قليلة جدا، في الأدب الروائي العربي تلك النصوص التي تنطوي على فلسفة وفكرة وخطاب ذكي. ومن بين تلك النصوص، بل على قمتها -في ما أحسب- رواية (المتشائل)، التي لم يطمع كاتبها أبدا حتى رحيله في الفوز بجائزة (نوبل) للأدب!! ولكن ما ظل يطمع فيه إميل حبيبي بشدة أن تصل رسالته الباهرة الموجعة إلى وجدان القارئ العربي، لتنتصب في وجهه مرآة الأدب التي لا تكذب، فتكشف الداء العضال المزمن للشخصية العربية إجمالا. من أحكم ما بلغنا من أقوال الحكماء: من حسن خلُق المرء اعترافه بسُوء خلُقِه!! ولن يزال ذو البصيرة يقلّب أوجه هذه القولة/الفكرة، فيلمس شجاعة نادرة في من يجرؤ على الإقرار بِجُبنِه، ويرى أمانة لا شك فيها عند من يعترف في ملأ، بأنه امرؤٌ خائن.. وشرفا لا تخطئه العين عند (سعيد بن أبي النحس المتشائل) الذي ما فتئ يذكّر قراء رسائله بلؤم أصله!! ولئن كان الكاتب العربي الكبير إميل حبيبي كريما مع بطل روايته (سعيد بن أبي النحس المتشائل)، حيث أسبغ عليه من مكارم الأخلاق ما جعله جديرا بالاعتراف بسُوء خلُقه وسوء أصله الموروثين كابرا عن كابر، فإن هذا الكاتب كان، من جانب آخر، قاسيا قسوة جرّاح ماهر، في تحطيم مرتكزات وهمية تليدة في نسيج الشخصية العربية! فكل عربي تحت الشمس يؤمن بأربعة أشياء تخصه هو شخصيا: كرم الأصل، الشجاعة، الجود، والأمانة!! (وهي مرتكزات إذا اصطحبت معها إيمانا بمسؤولية رسالية تجاه الآخرين، أسفر الوهم فيها عن حقائق باهرة، كما يؤكد تاريخ العرب في صدر الإسلام.أما إذا تجردت من الرسالة، فإنها تحوّل صاحبها إلى "مهرّج" جدير بإضحاك الآخرين، والاحتفاظ لنفسه بالبكاء، كما هي حال العرب اليوم. وعندها لن يقدر على إصلاح هذه الشخصية إلا "سوط" اسمه (سعيد بن أبي النحس المتشائل).. ولن يصلُح هذا الدواء المرّ إلا بشرط ضبط الجرعات، مقدارا وميقاتا، بعد الثقة بسلامة التشخيص والإيمان بنجاعة الدواء. عندما نشرت رواية "المتشائل" لأول مرة في عقد السبعينيات من القرن الماضي، انشغل النقاد كثيرا بكلمة "المتشائل" وأوسعوها فحصا وتقليبا، فانصرف عنها بعضهم بنتيجة تؤكد أنها مجرد لهو وتلاعب بلفظي (متفائل/متشائم)، بغية الخروج بلفظ يعبر عن اختلاط مضموني اللفظين لا أكثر! بينما رأى آخرون أن الكلمة، فوق ذلك، تعبر عن معنى وسيط، بين إحساسي التشاؤم والتفاؤل، وأن موصوفها هو -بالضرورة- رجل لا متفائل ولا متشائم. أما ما نراه نحن، فهو أن هذا التوليد من لفظي (متفائل/متشائم) هو تعبير يحمل في أحشائه خلاصة الرواية ذاتها، ممثلة في توصيف الشخصية العربية المعاصرة التي يتجرّأ سعيد (أو أميل حبيبي) على فضحها فضحا مؤزرا، ويخلص من خلالها إلى حقيقة العلل النفسية المزمنة، المسؤولة عن واقع الانهزام العربي الشامل. فالتفاؤل معنى ينطوي على اعتراف ضمني ببؤس الماضي، وأمل في رغد المستقبل (بمبرر التحول الطبيعي في الأقدار).. وهو إحساسٌ يحتاج إليه الأسوياءُ ضمن الميكانيزمات النفسية اللازمة لتجاوز الأزمات وتخطّي العقبات، طبيعية كانت أم من صنع الآخرين. والتشاؤم معنى يتضمن إقرارا ببؤس الماضي، مع ترقب لمستقبل أكثر بؤسا (بمبرر النمو التراكمي للأقدار).. ومع أنه، بالعموم إحساس سلبي بغيض، إلا أنهُ يبدُو ضروريا وربما مطلوبا في بعض الأحيان، خصوصا في أوقات الشدة التي يبدو فيها التفاؤلُ غُرورا. والمعنيانِ هما من قبيل التوهّم والظن الذي تُعلّل به النفس، تارة بالأمل في الخلاص، نزوعا بالأنفس إلى الاستماتة في مواجهة الشدائد شرطا لازما لذلك الخلاص، وتارة بالتوطن على البلاء، نزوعا بالنفس إلى الصبر، حتى ينجلي ذلك البلاء. أمّا (التشاؤل) -وكما يرتسم في سلوك وانفعالات ومحركات شخصية سعيد بن أبي النحس- فهو إحساس يتضمّن تفسيرا إيجابيا لبؤس الماضي، بما فيه الموت نفسه (فالموت -كما يؤكد سعيد- كان من الممكن أن يتم بصورة أسوأ من هذه!!). هو إذن -أعني التشاؤل- ضرب من التفاؤل السلبي أو (الرجعي)، بينما يتجاهل هذا الإحساس، تجاهلا جبانا ومقصودا، سؤال المستقبل!! فسعيد العربي، إذن رجل مسجون في تفسيراته المتفائلة للماضي البائس (كالعرب الذين يحملهم بؤس حاضرهم للفرار إلى ماضيهم، حتى إذا اكتشفوا في ذلك الماضي ذاته بعض الأخطاء، تمحّلوا لها التبريرات المتفائلة (هذا أفضل مما كان يمكن أن يقع!) حتى يصبح الماضي كله مثالا مقدسا. وهو -سعيد- في ذات الوقت ضائع في فراره الأبدي من فكرة المستقبل، وسؤال المستقبل، وسجينٌ لاستسلامه غير المشروط وحتى غير المناقش أو المتسائل عمّا قد يأتي أو يحدث غدا (قارن هذا بالمتشائم، الذي -مع سُوء ظنه بالمستقبل- يعبِّئ نفسه لمواجهته أو التفاعل معه بشكل ما). سعيد بن أبي النحس -المتشائل- اسم آخر للسياسة العربية المعاصرة، ولم يكن فلسطينيا إلا بالصدفة المكانية البحتة، التي جعلت (إميل حبيبي) فلسطينيا. علي يس _______________