أثار حديث الرئيس البشير لقناة النيل الأزرق الاسبوع الماضي جدلاً واسعاً في الساحة السياسية، وفي دوائر معينة داخل غرف مغلقة بعيداً عن وسائل الاعلام، خشية من ردود أفعال غير محسوبة، نسبة لأن حديث الرئيس حوى الكثير من المفاجآت غير المتوقعة، إذ تطرق لقضايا حساسة كان مسكوتاً عنها الى وقت قريب، وعمد الى وضع النقاط التي كانت غائبة فوق حروف هذه القضايا. ولعلها المرة الأولى التي يتصدى فيها الرئيس البشير لتلك القضايا وبهذا القدر من الوضوح منتقداً السياسات الخاطئة التي كانت «الإنقاذ» قد انتهجتها وعملت على تنفيذها دون التحسب لنتائجها التي أضرت كثيراً بالمصلحة العامة للبلاد، وشكلت ضربة مباشرة للوحدة الوطنية في صميمها، وخلقت نوعاً من التفرقة بين المواطنين دون اي اعتبار ليس للاعراف وحدها ولكن في كثير من الاحيان للقوانين ذاتها ان لم نقل الاخلاق. ولعله من نافلة القول الإقرار بأن ورود حديث الرئيس في هذا التوقيت المتأخر هو خير من غيابه تماماً في مواجهة تلك القضايا الساخنة، ولكن هذا لا يعني أنه لم تكن هناك أصوات قد سبقت حديث الرئيس محذرة من المخاطر، إلا أن سفينة «الإنقاذ» لم تكترث لهذه التحذيرات من الاعاصير والانواء في سعيها وبحثها عن مرسى آمن، ولم يجد قرع ناقوس الخطر آذاناً تصغي وتسمع، فكانت الخسارة الفادحة بدءاً من انفصال الجنوب ووصولاً للحالة الملتهبة في أجزاء عديدة من الوطن مثل جنوب كردفان والنيل الازرق. ويجب ألا ننسى الماضي الذي حمل «الإنقاذ» على اتباع سياسة «التمكين» بدءاً من الامساك بكل مفاصل الدولة الامنية والاستراتيجية مما يعني اتباع سياسة القوة تجاه كل اعداء الانقاذ وخصومها وعلى رأسهم اهل الجنوب أو الحركة الشعبية، الامر الذي انتهى بتدويل قضية الجنوب ووضع كل كروتها في ايادي المجتمع الدولي. وغني عن القول ان تلك المرحلة شهدت فقدان كامل الثقة بين الشمال والجنوب في تعاطيهم لهذه الازمة التاريخية بكل مخاطرها التي شكلت تهديداً لمستقبل الوحدة الوطنية. وقد اتسعت دائرة الشك وحالة فقدان الثقة هذه لتشمل كل الاقاليم الملتهبة التي بدأت وقتذاك تجأر بالشكوى من التهميش والاهمال التام من المركز. فالخدمة المدنية التي كانت المسؤول الاول عن ادارة البلاد أصابها طلق نافذ من سياسة التمكين، وكانت النتيجة انهيار هذا الصرح الاداري الشامخ الذي كنا نباهي به الآخرين من حولنا، والذي بذهابه تفاقمت أزمة تهميش الاطراف من قبل المركز. ونحن هنا لا نذيع سراً اذا قلنا ان عملية «التمكين» هذه كانت قد بدأت مع بداية الانقلاب العسكري في 30 يونيو 1989م، حيث شارك أكثر من ألف كادر من كوادر الحركة الاسلامية في تأمين ذلك الانقلاب في أيامه الأولى، وهم يرتدون زي القوات المسلحة، وكانت تلك البداية الحقيقية لما عُرف فيما بعد بسياسة «التمكين». وبعدها عملت الجبهة الاسلامية على توظيف كوادرها الوسيطة لتسلم مفاصل جهاز الخدمة المدنية، بعد أن تم تأمين مفاصل الجهاز العسكري عبر إحالة اعداد كبيرة من الضباط الى التقاعد المبكر. وبعد المراحل الأولية من سياسة «التمكين» التي عُنيت بالخدمة المدنية وقبلها بالقوات المسلحة، وجهت «الإنقاذ» وجهها نحو الاقتصاد. وكانت البداية أن شجعت الاستثمار