رصد - سعيد الطيب في مثل هذه الأيام، قبل 70 عاما بدأ ما يعتبره الساسة الغربيون أحد أكبر الانجازات التي حققتها الولاياتالمتحدة في مجال السياسة الخارجية ففي الخامس من يونيو 1947، دعا وزير الخارجية جورج سي مارشال، الأمريكيين إلى "مواجهة المسئولية الكبيرة التي وضعها التاريخ على كاهل بلادنا". وأوضح أن الحرب العالمية الثانية، خلفت أوروبا في حالة خراب، وأدى انهيار الاقتصادات وجوع السكان إلى اضطرابات( من شأنها أن تسمح، ضمن عوامل أخرى، بسيطرة السوفييت). ومن ثم، على الولاياتالمتحدة مساعدة أوروبا على التعافي. وأضاف أن "سياستنا ليست موجهة ضد أي بلد أو عقيدة بل ضد الجوع والفقر واليأس والفوضى". وفيما بعد، أصبحت خطة مارشال، أكبر جهد للمساعدة الأجنبية في التاريخ، تبلغ مجموعه 13 مليار دولار على مدى أربع سنوات. (فيما يوازي900 مليار دولار الآن، إذا قيست كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة). ويبدو أن هناك توجها لدى إدارة ترامب الجديدة، لاسترداد ما سبق أن أنفقته الولاياتالمتحدة لحماية مصالحها بحجة مساعدة دول في حاجة للمساعدة ذلك الأمر الذي لم يخفه الرئيس الأمريكي منذ حملة ترشيحه، عندما أعلن في أكثر من مناسبة نيته الضغط على الدول الحليفة في حزب الناتو، وفي منطقة الخليج العربي، لدفع مقابل ما يعتبره جهود أمريكية لحماية هذه الدول أو بالأحرى النظم الحاكمة فيها . ولعل مئات المليارات التي حصل عليها مؤخرا مجرد بداية هذا التطور في السياسة الخارجية الأمريكية، الذي يعني أن تكون المساعدات للأنظمة الحاكمة، مدفوعة الثمن مقدما، ولعل هذا ما يفسر محالات الابتزاز التي تمارسها الإدارة الجديدة على من يتململ أو يماطل أو يساوم في تقدير المقابل الذي قدرته إدارة ترامب. وقد نشرت مجلة فورين أفيرز مقالا يصب في هذا الاتجاه بقلم دانييل كيرتز فيلان أحد مسئولي التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية خلال عهد أوباما الذي يبدأ مقاله بالقول أن مشروع مارشال كان يمثل القوة الأمريكية أفضل تمثيل: السخاء، والجرأة، والحكمة. والمعروف، أن مارشال الأب هو المؤسس للقيادة العالمية الأمريكية، التجسيد الدقيق لزمن جميل، "الزمن الذي اعتدنا فيه الفوز" على حد قول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. ويوضح فيلان "عندما أنشأنا التحالفات عبر الأطلسي، وأرسلنا أموال ضرائبنا لمساعدة البلدان المدمرة، قبلنا أننا لا نستطيع الاعتماد على سياسة"أمريكا أولا" للحفاظ على سلامتنا. وبشكل عام، ساعد مارشال كرجل حرب بلاده على الفوز بالحرب العالمية الثانية؛ وساعدها كرجل دولة على كسب السلام. ويشير كاتب المقال إلى ما يعتبره مراقبون تقاربا بين تصريحات مارشال حول أوروبا مع تصريحات سابقة له عن الصين. غير أن فيلان يرى ان الذاكرة الجماعية تميل إلى تجاهل جزء حاسم من القصة ونتيجة لذلك، فإنها تحجب بعض الدروس الرئيسية المأخوذة عن مارشال وخطةمارشال، وهو يحاول في هذا المقال دفع القارئ إلى استيعاب ما يراه دروسا تستحق التدبر. فقبل أن يبدأ مارشال ما سيصبح واحدا من أعظم النجاحات التي حققها لبلاده، تعرض لما يعتبره الكاتب أعظم فشل له. حيث كان قد عاد الى بلاده قبل خمسة أشهر من دعوته لإنقاذ أوروبا، بعدما أمضى 13 شهرا للتوسط في حرب أهلية صينية بينما يساهم في بناء الصين الديمقراطية المتحالفة مع الولاياتالمتحدة بهدف صد السيطرة الشيوعية، وهي المهمة التي تولاها بعد يوم من ترك منصبه كرئيس أركان الجيش. وكان الرئيس هاري ترومان قد وصفه بأنه " أعظم رجل عسكري قدمه هذا البلد، أو أي بلد آخر". ولكن على الرغم من بضعة أشهر من التقدم المعجز على مايبدو، فشل مارشال في نهاية المطاف، في منع الانزلاق إلى حرب كاملة وتجنب انهيار حكومة شيانج كاي شيك في مواجهة ثورة ماو تسي تونج الشيوعية. واعتبر البعض ذلك علامة سوداء في تاريخ مارشال المهني. وكانوا ينددون به باعتباره المسئول عن الهزيمة الأولى في الحرب الباردة،وهو الشخص الذي "أضاع" الصين. ولكن مارشال نفسه لم ير الأمر على هذا النحو. فبدون فشل مهمته الصينية، لم تكن خطة مارشال الأوروبية لتنجح على الإطلاق. وعندما عاد مارشال من