وزيرالخارجية يقدم خطاب السودان امام مؤتمر القمة الإسلامية ببانجول    مشار وكباشي يبحثان قضايا الاستقرار والسلام    وزير الخارجية يبحث مع نظيره المصري سبل تمتين علاقات البلدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    راصد الزلازل الهولندي يحذر مجدداً: زلزال قوي بين 8 و10 مايو    (تاركو) تعلن استعدادها لخدمات المناولة الأرضية بمطار دنقلا والمشاركة في برنامج الإغاثة الإنسانية للبلاد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    انتفاضة الجامعات الأمريكية .. انتصار للإنسان أم معاداة للسامية؟    بوتين يحضر قداس عيد القيامة بموسكو    أول اعتراف إسرائيلي بشن "هجوم أصفهان"    "الآلاف يفرون من السودان يومياً".. الأمم المتحدة تؤكد    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    وداعاً «مهندس الكلمة»    النائب الأول لرئيس الاتحاد ورئيس لجنة المنتخبات يدلي بالمثيرأسامة عطا المنان: سنكون على قدر التحديات التي تنتظر جميع المنتخبات    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    غوارديولا يكشف عن "مرشحه" للفوز ببطولة أوروبا 2024    ريال مدريد ثالثا في تصنيف يويفا.. وبرشلونة خارج ال10 الأوائل    تمندل المليشيا بطلبة العلم    ((كل تأخيرة فيها خير))    الربيع الامريكى .. الشعب العربى وين؟    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في الأنسِ بالصلحي ! ..
نشر في سودانيات يوم 20 - 08 - 2013


كمال الجزولي
[email protected]
(1)
قلما حظيت، مثلي مثل سائر بنات وأبناء جيلي، بمشاهدة معرض حيٍّ بالخرطوم لأستاذنا التشكيلي السُّوداني العالمي، ونصْبِ الإبداع التذكاريِّ الضخم، إبراهيم الصَّلحي؛ إذ كنا يُفَّعاً حين أقام معرضيه الأوَّلين في عامي 1960م بالفندق الكبير، و1962م بالمركز الثقافي الأمريكي. ثمَّ إن عمراً بأكمله تصرَّم مذ تراجع في الذَّاكرة معرضاه الثالث والرَّابع، عامي 1967م و1969م على التَّوالي، بالمركز الثقافي الفرنسي. وإلى ذلك، كذلك، حتى المعرض "الصَّفوي" الذي أقامه بغاليري دارا عام 2000م! ولولا بعض جهود ماجدة في بعض الإصدارات المهتمَّة، ومدوَّنات كتَّاب ومؤرِّخي التَّشكيل السُّوداني، كفتحي محمد عثمان، وحسن موسى، وصلاح الجرِّك، وصلاح حسن عبد الله، وعلاء الدين الجزولي، وغيرهم لامَّحى ذكر تلك المعارض، وضاع كلُّ أثر لتوثيقها!
ربَّما لهذا السبب، ولغيره بالطبع، غمرتني سعادة طاغية ببطاقة الدَّعوة الكريمة التي تلقيتها أواخر مايو المنصرم (2013م) لحضور حفل الاستقبال والعرض الخاص في الثاني من يوليو، بمناسبة افتتاح معرض الصَّلحي بمتحف التيت مودرن Tate Modern بلندن. غير أن شيئاً من سوء الطالع تكفل بتبديد سعادتي تلك مرَّتين: مرَّة حين اضطررت للاعتذار، بأسف بالغ، عن تلبية الدَّعوة، لتزامنها مع ترتيبات عمل آخر كنت التزمت به، مسبقاً، في المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة الصُّوريَّة الخاصَّة التي كان قد اعتزم عقدها، بغزَّة، المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، بالتعاون مع كليَّات القانون في ثلاث جامعات فلسطينيَّة، لمحاكمة جرائم الحرب الإسرائيليَّة، وذلك برئاسة د. أمين مكي مدني (السودان)، وعضويَّة كلٍّ من الأستاذ محمد الطراونة (الأردن) وشخصي؛ والمرَّة الثانية حين ألغي سفرنا بالسَّيَّارة من القاهرة إلى غزَّة، فجر السَّادس من يوليو، بسبب إغلاق معبر رفح البرِّي، في إثر تفاقم الأوضاع الأمنيَّة في مصر، وبالأخص سيناء، إذ تواترت الأنباء، في نفس توقيت الرِّحلة، عن تزايد النشاط الإرهابي لتنظيم "القاعدة" في العريش وغيرها من المناطق.