في القطاعات الخدمية قصيرة الأجل وذات العائد السريع، وذلك لتوفر السيولة المالية اللازمة بالسرعة المطلوبة لتنفيذ سياساتها المرتبطة بتلك المرحلة، فكان أول هذه المجالات قطاع الاتصالات وبعض المجالات الهامشية، وذلك خصماً على حساب الاستثمار الحقيقي في القطاعات الحيوية كالزراعة والصناعة، فالزراعة كانت تمثل عصب الاقتصاد السوداني لعقود طويلة وتوفر الحياة الكريمة ومصدر الرزق الأول للغالبية المطلقة لأهل السودان، فتدهورت وسقطت سقوطاً مدوياً. ولعل مشروع الجزيرة هو مجرد مثال فقط وليس من قبيل الحصر والاحصاء لمجمل المشروعات الزراعية التي صارت هباءً منثوراً وجزءاً من الماضي الاقتصادي للبلاد.. مشروعات المناقل والرهد والزراعة الآلية وغيرها. وخرج السودان من قائمة الدول الاولى في انتاج القطن في العالم، اما الصناعة فيكفي ما قاله عراب سياسة التحرير د. عبد الرحيم حمدي بانها ماتت ويجب تشييعها!! كذلك اتبعت «الإنقاذ» سياسة خاطئة سميت بالخصخصة دون دراسة جادة لمخرجات وتبعات هذه السياسة في ظل أوضاع سياسية تحكمها سياسة «التمكين»، فكان ان خصخصت مشروعات ومؤسسات عامة ظلت طوال عهدها تحقق النجاح وتقدم الجدوى المنوطة بها. وجدير بالذكر ان عمليات الخصخصة نفسها كانت تتم بواسطة سماسرة اعتبروا من أهل الحظوة، وكانت لهم مصالحهم في إتمام هذه العمليات الفاشلة، إلا ان مصالحهم تغلبت على مصلحة الوطن، مثال على هذا قول هؤلاء بأن الخطوط الجوية السودانية «سودان ايرويز» كانت مؤسسة خاسرة، وهي خسارة كانت لديها مسبباتها ومن بينها ابعاد اهل الخبرة عند بداية الخصخصة وإعمال سياسة التمكين، وأيضاً نسبة للديون الكبيرة المتراكمة على الدولة لصالح هذه المؤسسة التى تحمل أكثر من معنى ولها رمزية السيادة باعتبارها ناقلاً وطنياً. ولن يغيب عن البال انهيار مؤسسات مهمة كالسكة الحديد والنقل النهري اللتين لم تنجح الدولة في الاحتفاظ بهما بوصفهما مؤسسات عامة وليست خاصة!! ولسياسة التمكين وجوه متعددة ومتنوعة في مجالات عدة، ولها صلة بظاهرة الفساد التي استشرت مثل مرض السرطان في جسم الدولة، والتي تحدث عنها الرئيس البشير في خطابه ذاك، اذ انه لا يوجد أمر من الامور التي تحدثنا عنها الا وكانت علامات الاستفهام تقف بوضوح أمامها، ودونك «طريق الانقاذ الغربي» وما حدث فيه من فساد. وقد وصل «التمكين» الى كل المجالات والقطاعات والمؤسسات، حيث عملت الدولة على امتلاك الكثير من الشركات التي تعمل في كل المجالات التي تخص القطاع الخاص، وصارت هذه الشركات تمثل بؤراً للفساد، واستمر هذا الحال رغم توجيه الرئيس البشير بتصفية كل هذه الشركات التابعة للدولة، والتى تستثمر فيها بعض الجهات الرسمية بأذرع في المجالات الخدمية والتجارية التي لا تمت بصلة مباشرة لطبيعة نشاطها، وكمثال إحدى الجهات الحكومية التي يقال انها تمتلك اكثر من مائة صيدلية بالاضافة الى شركة تابعة لتلك الجهة تعمل في مجالات تجارية وانشائية، واخرى تعمل في مجال المستشفيات وشركات استيراد الادوية، وكذلك مشروعات استثمارية في كافة المجالات الخدمية منها والعمرانية والتعليمية. وكان من نتائج هذا الوضع ان خالفت بعض الجهات الحكومية تعليمات وزارة المالية بعدم