- يعيد الاستفتاء الإداري لدارفور ومداولات الحوار الوطني المستمرة بقاعة الصداقة حالياً وما يمكن أن تسفر عنه من مخرجات حول الوضع الإداري في البلاد ، ونتائج المؤتمر القومي لتقييم وتقويم الحكم الاتحادي المزمع خلال هذا العام، إلى الأذهان مجدداً التحولات الإدارية والتقسيم الإداري للسودان في تاريخه الحديث منذ بداية الحكم التركي للسودان، والتجارب المتعددة التي خاضتها الإدارة التركية ومن بعدها الحكم الثنائي، تشكيل خريطة السودان الإدارية لأسباب اقتصادية وسياسية ولدواعي أمنية في أحيان أخرى، ولا يزال آثار هذا التقسيم الإداري ماثلة حتى الآن. فقد عرف السودان في تاريخه الحديث أشكال التقسيم الإداري في الحكم وارتبط التقسيم الإداري للسودان في بادئ الأمر بالفتح التركي، فكلما فتحت مناطق جديدة أنشئت لها إدارة، كما كانت للظروف التي تمر بها البلاد أثراً كبيراً في تكوين وتعديل هذه التقسيمات، فأصبحت رئاسة الحكمدار على كل المديريات ذات الأبعاد المترامية لتكون في قبضة السلطتين العسكرية والمدنية التي أعطته نفوذاً كبيراً وشخصية شبه مستقلة مما أدى على تخوف الخديوي محمد علي من هذا الوضع الذي قد يحرض الحكمدار على الاستقلال، ودعا إلى إلغاء منصب الحكمدار في عام 1834م على أن تتبع المديريات إلى الحكومة الخديوية في القاهرة رأساً، ولم يكن النجاح حليف هذا التعديل لاستحالة التطبيق السليم للمركزية التي تبعد فيه الرئاسة المركزية آلاف الأميال من بعض المديريات في ظروف اقتصادية وحضارية صعبة تؤدي إلى التباعد والحيلولة دون ربط القاعدة بالقمة بالسرعة المطلوبة، فتحتم إعادة النظام السابق مرة أخرى بعد فشل التجربة التي استمرت أشهراً. وقد تكرر النظام المركزي مرة ثانية في عهد الخديوي سعيد الذي لم يكتب لتنظيمه التوفيق فاضطر إلى العودة لنمط الحكمدارية السابق إلى أن قام الخديوي إسماعيل في عام 1871م بتجزئة السودان إلى قسمين هما قبلي وبحري ولكل منهما مدير عام يتبع للقاهرة، واستمر هذا الوضع زهاء ثلاث سنوات حيث ألغي في عام 1874م ليحل محله نظام الحكمدارية الذي ألغي أيضاً بتقسيم السودان وذلك لكبر مساحة المناطق التي فتحها وشملت أجزاء كبيرة منها شمال شرق أفريقيا كزيلع ، وبربره وهرر. وفي عام 1882م والثورة المهدية في مراحلها الأولى أجريت تعديلات أخرى ، قسم السودان بموجبها إلى خمسة أقاليم هي: إقليم وسط السودان، عاصمته الخرطوم، والإقليم الاستوائي وإقليم غرب السودان وإقليم التاكا وملحقاتها، ولم يستمر هذا التعديل طويلاً بسبب نجاح الثورة المهدية في تهديد الحكومة وتحريرها أجزاء من غرب السودان وكان الوضع آنذاك يتطلب إلغاء التقسيمات الإقليمية والعودة إلى نظام الحكمدارية للتمكن من مقاومة الأخطار التي تجابه الحكم التركي المصري في السودان، إلا أن ذلك لم يحول دون نجاح الثورة المهدية التي حررت البلاد في عام 1885م. وهكذا كان حكم السودان حقلاً للتجارب لهدف إحلال نظام ناجح يؤدي إلى التطور وحفظ الأمن والنظام، ولذا جرت ثمانية تعديلات خلال نصف قرن وعقب كل تجربة كان الرجوع إلى تطبيق نظام الحكمدارية العامة، لما أثبته من نجاح وملاءمة للسودان، لصهر أبنائه في إقليم واحد تابع لمجلس النظار (مجلس الوزراء) في القاهرة، وقد بلغ عدد المديريات ثلاثة عشر هي كردفان ، فشودة ، دنقلا، برر ، سنار ، الخرطوم، فازغلي ،التاكا، دارفور، الاستوائية بحر الغزال ، الجهات العليا، البحر الأبيض، إلى أن حررت المهدية معظم بقاع السودان وطبقت نظاماً إدارياً مركزياً قمته المهدي ثم الخليفة عبد الله من بعده، حيث عين لكل مديرية مديراً كان يسمى (عامل) يساعده معاونون وبعض كبار رجالات القبائل في تدبير شئون الإدارة، كونت خمسة عشرة عمالة (مديرية) هي: بحر الغزال، الجزيرة، البحرين، كردفان، دارفور، بربر، الشلك، الدينكا، دنقلا، جبل إدريس، غرب البحر الأبيض، البارية الشرقية، شرق النيل الكبير، بحر الجبل، كسلا ، طوكر (16 عمالة). ولأن بعضها ذات إستراتيجية حربية، أصبحت الإدارات عسكرية وعندما استولى الحكم الثنائي على أجزاء من السودان شملت الشمال والوسط والجزء الشمالي من الجنوب، أنشأت ست مديريات هي: الخرطوم ،سنار، دنقلا، بربر، كسلا، فاشوده التي عدل اسمها إلى مديرية أعالي النيل في عام 1904م بالإضافة إلى محافظتي حلفا وسواكن اللتين لم تخضعا لحكم المهدية. وأثر الفتوحات التي تمت بعد ذلك، أنشئت مديريات جديدة ، وعليه كونت مديرية كردفان في عام 1899م، وفي عام 1913م أنشئت مديرية جبال النوبة بفصلها عن مديرية كردفان ، وبعدها بثلاث سنوات كونت مديرية دارفور ثم مديرية الفونج عام 1924م وهكذا أصبح عدد المديريات خمس عشرة ، ونسبة للأزمة الاقتصادية التي اجتاحت العالم في مطلع العقد الرابع من القرن العشرين ضم الكثير من المديريات إلى بعضها لتخفيض تكاليف الإدارة، فتكونت منها جميعاً تسع مديريات حيث أنشئت المديرية الشمالية عام 1935م من ثلاث مديريات هي : حلفا، دنقلا وبربر، وفي العام الذي تلاه أنشئت المديرية الاستوائية من مديريتي بحر الغزال ومنقلا، كما تكونت مديرية كردفان من مديريتي كردفان وجبال النوبة. وفي عام 1937م أصبحت مديرية النيل الأبيض فرعاً لمديرية النيل الأزرق ثم أدمجت في مديرية واحدة سميت مديرية الجزيرة التي عدل أسمها إلى مديرية النيل الأزرق في عام 1942م ، وبقيت مديريات الخرطوم، كسلا، أعالي النيل، دارفور كما هي. وفي سنة 1948م انفصلت مديرية بحر الغزال من المديرية الاستوائية واستمر هذا التقسيم الإداري كما هو حتى أوائل الحكم الوطني، وأبقى عليه مع تخفيض مديرية الخرطوم إلى درجة محافظة برئاسة نائب مدير ثم مدير إلى أن أصبحت مديرية كما كانت من قبل. ومنذ أوائل الخمسينيات بدأ الشروع في نظام حكم جديد في السودان حيث تم التوقيع على اتفاقية الحكم الذاتي وتقرير مصير السودان في 12 فبراير 1953م وأهم ما نصت عليه ما يلي: 1. فترة انتقالية بحد أقصى ثلاث سنوات يتم خلالها تصفية الإدارة الثنائية. 2. تشكيل لجنة الانتخابات من سبعة أعضاء برئاسة عضو هندي وثلاثة سودانيين وعضو من مصر وآخر من المملكة المتحدة تشرف على الانتخابات العامة في البلاد. 3. تشكيل لجنة للسودنة تتألف من عضو مصري وعضو من المملكة المتحدة وثلاثة أعضاء سودانيين يختارون من قائمة تضم خمسة أسماء يقدمها رئيس وزراء السودان للحاكم العام ولجنته. 4. وجوب قيام الجمعية التأسيسية بتقرير مصير السودان كوحدة لا تتجزأ ووضع دستور وقانون لانتخاب البرلمان، وأجريت أول انتخابات برلمانية في نوفمبر 1953م وتشكلت على ضوئها حكومة برلمانية في التاسع من يناير 1954م وانتهى الحكم الثنائي بإعلان استقلال السودان في أول يناير 1956م.