وهكذا، لا سعدت بحضور افتتاح معرض الصَّلحي بلندن، ولا أديت العمل المطلوب في غزَّة! ولم يتبقَّ لي، بعد العودة إلى الخرطوم، سوى متابعة ما كتب في المواقع والصَّحافة الأجنبيَّة عن ذلك المعرض، واجترار بعض الذِّكريات التي لا تُنسى مع صاحبه.
(2)
أوَّل ما قفز إلى الذَّاكرة، وقرَّرت استعادته هنا، هو ذلك الأنس الحميم بالصَّلحي، ومعه، في بيت الشَّوافعة، ذات مساء عبق من أبريل عام 2008م! فعلى كثرة ما تحلقنا حوله، سواء في حضوره أوان زياراته للسُّودان، أو على ذكر سيرته العطرة وهو بعيد، تكاد لا تبرح الذَّاكرة جلسة المؤانسة الرائقة تلك، والتي هيَّأها لنا، على شرفه، صديقنا وحواره التشكيلي البارع عابدين الشوافعة. فالرَّجل لم يحطنا، فحسب، بكرم البيت الرَّحب من لذيذ الطعام وسائغ الشراب، جوار جامع ود عبد الماجد بحي الهجرة الأمدرماني العريق، وإنما، فوق ذلك كله، من أعمال الشَّوافعة نفسه، صُفت تطلُّ علينا من الجدران، ومن الأركان، يستقصي عبرها، في ولهٍ لا يخفى، جمال اسم الجلالة، شيئاً من خشب المهوقني والتِك، وشيئاً من البروش الملوَّنات، وغيرها.
ويحضرني أنني كنت أبديت للصَّلحي، قبل سنوات من تلك الجلسة، حيرتي من عدم عثوري، أوَّل أحد المساءات الشِّتائيَّة، على "بيت الجاك" الذي هو "غاليري الشَّوافعة"، لمَّا قصدته لآخذ لوحة "حمار الوحش" التي كان وعدني بها، لكنني، على قدر ما فتشت، لم أجد "الغاليري" في موقعه! فقال لي الصلحي، والأسى ملء صوته العميق، مردِّداً كلمة "بالذات" كلازمة تكاد لا تفارق لسانه:
"وين يا خي! المحل ده بالذات كرَّهوهو فيهو ناس المحليَّة والضرايب .. لحدِّي ما قفلو"!
وكان الشَّوافعة قد اتخذ ذلك الغاليري في دكانة صغيرة بالسُّوق، بداية شارع ابروف، على مرمى حجر من محل خالي المرحوم عبد الكريم العجلاتي الذي أخلته منه "محكمة الخيمة"، أوَّل أيام "الإنقاذ"، فمات محسوراً، ثمَّ ها هي الرسوم المبهظة تضطر الشَّوافعة، أيضاً، لإغلاق "بيت الجاك"، وقد أطلق الشَّوافعة ذلك الاسم على الغاليري خاصَّته تيمُّناً بالبرنامج التلفزيوني الشهير الذي كان "شيخه" يقدِّمه في سبعينات القرن المنصرم!
الصَّلحي يسمِّي الشَّوافعة "الولد الأحمر"، تحبُّباً، والشَّوافعة ينادي الصَّلحي ب "شيخي وسندي"، زيادة في التوقير. وبالحقِّ فإن علاقتهما آية في علاقة الحُوار بشيخه، أو التلميذ بأستاذه، أيام كانت ثمَّة (تلمذة) و(أستذة)، قبل أن يفشو سوء الأدب وقلة الحياء في معاملة التلامذة لأساتذتهم، محل الاختلاف المهذَّب المشروع في وجهات النظر، خصوصاً في حقول الآداب والفنون والصَّحافة! وما تزال هذه الرَّابطة الرُّوحيَّة الطيِّبة قائمة بين الرَّجلين، حتى يوم الناس هذا، لنحو من نصف قرن، أطال الله عمريهما ومتعهما بالصحَّة والعافية، فكان لا بُدَّ أن ينشع في جلستنا تلك شئ من عبق بخورها الصوفيِّ المائز، خصوصاً وقد اتخذ مجلسه بيننا، في تواضع جَم، الشيخ فتح الرحمن عبد القادر، شيخ الطريقة القادريَّة العركيَّة القرآنيَّة السُّنيَّة الذي أدهشتنا ذائقته الرَّقراقة، وثقافته الواسعة، وحِسُّه النقديُّ العميق، وآراؤه المستنيرة في وشيجة الدِّين والفن، حتى حقَّ للصلحي أن ينحني يُقبِّل يده، قبيل انفضاض المؤانسة، عندما استأذننا في الانصراف بكثير من التهذيب.