تجنيب اية موارد ذات عائد مالي لتلك الجهات، وضرورة ايداعها في خزينة وزارة المالية باعتبارها الجهة المسؤولة عن كل ايرادات ومنصرفات الدولة، فنتج عن هذا التضارب في السياسة ان غادر وزيران من وزراء المالية الوزارة نتيجة عدم الاستجابة من قبل تلك الجهات الحكومية لسياسة تحصيل المال العام. والذي نريد ان نقوله في هذا المجال أن مثل هذا العمل بالنسبة لتلك الجهات الحكومية، وبعضها ذات مسؤولية حساسة في مجالات ليست من اختصاصها، يلهى تلك الجهات الحكومية عن اداء واجبها الاساسي المنصوص عليه في قوانين الدولة. كما ان المباني الفاخرة والابراج العالية التي تحجب ضوء الشمس هي شواهد ماثلة على عدم الاختصاص لبعض هذه الجهات الحكومية في تحويل اهدافها الوطنية نحو مجالات الاستثمار التجاري بدلاً من واجباتها الاساسية، وهي مبانٍ تناسب الاستثمارات الفندقية اكثر من الغرض الذي انشئت من اجله. وهنا لا بد لنا ان نطرح سؤالاً وهو: لماذا تقوم مثل هذه الجهات الحكومية بأعمال ليست من اختصاصها وانما هي من اختصاص جهات أكثر تخصصاً، سواء قطاع عام أو خاص ؟ والسؤال الثاني هو حول الاسباب التي دعت لاستمرار بقاء هذه الشركات المملوكة للجهات الحكومية حتى بعد صدور قرار رئاسي بحلها ؟ والامر هنا لا يقتصر على المركز، بل ان بعض الولايات تمتلك اعمالاً تجارية، فهل معنى هذا ان المسؤولين في الاقاليم والمركز لا ينفذون تعليمات وتوجيهات رئيس الدولة؟ وفي هذه الحالة يكون السؤال: كيف نطلب من المواطن العادي ان ينصاع لقرارات الحكومة اذا كانت بعض الاجهزة الحكومية لا تفعل ذلك ؟ وكيف تكون نظرة المواطن البسيط للرجل الأول في الدولة في هذه الحالة؟ وكيف نقنع المواطن العادي نفسه بأن يتعامل دون هواجس حول امكانية ان تحقق توجيهات الرئيس ونقده لسياسات التمكين الاصلاح المطلوب؟ خاصة ان مثل هذا الاصلاح لا يتم فقط بمجرد الكلام وانما يحتاج لاجراءات حاسمة. ان المطلوب مراجعة شاملة لكل مكونات سياسة التمكين القديمة التي يجلس على سدتها أناس متنفذون، فيجب الالتزام بالمعيار الوطني لوضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وان تُقاس الامور خارج اطار الانتماء الحزبي ليصبح المعيار الأوحد هو الانتماء للوطن. لا ريب يا سيادة الرئيس أنك عندما كنت تتحدث وبتلك الثقة عن إضرار التمكين بالخدمة المدنية وما سبقه من شعار الشيوعيين «التطهير واجب وطني»، فقد أعطيت المواطن انطباعاً بأنك عازم على تصحيح هذا الوضع المختل وغير الصحيح، وانك تعلم جيداً أن هنالك في الدولة أناساً يحتلون أماكن ليست اماكنهم، إذن لا بد ان تخبرنا ماذا أنت فاعل نحو هذا الأمر الخطير، خاصة أنك قد منحت الناس قدراً كبيراً من الأمل، وأنك تعلم ان هنالك ظلماً بيّناً أصاب كثيرين منهم.. فماذا أنت فاعل نحوهم؟ لقد تكونت لجان من قبل لمراجعة الأخطاء الفادحة والظلم الكبير الذى صاحب سياسات التمكين، وقد اتضح جلياً ان حصاد تلك اللجان كان صفراً كبيراً، في حين ان هنالك إعداداً كبيرة من السودانيين يملكون العلم والكفاءة والتجربة والمقدرة نزحوا الى خارج السودان وباعوا خبراتهم في المنافي، ليس فقط من أجل تحسين اوضاعهم ولقمة العيش، ولكن نتيجة للظلم الذي لحق بهم في وطنهم. وفي هذه الحالة تحضرني قصة واقعية تعكس وطنية صاحبها، بعد أن أصابه الظلم نتيجة سياسة تطبيق شعار «التطهير واجب وطني» في عهد مايو أيام نسختها الشيوعية، فقد تم اعفاء الدكتور حسين ادريس الخبير في أبحاث القطن لمجرد انه صهر القطب الاتحادي الكبير الراحل نصر الدين السيد، فغادر البلاد للعمل في منظمة الاغذية والزراعة العالمية وبمرتب اعلى مما كان يتقاضاه في وحدة الابحاث بمشروع الجزيرة. وحدث أن زار المهندس سيد مرعي وزير الزراعة واستصلاح الاراضي في مصر وحدة الابحاث في بركات، فسأل عن الدكتور حسين إدريس، فقيل له انه تم فصله وفقاً لسياسة التطهير التي كانت تتبعها الحكومة آنذاك، فما كان من الوزير المصرى الا أن اعرب عن أسفه، وبعد عودته الى بلاده اتصل بالدكتور حسين ادريس وعرض عليه العمل خبيراً في مجال أبحاث القطن في مصر بمرتب عال، فاعتذر الدكتور قائلاً له: إنه لا يستطيع العمل في بلد منافس لوطنه في مجال القطن، وعندما سمع الرئيس الاسبق نميري بتلك القصة أرسل للدكتور حسين طالباً منه العودة الى البلاد، وقام برد اعتباره بتعيينه وزير دولة بوزارة الزراعة لشؤون الابحاث، كما قدم له بالغ اعتذاره. ونحن يا سيادة الرئيس لا نطلب منك الاعتذار لهؤلاء، بل رد الاعتبار لهم بوصفهم مواطنين حاق بهم ظلم لا يستحقونه!! وأخيراً لا ريب أن كل القضايا التي تناولها الرئيس البشير من فساد وتمكين تحتاج الى مراجعة شاملة من أجل مصلحة الوطن أولاً ومن اجل مصلحة المواطن ثانياً، لأنه بمثل هذه القرارات تستقيم الامور وتستقر الاوضاع، خاصة اذا ما أُعيد لكل ذي حق حقه، ولذلك فإننا نأمل أن يشفع الرئيس القول بالعمل، وان يعمل على إيكال الأمر الى لجنة على درجة عالية من المهنية والاخلاق الوطنية والحيدة والنزاهة لكي تعيد الأمور الى نصابها. ولا ريب أيضاً أن معالجة هذه المظالم تذيب كثيراً من الغل والغبن الذي تعمق في النفوس، وجعل المواطنين الصادقين يبتعدون عن العمل العام، فتقدمت له قلة من المنافقين والمنتفعين الذين لن يدافعوا عن هذه البلاد اذا تعرضت لكارثة أو حلت بها مصيبة، بل سيكونون أول الفارين مثلما تفر الجرذان من السفينة الغارقة. والفرصة الآن مهيأة يا سيادة الرئيس لكي تعيد الامور الى نصابها وأنت الرجل الأول المسؤول امام الله والوطن، فينبغي أن تقف على إزالة سياسة التمكين بنفسك حتى ينصلح حال البلاد والعباد، ويُنصف كثير من المظلومين الشرفاء.. فهل لنا أن نسمع منك يا سيادة الرئيس ما يطمئننا إلى انك فاعل لا محالة ولو كره المنافقون الذين هم قلة تحكمت في مصائر الآخرين بلا سند من قانون، اللهم الا قانون الواقع المستمد من قوة الحكومة وفي غفلة وإهمال منها، فالقوانين والاعراف وتعاليم الدين تفرض أن يُعامل المواطنون بقدر متساوٍ دون تمييز. وعندما تغيب تلك المفاهيم السامية النبيلة ويفشل اهل الحكم في تحقيقها، ينتشر الغموض ويسود قانون الغاب، مما يرفع وتيرة الإحساس بالظلم واليأس من العدل، الأمر الذى يفضى آخر المطاف الى التمرد على القانون وعلى الدولة وعلى الوطن نفسه. هذا ما يحدث الآن في بلادنا، وهو أمر يحتاج الى عزم أهل العزم.. فهل هم فاعلون؟ وأنت على رأسهم يا سيادة الرئيس إدريس حسن