أذكر قبل عدد من السنين جمعتنى الصدفه بأحد (هولاء الذين لا نعرف من اين اتوا) فى دولة خليجيه وحتى لحظتها ما كنت أعرف فكره الدينى أو توجهه السياسى فقلت له مؤانسا، سمعت أن الشيخ عبدالرحيم البرعى سوف يأتى الى هذا البلد صباح الغد، وظننت خطأ بأنه سوف يسعد لسماع الخبر، فرد على مقتضب الجبين وفى لؤم و(مساخة) لا نعرفها ولا نحبها كسودانيين قائلا: (عبدالرحيم البرعى بتاع أيه يا اخى، هو فى زول غير ديل بوظ الدين)؟ وحينما انتقل الشيخ رحمه الله، الى جوار ربه شاهدت عدد من (هؤلاء الذين لا نعرف من أين اتوا) كبارا وصغارا وقد شمروا الكاكى ورفعوا البناطلين أعلى السيقان وهم يحملون الطوب والطين فى همة ونشاط وهم يوارون جسده جنبا الى جنب مريديه ومحبيه من متصوفه ودراويش. فما اشبه الليلة بالبارحه وأن اختلف المقام والمجال .. وكان من السهل جدا أن يخوض الأنسان مع الخائضين وأن يسبح مع التيار وأن يردد ما ردده الكثيرون بأن (زيدان ابراهيم) رحمه الله لو غنى فقط لشعب السودان (كنوز محبه) لكفته ولأغنته عن الغناء. ودموع الكثيرين ومشاعر البسطاء من عامة الشعب مقدره وبدون أدنى شك صادقه ونابعة من داخل الأفئده والقلوب، والسودانيون جبلوا على ذكر محاسن موتاهم. أما (هؤلاء الذين لا نعرف من اين اتوا)، والذين يتاجرون بكل شئ حتى الموت، والذين نشعر بأنهم جاءوا ليحكموا السودان من (الخارج)، فبدلوا تقاليده وأرثه الحضارى وطيبته وتسامحه، وأفشوا فيه كل قبيح، لا ندرى الى متى يواصلون النفاق والتضليل والمتاجرة بكل أمر حتى (الموت)! أنهم لا يستحون ولا يهتمون بالمبدعين أحياء لكنهم يستغلون لحظات الموت من أجل استجداء مشاعر الشعب، والمثل الصوفى السودانى عندنا يقول (الحى اولى من الميت)! فزيدان ابراهيم لم يهمتوا به خلال مرضه فى مصر الأهتمام اللائق بفنه الر اقى البديع، مثلما لم يهتموا من قبل بهرم الغناء السودانى الشاعر الكبير(حسين بازرعه) الذى طردوه من شقة مملوكة للسفاره السودانيه خلال فترة الصيف! وزيدان .. كان طريح فراش مستشفى أكثر من عادى، ومن عجب أن (المتاجره) وصلت درجة أن تتصور الى جانبه (صحفيه) مصريه وتنقل خبر وفاته على لسان (رجل) وهى تعمل بوقا وطبالة للنظام من خلال موقع (أمنى)، وهذا افضل ما فعله نظام (النفاق) والكذب، فبعد أن كنا نشتكى من أننا نعرف عن الفن المصرى والفنانين المصريين (ام كلثوم) و(عبدالحليم حافظ) وغيرهم ما لا يعرف عشره المصريون، اتى لنا نظام الفساد والأستبداد بمن يدعون معرفة فنان مثل الراحل (زيدان) وكلى ثقة أن من تظاهرت بذلك لا تعرف معنى اسم أغنية (باب الريده وأنسد)! تاجروا برحيل (زيدان) بعد أن استعصى عليهم الوقوف الى جانبه الوقفة التى يستحقها ولو بمال الحرام العائد عليهم من عمولات الأسمنت والحديد واليوريا! وزيدان هو زيدان صاحب الجسد النحيل الذى أهانوه وجلدوه وهو لا يتحمل مرور نسمة زائده عن حدها، مثلما جلدوا من بعده رفيق دربه الأصغر الذى حاز على اعجاب شباب اليوم مثلما حاز زيدان على اعجاب شباب الأمس. وماهو الجديد اليس (زيدان) هو رفيق (اخو البنات) خوجلى عثمان أو الفتى (زرياب) كما سماه المفكر منصور خالد، الذى لم يعرف سر أغتياله حتى اللحظه وأن ترددت العديد من الشائعات غير المؤكده؟ ووقتها كان معلوم رأى النظام فى الرياضة والفن ونفس تلك الرموز عادت من جديد الى مواقعها بل رفعت الى مواقع اعلى، فمن كان (دبابا) بالأمس اصبح (صاروخا) اليوم ، وهل تغير فكرهم أم القصه متاجره ومظاهره وأستماله وشراء مشاعر شعب وشباب اذاقوه كل صنوف المر والعذاب؟ وهل يظنون أن ذاكرة الشعب سوف تنسى بسهولة وكيف هاجر ذات يوم رفيقه (عبدالعزيز المبارك) ويومها كان فنان (شباك) كما يقولون وكان يشكو لجلسائه فى ديار الغربه باكيا ( هل أمارس فعلا حرام وأنا خارج من بيت دين صوفى)؟ وكان رفيقه الشفيف (مجذوب أونسه) يردد نفس العبارات خلال تلك الفتره وهو يتلفت يمينا ويسارا حتى لا يسمعه أحد وهو خارج السودان فى زبارة فنيه! وبدلا من هذه المتاجره واظهار الأهتمام (المنافق) الكذاب كلما رحل مبدع عليهم الأهتمام الحقيقى بالمبدعين فى حياتهم بقدر ما اعطوا للوطن، علاجا وسكنا ورعاية لأبنائهم فهكذا تفعل الدول المحترمه مع مبدعيها، وفى مصر الجاره القريبه منا لم يحدث أن شاهدنا طيلة السنوات التى عشنا فيها (عازف طبل) يسير فى الشارع العام دون أن يقود سياره أو دون أن يرتدى لباسا مهندما وكبار الفنانين السودانيين نراهم حينما يأتون الى مصر وهم يقيمون فى فنادق أقل من متواضعه بينما يسكن الشقق الفخمه والفنادق الراقيه (سماسرة) السياسة وتجار الدين! ولا زال فنان (يا فتاتى) و(انت يالأبيض ضميرك) و(نبع الحنان) الرائع (الطيب عبدالله) يعانى من الأغتراب والمرض وصعوبة الحياة، فهل ننتظر متاجرة بأسمه بعد طول عمر أن شاء الله؟ لقد أدهشنى موقف (هؤلاء الذين لا نعرف من اين اتوا) ونفاقهم ومتاجرتهم، مثلما أدهشنى (طرد) الراحل زيدان من بيته ذات يوم ومعه والدته، فرحل عن حي يحبه، وتساءلت وقتها الا يوجد فى حى (العباسيه) العتيق أو ما تجاوره من احياء مسوؤلين أو رجال أعمال يعشقون (الفن)، فيتبرعون لزيدان بمنزل أو حتى يستأجرونه، حتى لا يفارق البسطاء الذين احبهم وأحبوه فى ذلك الحى (الفنان)؟ ولعل جيل اليوم الذى شاهد دموع المحبين الصادقين ودموع تماسيح المتاجرين بالموت والمنافقين، لا يعلم أن طريق الفن لم يكن سالكا أمام (زيدان ابراهيم) فى بداياته كما يلاقى جيل الفنانين هذه الأيام وعانى الكثير رغم جمال صوته وحلاوته، فحينما غنى فى الأذاعة لأول مرة اغنيته المشهوره (ما منى) كتب أحد النقاد على مجلة (هنا أم درمان) التى تصدرهاالأذاعة السودانيه قائلا فعلا ما منك، من مدير الأذاعه الخلاك تغنى)! والرجل معذور فوقتها كان تغنى اهرامات فى حجم الكاشف، وابراهيم عوض، وعثمان حسين، وابو داؤد ومحمد وردى وأخرين، وما كان من السهل أن تتقبل الآذان فنانا غيرهم. ومن المغروف أن زيدان لم يكمل دراسته الثانويه، بعد أن خيره ناظر المدرسه وقتها بين الغناء والدراسه، ووقتها ناظر المدرسه كانت له شخصية وسطوه ومكانه تتعدى حدود المدرسه وكل (ناظر) كان بمثابة وزير تربيه وتعليم. ومن أكثر الأشياء التى استوقفتنى خلال رحيل (زيدان) أن احدى القنوات الفضائيه (شبه الرسميه) التى غطت الموقف من بدايته وحتى مواراته للثرى وأستضافت عدد من النقاد الفنيين داخل أستديوهاتها ، أن المذيعه كانت تتوقف من وقت لآخر لتقول نذهب لفاصل اعلانى، ثم نعود. فذكرتنى بطرفة (اليهودى) الذى توفت زوجته فأرسل اعلانا لصحيفة يقول فيه (ينعى كوهين وفاة زوجته ويبيع نضارات)، حتى لا يضيع الأعلان دون أن يستغله فى الترويج للسلعة التى يعمل فيها. فكفى متاجرة هناك وهناك برحيل المبدعين الذين أعرف أن الكثيرين منهم لا يتقاضون مالا أو أجرا من وراء فنهم وأهتموا بهم وبأبنائهم أحياء قبل أن يفارقوننا، فلا يمكن أن تتقدم دوله اذا لم تهتم بمبدعيها دون أستغلالهم للترويج الى حاكم طاغية أو حزب شمولى مستبد، فالفنان فنان الأمة كلها. تاج السر حسين [email protected]