(3)
ضمَّت الجلسة مختلف أجيال الإبداع والثقافة. كان هناك جرجس، والعريفي، وعتيبي، وعبده عثمان وآخرين، جنباً إلى جنب مع مامون التلب وعادل ابراهيم وعبد الرحمن نور الدين وغيرهم مِمَّن انهمكوا في التوثيق، صوتاً وصورة، على حين راحت أحاديث المخضرمين تنثال بالخبرات التي يختزنون، والأشجان التي تنطوي عليها جوانحهم، وتتشقق حول وسامة الخرطوم "زمان"، وقبحها الراهن، وذكريات الكليَّة القديمة، بيومها الممتد، وأنشطتها المتنوِّعة، وحريَّاتها غير المنتقصة، وعلائق أساتذتها الفريدة بطلابهم، وموقف الإسلام من الفن، وجفاء الدولة للفنانين، وما آلت إليه التربية الجَّماليَّة في المدارس، وما يشاع عن خطة ما لمحو أم درمان القديمة، وما إلى ذلك.
لم يستطع عبده عثمان أن يداري نبرة الأسى وهو يتذكر التمثال الذي كان نحته، أيام الكليَّة، على موديل سنغالي، ثمَّ انتهى في ركن من المجلس القومي للآداب والفنون، قبل أن تنهال عليه معاول عبد الله محمد احمد، إبان توليه وزارة الثقافة، في إحدى غفلات التاريخ بعد "الانتفاضة!"، فتحطمه، باسم العقيدة، وتعيده مادة أوليَّة صمَّاء، ضمن "هوجة الوزير" التي اجتاحت حتى المتحف القومي، فاتحة الطريق أمام "هوجات الغوغاء" التي طالت، لاحقاً، تماثيل غاندي وبابكر بدري بأم درمان، وعثمان دقنة ببورتسودان، بعد أن تمَّ شحنهم ضدَّها، وتحريضهم عليها، كمحض "أصنام جاهليَّة"!
فاقم من شحنة ذلك الأسى ما روى الصلحي عن جفاء الدولة التي أحجمت عن مدِّ يد العون لنقل تمثال آخر، من لندن إلى الخرطوم، كان أبدعه عبده عثمان نفسه، من "الفايبر غلاص"، للإمام المهدي على صهوة جواده، فانتهى إلى أجزاء مقطعة إرباً إرباً، وكان حريَّاً به، لو كان في القوم بعض استنارة، أن يتوسَّط ساحة الشُّهداء بالخرطوم!
لحظتها سرحت أتذكر كيف أنني حاولت إقناع الصَّلحي، ذات مفاكرة حول إنقاذ التراث البهي للمرحوم عثمان وقيع الله، بأن يطلب مقابلة رئيس الجمهوريَّة، لكنه قال، بتواضعه المعهود، وطيف ابتسامة ساخرة يلوح على شفتيه:
"يا خي أنا رجْلينيْ حِفن بَلا فايدة عشان أقابل وزير الثقافة بالذات .. تقول لي رئيس الجُّمهوريَّة"؟!
(4)
جرجس شرح نظريَّته الأثيرة حول عدم جدوى "اللوحة المُفردة"، وضرورة التحوُّل إلى الانتاج الكبير mass production، فوافقه الصلحي، قائلاً:
"لازم يا جرجس تِنفتح نافذة تستوعب بالذات نسخ من اللوحة في البيت السوداني. أنا اتكلمت مع المسئولين عن غاليري الخرطوم واتحاد التشكيليين عن ضرورة الاستنساخ كحل لمشكلة صَلب اللوحة المفردة في جدار مفرد! التصاميم المفردة تُستنسخ في طبعات رخيصة بآلاف النسخ .. ده كان بالذات جزء من قلقنا على أيام مدرسة الخرطوم".
