الخرطوم 3-12-2011 "سونا"- لما بعث رسول الله صلي الله عليه وسلم أمر بالتبليغ والإنذار فظل ثلاثة عشر عاما يدعو الناس إلي الإسلام في غير قتال فآمن به بعض الناس كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وخديجة رضي الله عنهم وغيرهم، وبقي علي الكفر أكثر الناس وصاروا يؤذونه وأصحابه فلما اشتد عليه الأذى هاجر بعض اصحاب النبي إلي الحبشة وكانوا نحو ثمانين منهم عثمان بن عفان وجعفر بن عبد المطلب رضى الله عنهم . ولما كثر أنصار رسول الله صلي الله عليه وسلم بيثرب أمر الله المسلمين بالهجرة إليها فخرجوا جماعات بعدما هاجر النبي صلي الله عليه وسلم من مكة محل ولادته مع أبوبكر الصديق بعد أن أقام في مكة منذ البعثة ثلاث عشرة سنة يدعو إلي التوحيد ونبذ الشرك ولم تكن هجرة النبي صلي الله عليه وسلم حبا في الشهرة والسيادة والملك والجاه والسلطان فقد ذهب إليه أشراف مكة وقالوا له إن كنت تريد بما جئت به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ،وإن كنت تريد ملكاً ملكناك أياه ولكن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أسمي واشرف من أن يكون مقصوده الدنيا. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه حتى وصلا غار ثور فدخلاه وجاءت العنكبوت فنسجت علي بابه وجاءت حمامة فباضت، فلما وصل رجال قريش إلي الغار قال أبوبكر الصديق (يارسول الله لو ان أحدهم نظر إلي قدميه لأبصرنا تحت قدميه) فقال النبي صلي الله عليه وسلم( ياابابكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما) وقد وصف الأمام شرف الدين بن عبدالله محمد البوصيري في قصيدته البردة الشريفة هذا الموقف وصفا دقيقا وجميلا اذ قال: وما حوى الغار من خير ومن كرم وكل طرف من الكفار عنه عمي فالصدق في الغار والصديق لم يرهما وهم يقولون ما بالغار من أرم ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت علي خير البرية لم تنسج ولم تحم وبعد خروجه علية الصلاة والسلام من غار ثور متوجها إلي يثرب وفي طريقه مر بخيمة أم معبد الخزاعية وهي امرأة بدوية لا تتعدي شهرتها خيمتها أو أهلها وقد هبطت عليها البركة عند نزول النبي صلي الله وسلم ضيفا عليها وحلب شاتها العجفاء فدرت فشربت حتى رويت وشرب أصحاب الرسول وشرب رسول الله صلي الله عليه وسلم. وعندما عاد زوجها وجد اللبن وقال (من أين لكم هذا والشاه عازبه ولا حلوب في البيت) قالت لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، قال ( والله أني لأراه صاحب قريش الذي يطلب ) صفيه لي يا أم معبد قالت:- (رأيت رجلا ظاهر الوضاءة ( الجمال)، أبلج الوجه ( مضيء) حسن الخلق، لم تعبه نحلة ( ليس نحيل) ولا تزر به صعلة ( صغر الرأس) وسيم، في عينيه دعج ( شديد السواد شديد البياض) .وفي أشفاره وطف( طول الرموش) وفي صوته صهل ( ليس حادا) وفي عنقه سطع ( طول العنق) وفي لحيته كثاثة ، ( أي لحيته كثيفة ) أزج ( دقيق شعر الحاجبين مع طولهما)، أقرن ( متصل مابين حاجبيه من الشعر)، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما ( علا برأسه أو بيده وارتفع) وعلاه البهاء أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب ، حلو المنطق، فصل لا هذر ولا نزر( لا كثير الكلام ولا قليله)، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربع( ليس بالطويل وليس بالقصير) لا يأس من طول ولا تقتحمه العين من قصر غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إن قال استمعوا لقوله ، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود( مخدوم)، محشود( يجتمع الناس حوله)، لا عابس ولا مُفنَّد ( ليس منسوب الى قلة العقل). قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً. وصل الرسول صلي الله عليه وسلم يثرب وأسس فيها مسجد قباء وكانت الهجرة حدثا فاصلا بين عهدين فقد أعز الله المسلمين بعد ما كانوا مضطهدين، وصارت لهم دار آمنة يقيمون فيها، ومسجد يصلون فيه ويؤدون فيه شعائرهم، ويتشاورون في أمورهم ، لهذا كله اتفق الصحابة علي جعل الهجرة بداية للتاريخ الإسلامي فقد تحول المسلمون من الضعف والحصار والاضطهاد إلي القوة والانتشار ورد العدوان . ومن هذه الناحية فأن الدروس المستفادة من الهجرة النبوية هو أن الأمة التي تريد أن تخرج من تيهها وتنهض من كبوتها لابد أن تأخذ بأسباب النجاة ثم تنطوي قلوبها علي سراج من التوكل علي الله وجهاد أهل الباطل وحصول ما يحبه الله ويرضاه من الإيمان واليقين والعلم والدعوة وضرورة الإخلاص والسلامة من الأغراض الشخصية وإخلاص روح العظمة وقطب مدارها والإخلاص يرفع شأن الأعمال حتى تكون مرافئ للفلاح وهكذا كان رسولنا الكريم يدعو إلي الإخلاص والهجرة كانت دليلا علي الإخلاص والتفاني في سبيل العقيدة. أن الإخلاص هو السبب الأعظم لنيل المآرب التي تعود علي الأفراد والأمة بالخير. والاعتدال في حال السراء والضراء فيوم خرج عليه الصلاة والسلام من مكة مكرها لم يخنع ولم ييأس ولم يفقد ثقته في ربه،فالدرس المستفاد من هذا المعني واضح وجلي فأمتنا تمر بأحوال ضعف وأحوال قوة وأحوال غني وأحوال فقر فعلينا لزوم الاعتدال في شتي الأحوال فلا تبطرنا النعماء ولا تقنطنا البأساء. ومن الدروس أيضاً ان العاقبة للتقوى والمتقين فالذي ينظر في الهجرة في بادي الامر يظن ان الدعوة إلي زوال واضمحلال ولكن الهجرة في حقيقتها تعطي درسا واضحا ان العاقبة للتقوى وللمتقين .و ثبات أهل الأيمان في المواقف الحرجة وهذا واضحا جدا في كلام النبي ( يا أبابكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما)وإن من حفظ الله في سره وعلانيته حفظه الله ويؤخذ هذا المعنى في حال زعماء قريش عندما ائتمروا بالنبي ليعتقلوه أو يقتلوه أو يخرجوه قال تعالي (( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ)(الأنفال: 30) ومن العبرة في الهجرة أن النصر مع الصبر فقد قضي صلي الله عليه وسلم في سبيل دعوته في مكة ثلاثة عشر عاما وهو يلاقي نفوسا طاغية وألسنة ساخرة وربما لقي أياد باطشة وكان هينا علي الله ان يصرف عنه الأذى جملة ولكنها سنة الابتلاء يؤخذ بها الرسول الأكرم ليستبين صبره ويعظم عندا لله أجره وليتعلم دعاة الإصلاح كيف يقتحمون الشدائد ويصبرون علي ما يلاقون من الأذى صغيرا كان أم كبيرا. ومن الفوائد ظهور المواقف البطولية فعلية الصلاة والسلام اليه تنتهي الشجاعة بأسرها ومن مواقفه البطولية ما كان من أمر الهجرة وذلك لما اجتمعت عليه قريش ورمته من قوس واحدة واجتمعت على قتله والقضاء علي دعوته فقابلها صلي الله عليه وسلم برباطة جأش وجبين طلق وعزم لا يلتوي فحقيق علي الأمة التي تريد العزة والرفعة والسعادة ان تكون علي درجة من الشجاعة حتى تقر بها أعين حلفائها ويكون لها مكانة مهيبة في صدور أعدائها. ومن أهم الفوائد الحاجة إلي الحلم ومقابلة الإساءة بالاحتساب فقد كان رسولنا الكريم يقابل الإساءة بالإحسان والغلظة بالرفق ومما يجسد تلك المعاني ما كان عليه صلي الله عليه وسلم لما عاد إلي مكة ظافرا فاتحا حين تمكن ممن كانوا يؤذونه بصنوف الأذى فقال لهم ( ما تظنون إني فاعل