المسرية ، وتجييشهم في الحروبات السودانية الداخلية ووقف انتصارات قوات الجبهة الثورية السودانية في ولايات جنوب كردفان وشمالها، والنيل الأبيض، و في دارفور ، وضمان مشاركتهم في أية مواجهة مع الجنوب، ويشير المراقبون إلى أن المؤتمر الوطني ظل يتَّبع خلال الآونة الأخيرة في كل مواقفه تكتيك ( حافة الهاوية) بتوصيل النزاعات إلى ذروة تأزمها، بقوة وسرعة شديدة، كإجراء تفاوضي بغرض اجبار الطرف الآخر على تقديم تنازلات كبيرة رضوخاً للأمر الواقع؛ يذكر أن “المؤتمر الوطني" بدأ في استخدام هذا التكتيك؛ عسكرياً باقتحام قواته لمنطقة أبيي في مايو 2011 قبيل اعلان استقلال الجنوب للمساومة بين الاعتراف السياسي بالاستقلال، ومشاركة كل المسيرية في استفتاء أبيي لضمان تبعيتها للشمال، ثم الهجوم الواسع على قوات الجيش الشعبي لتحرير السودان في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق ورفض أي تفاوض، كما اتبع هذا التكتيك سياسياً ؛ بالتضييق الحاد على المعارضين من خلال اغلاق الصحف، ومنع الكتاب من الكتابة، واستخدام العنف المفرط في تفريق الاحتجاجات السلمية، تمهيداً لمكاسب في جولة محتملة مع المعارضة والعمل على اقناعها من الوليمة بالفتات. ويرى المراقبون أن حادث اغتيال الزعيم كوال دينق جاء متزامناً مع زيادة حدة التوتر في عدد من الجبهات الداخلية ليزيد الأمور تعقيداً على تعقيدها، ويدفع بها أكثر نحو ( حافة الهاوية) ، ومن ثم دفع المجتمع الدولي للتدخل بسرعة للوصول إلى تسوية سياسية في المستقبل ربما يكون ضمنها تقسيم أبيي من جديد بين الشمال والجنوب تتحصل عبرها الخرطوم على مساحات جديدة غير تلك التي حددها قرار لاهاي في عام 2009 ، أو حتى الاتفاق على وضع المنطقة تحت انتداب دولي باشراف الأممالمتحدة، حتى تمر العواصف . لقد عصفت الرياح بكثير من بذور التعايش، والتقاء المصالح، هناك، وهو ما يتطلب العمل من أجله، لأن الاستقرار يعني سلاماً لدينكا أبيي في مقابل حصول المسيرية على مسارات للمراعي والمياه، وورود مواشيهم حتى بحر ( كير في رواية، والعرب في رواية أخرى) ، وكان ذلك ممكناً في حالتي تبعية أبيي للجنوب أو للشمال، إلا أن تسارع الأحداث ربما يقود الطرفان إلى طريق مسدود، لأن تكتيك ( حافة الهاوية ) هو لعبة مغامرة قد تقود الأمور إلى الانهيار، وقد ينقلب السحر على الساحر لا سيما في غياب الحكماء، وترتد النيران إلى صدر من أطلقها .