توسَّع جرجس في فكرته الرامية لجعل الفن متاحاً للعامَّة في كلِّ ما يمكن أن تقع عليه العين. وروى، في السِّياق، تجربته في الانتقال، أواسط السِّتينات، من الانكفاء على "اللوحة المفردة" إلى تصميم الصُّحف، مثلاً، الأمر الذي أتاحه له انتقال جريدة "الأيام"، وقتها، إلى تقنية "الأوفست". فجأة سطعت المفارقة في ذاكرة الصلحي، فروى، ضاحكاً، ما آلَ إليه مصير لوحة جرجس "المفردة"، والموسومة ب "الكونشيرتو الأحمر":
"أنا كنت منبهر بي قيمتا الفنيَّة العالية، فصمَّمت أقتنيها بأيِّ وسيلة! لكين الحصل إنو جرجس أهداها لي بعض معارفو، فإذا بالجماعة ديل بالذات إستخدموها مظلة تقي المُكيِّف بتاعهم من الشَّمِش"!
ومن بين قهقهات "شرِّ البليَّة" علق جرجس قائلاً:
"ما هو عشان كده! وزي ما إنت عارف يا ابراهيم شركة HP دلوكت أعادت استنساخ أعمال ضخمة شهيرة ووضعتا، بأحجام كبيرة، في شوارع لندن، فطلعتا من حبسة المتاحف، واتاحت للعامَّة مشاهدتا. ده شغل عظيم .. حتى لو قصدت منُّو الشركة الإعلان عن نفسها للعامَّة"!
تداخل الشيخ فتح الرحمن قائلاً:
"والله يا خوانا العامَّة ديل عندهم قدرة ما عاديَّة على استيعاب الجمال وتذوق الفن الراقي"!
فعززت رأيه بأن سقت حكاية عبد الله بولا مع خفير مدرسة الضو حجوج الثانوية، حيث كان يعمل، في السَّبعينات، مدرِّساً للفنون؛ وكان قد درج على البقاء بمرسمه ساعات إضافيَّة، بعد انتهاء اليوم الدِّراسي، لإتمام لوحات المعرض الذي أقامه، لاحقاً، بالبريتش كاونصل بأم درمان. الشَّاهد أنني زرته، في أحد تلك الأيام، ووجدت ذلك الخفير متكئاً على طوار باب المرسم، يتابع، في شغف، عمل بولا الذي ما أن رآني حتى أطلق ضحكة عالية، وقال:
"عليك الله تعال شوف جنس الزول المدهش ده .. واقف ليهو ساعة يتفرج على شغلي .. قال عاجبو لأنو سمح! وبرضو يقولوا ليك رجل الشَّارع العادي! زي ده عادي كيف"؟!
ضحكنا، وعلق الصَّلحي قائلاً:
"خبرتنا التاريخيَّة مع الفن في السُّودان بدت بأنو دورو كان، في الممالك المسيحيَّة، محصور بالذات في توصيل المعجزة للعامَّة الما بيقرو عشان يفهموها .. وده انتهى مع سنار"!
التقط الشيخ الإشارة الذكيَّة بسماحة، فقال:
"الفن في الإسلام حلال إلا ما حرَّم الله بنص صريح. الكون كلو بيتعبَّد. العبادة شنو؟! التفكر في قدرة الخالق؟! إذن البيتأمَّل قطعة فنيَّة يتفكر بيها في قدرة الخالق بيتعبَّد. التفكر أعلى درجات العبادة. إبن آدم يا جماعة مفطور على حب الجمال. لكين الفطرة محتاجة لرعاية، ونحنا فقدنا التربية الجماليَّة، وده ما بينفصل عن مجمل الأوضاع الاقتصاديَّة السياسيَّة والاجتماعيَّة. دلوكت إنتو بتحتجو على إنو الخرطوم بقت قبيحة .. تفتكرو بقت قبيحة ليه؟! المخططين ما بياخدو بي راي الفنانين، وبدون فن ما ممكن تخطط! زمان كليَّة المعمار ما ممكن تدخلا بي نتيجتك في الشهادة وبس! لا .. لازم تجتاز إنترفيو مخصوص لمعرفة قدراتك الجماليَّة. الطالب زمان كان بياخد فنون في امتحان الشهادة .. دلوكت ما في"!
أمَّن الصلحي على سداد رؤية الشيخ:
"ده كلام صحيح ميَّة في الميَّة يا شيخ فتح الرحمن. نحنا فعلاً فقدنا التربيَّة الجماليَّة، وده البيخلي بيوتنا بالذات خواء. ما في احترام للإنسان"!
فعاد الشيخ يعزز فكرته:
"لما نقول تربية جماليَّة ما بنقصد بالضرورة نطلع فنانين .. التربية الجماليَّة المستوعَبة، حتى لو ما كانت مُفصَح عنها، ممكن يجي ظرف يتيح ليها تعبِّر عن نفسها".