بكم) قالوا (أخ كريم وأبن أخ كريم) فقال (أذهبوا فأنتم الطلقاء) هذا دأبه وديدنه يعفو ويصفح ويدفع السيئة بالحسنة. فهذه السيرة ترشد الرئيس والملك والوزير والمدير وزعيم القوم أن يوسع صدره لمن يناقشه ويجادله ولو صاغ أقواله في غلظ وجفاء ، مسيرة الرسول الكريم هي التي علمت معاوية رضي الله عنه إن يقول (والله لا احمل سيفي علي من لا سيف له) وكان يقول (لا احمل سيفي ماكفاني سوطي ولا احمل سوطي ماكفاني مقولي).. ومن الفوائد استبانه أثر الأيمان فلما تنفس الإسلام في بطاح مكة اعتنقه فريق من ذوي العقول السليمة وما لبث عباد الأوثان يؤذونهم في أنفسهم ويأبون أن يقيموا شعائر دينهم ولما كان أولئك المسلمون علي إيمان أجلي من القمر يتلألأ في سماء صاحبه تحملوا الأذى في صبر وأناة وكانت مظاهر أولئك الطغاة حقيرة في أعينهم منبوذة وراء ظهورهم حتى أذن الله لهم بالهجرة،وكذلك الأيمان تخالط بشاشته القلوب فيخلق من الضعف عزما ومن الخمول نهوضا ومن الذلة عزا ومن البطالة نشاطا ومن الشح كرما وبذلا وهذا كله يعطي دروسا ويدفع أولي الأمر وأهل العلم أن يبذلوا قصارى جهدهم في سبيل تعليم الأمة امر دينها وقيادتها ولو بالسلاسل الي دعوة الإيمان والهدى كي تعود لها عزتها السالفة وأمجادها الغابرة. وهذا من فوائد الهجرة فلقد كان الحق بمكة مغمورا بشغب الباطل وكان أهل الحق في بلاء من أهل الباطل شديد والهجرة كانت من أعظم الأسباب التي رفعت صوت الحق علي صخب الباطل وخلصت أهل الحق من ذلك البلاء الجائر وأورثتهم حياة عزيزة ومقاما كريما وإذا كانت البعثة مبدأ الدعوة إلي الحق فان الهجرة مبدأ ظهوره والعمل به في حالتي السر والعلانية ولا يبلغ قول الحق غايته ويأتي بفائدته كاملة إلا أن يصبح عملا قائما وسيرة متبعة ، فالهجرة راشت جناح الإسلام فذهب يحلق في الآفاق ليمحوا به الضلالة ويجعل آية الهداية مبصرة قال تعالي (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) . من الدروس والعبر أن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه فان المهاجرين لما تركوا ديارهم وأهليهم وأموالهم التي هي أحب شيء إليهم اعاضهم الله بان فتح عليهم الدنيا وملكهم مشارقها مغاربها فحري بأهل الإسلام ان يضحوا في سبيل الله وان يقدموا محبوبات الله علي محبوبات نفوسهم ليفوزوا بخيري الدنيا والآخرة. إن قيام الحكومة الإسلامية من منافع الهجرة النبوية تلك الإحكام المدنية والنظم القضائية والأصول السياسية والهجرة هيأت للإسلام ان يكون له حكومة ذات سلطان غالب وكلمة فوق كل كلمة ومكنت الحكومة الإسلامية أن تقضي بشرع الله الحكيم وبالسلطان الغالب بقهر الأعداء وبالشرع الحكيم يعيش الناس بأمن وسعادة والدرس المستفاد من هذا أن الأمة لا يمكن أن تكون لها سيادة ومنعة الا إذا حكمت بشرع الله . والمسلمون لا يعدون أنفسهم يعيشون في بلد إسلامي الا اذا ساد نظام الإسلام بلدهم وقامت احكامة وآدابه كما تقوم به شعائره وتسود عقائده. فلابد من اجتماع كلمة المسلمين وارتفاع شانهم والأمة الإسلامية نهضت بفضل الهجرة النبوية إلي المدينة وبفضل التخطيط الاستراتيجي للرسول عليه الصلاة والسلام فواجب علي كل مسلم الاقتداء بهديه والإتباع لسنته ووجب علي الجميع جعله القدوة الحسنة فرسول بهذه الصفات والأخلاق والمكارم واجب إتباعه وهو الذي صدقت جميع مقاله، صلحت جميع فعاله، كملت جميع خصاله، حمدت جميع خلاله، سبق الندي بنواله، كشف الدجى بجماله، فاق الورى بجلاله، بلغ العلا بكماله، صلوا عليه وآله صلى الله عليه وسلم . //ع بابكر