وأخذ العريفي زمام الحديث:
" المدارس يا خوانا كانت بتوفر المواد: الألوان وكراسة الرسم وطين الصلصال. تعال شوف دلوقت .. الطالب لحدي ما يجي الكليَّة ما بكون عارف الألوان الأساسيَّة من الثانويَّة! يعني يبدا من الصِّفِر! والسبب كترة التحوُّلات السياسيَّة وتقلبات المناهج والسلالم التعليميَّة .. ده السبب"!
قال الصَّلحي:
"والمصيبة إنو الكليَّة بتخرِّج مدرِّسين فنون للثانوي، ناسين بالذات المرحلة الأدنى! وحتى في امتحان الشهادة أسقطوا الفنون! وأكتر شئ بيؤلم إنو الأيَّدو ده فنانين تشكيليين! لازم نعترف بالفشل .. لازم نبدا بالذات من جديد"!
وأمَّن الشيخ على كلام الصَّلحي والعريفي:
"الاهتمام بي تدريس الفنون في المراحل المختلفة ما أقلَّ من الاهتمام بي أيِّ مادة تانية .. لأنو المطلوب تنشئة الإنسان المتوازن".
في ذات السياق اقترح جرجس حذف كلمة "فن" التي تسبق كلمة "تشكيلي" لأنها، في رأيه، تكرِّس الالتباس:
"لازم يكون مفهوم إنو المقصود هو الفن عموماً كإطار للعمليَّة التعليميَّة .. التعليم عن طريق الفن".
وعلق الشيخ:
"كلام صحيح ما في شك .. نحنا مثلاً في طريقتنا بنحاول دلوقت نطوِّر شكل الشَّرافة والجِّبَّة وزخرفة نوباتنا وراياتنا .. وبنحاول نحدِّث حتى مبنى الخلوة ذاتا! ما ممكن أطفال الألفيَّة التالتة يتنشأوا على خلاوي سنار والفور والمهديَّة".
(5)
أثناء الجلسة دخل محافظ أم درمان السابق، اللواء (م) الصادق محمد سالم، فكان لا بُدَّ للمؤانسة أن تعرج إلى هموم المدينة، وهواجس أهلها إزاء ما يُقال عن خطة حكوميَّة تهدف لتكسيرها، أو لإزالة الكثير من أحيائها العريقة بحجة .. التحديث! حاصر الحاضرون الصادق بأمدرمانيَّته، إذ كيف لابن "بيت المال" القريب من موقع اتخاذ القرار أن يقف مكتوف الأيدي أمام خطة كهذي! قال الشيخ فتح الرحمن:
"يا الصادق يا خي نحنا كنا أصلاً زعلانين من مجرَّد التشويه الحصل لي مبنى المجلس البلدي، فما بالك بي إزالة أحياء بأكملا"!
لم يؤكد الرجل شيئاً، ولم ينف شيئاً! على أنه قال قولاً سديداً بأن الأمر مرهون كله بالمدى الذي يمكن أن تبلغه حيويَّة المجتمع المدني في المدينة، مبدياً استعداده لدعم أيِّ مشروع لتطويرها. وألمح بوجه مخصوص إلى "منتدى أبناء أم درمان" الذي ينهض مقرُّه الآن بميدان "البُحيرة". سوى أنه أشار إشارة ذات مغزى إلى عزوف أبناء المدينة عن المشاركة فيه، بدليل بقاء لجنته بدون تغيير طوال السنوات الماضية!
التقط الصَّلحي سداد فكرة التعويل على المجتمع المدني:
"صحيح .. لازم المجتمع المدني هو اليتصدَّى للحفاظ على المدينة وتطويرا. إذا قعدنا بالذات ننتظر الحكومة .. واطاتنا صِبحَت"!
غير أنه ما لبث أن أضاف، بصوت ساخر أسيان، كمن يحدِّث نفسه:
"أما العملناهو من أيام الاستقلال عشان تطوير مناهج الفنون بالذات، غايتو .. الزَّمَّرنا لله"!
فلكأنه هازليت يلقي على مسامعنا، في ساعتنا تلك، مع الفارق، كلماته المحتقنة بخيبة الأمل: "بدأت حياتي بالثورة الفرنسيَّة، لكنني، ويا للأسف، عشت لأشهد نهايتها"!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.