الصين وأصبح وزير الخارجية، طرحت محنة أوروبا تحديات مماثلة لتلك التي واجهها خلال الأشهر ال 13 التي قضاهافي الصين. فهناك سجل لأزل أهمية مكافحة "الجوع والفقر واليأس والفوضى". وأدرك أن الأولوية الأولى يجب أن تمنع هذا الانهيار السياسي والمجتمعي الذي يولد الثورة؛ حيث شهد الوضع "المأساوي للشعب المنسي، أصغر الناس على الأرض". منبها "لقد تجاهلنا ذلك على مر السنين. وينبع الكثير من مشاكلنا الحالية من هذا المصدر". غير أن مارشال تعلم أيضا في الصين أن الولاياتالمتحدة لا تستطيع فرض حلول من الخارج. ولذلك قال عند إعلان مبادرته الأوروبية "يجبان تأتي هذه المبادرة من الأوروبيين"، مثلما أكد من قبل إن "الجزء الرئيسي من حل مشاكل الصين يرجع إلى نحو كبير إلى الصينيين انفسهم". يجب أن تكون امريكا مستعدة لتقديم المساعدة على نطاق لا يمكن تصوره مسبقا (أو لاحقا)، ولكن فقط إذا اتخذ المتلقون خطوات معينة، من تبني أشكال جديدة من التعاون لرفض "المتطرفين المسلحين من أي انتماء سياسي". وكان معظم خطاب مارشال دعوة للأوروبيين من أجل تقديم مقترحات التييمكن للولايات المتحدة أن تدعمها. ولاحظ المراقبون في ذلك الوقت أن تصريحات مارشال حول أوروبا تتماثل مع ما قاله عن الصين، والفارق في هذه المرة: أنه خلافا لماحدث في الصين وجد شركاء قادرين على فعل ما يمكنهم لإنجاح المساعدة. ويقول فيلان ان هذا الرأي كان من شأنه قبل ذلك، أن يولد جدلا ساما، مع تصعيد عضو مجلس الشيوخ جوزيف مكارثي حملته المناهضة للشيوعية مع هجوم على "جريمة حماقة مارشال" في الصين، التي اعبرها جزءا من مؤامرة شيوعية مزعومة تمثل "مؤامرة هائلة جدا وعار أسود جدا تصغر أمامه أي مغامرة سابقة في تاريخ الإنسان ". غير أن مارشال كان يرى أن اختيار موضع تركيز الجهد مؤلم لكنه ضروري. وتحتاج الاستراتيجية إلى تحديد الأولويات، وتحديد ما ينبغي الامتناع عن فعله وكذلك ما يجب القيام به، كما أن السعي للفوز في كل المعارك سيكون وصفةمؤكدة لفقدان حرب على نطاق أوسع. "وإذا بعثرنا الموارد في كل مكان، فلن ننجح في أي مكان". ويرى فيلان أن هذا القول يصح بشكل خاص في إطار الديمقراطية. فبعد عشر سنوات من الاحباط وأربع سنوات من الحرب العالمية، كان من الطبيعي أن يميل الأمريكيون إلى التركيز علىمشاكلهم الخاصة أكثر من العالم. ولم تصدر موافقة الكونجرس على خطة مارشال إلا بعد أن قضى مارشال نفسه أشهر مسافرا إلى جميع أنحاءالبلاد كما لو كان يترشح لمنصب، شارحا القضية إلى أي جمهور من أندية الروتاري والجمعيات النسائية إلى مزارعي القطن وغرف التجارة. واستند في دعواه إلى ما أسماه مهمة أمريكا النبيلة، بل أكثر من ذلك، استند إلى المصلحة الذاتية - سواء بالنسبة للشركات التي تحتاج إلى أسواقأجنبية أو الآباء الذين لا يريدون أن يرون أطفالهم يساقون إلى حرب عالمية أخرى. ويختتم كاتب المقال مقاله قائلا إنه بمجرد انتهاء خطاب مارشال الذي ألقاه في جامعة هارفارد حول ضرورة مساعدة أوروبا، بدأت الدعوات للتقليد: يجب أن تكون هناك خطة مارشال للشرق الأقصى، خطة مارشال للصين، خطة مارشال لأمريكا اللاتينية. ك كان ذلك بداية لتقاليد في صناعةالسياسة الأمريكية التي يرى أنها لا تزال مستمرة حتى اليوم. ولكن بعد مرور 70 عاما على خطاب مارشال في جامعة هارفارد، فإن تعلم الدروس الصحيحة من خطة مارشال يتطلب النظر في القصة الكاملة، وليس فقط النسخة الأسطورية - وليس فقط النجاحات، ولكن الفشل الذي ثبت أنه جزء لايتجزأ من النجاح - يكتسب أهمية خاصة الآن، مدفوعة بالحنين إلى العصر الذهبي المفترض. ولا شك أن الكاتب يخاطب المسئولون في بلاده، ويبرر للمهتمين بسياستها الخارجية، التطور الجديد الذي تطرحه الإدارة الحالية. وغني عن الذكر، أن المساعدات الأمريكية السابقة لم تكن من قبيل البر والإحسان، ولم تكن مدفوعة باعتبارات إنسانية تنبع من حس إنساني يستعذب العطاء لوجه الله، وإنما كانت تصب دائما في صالح بسط الهيمنة الأمريكية، وتكبيل دول الأنظمة الحاكمة المتلقية للمساعدات بأغلال التبعية التي تفرض عليها التنازل عن سيادتها، وتقبل سلب مواردها، وفتح أسواقها أمام الشركات الأمريكية. غير أنه من الواضح ان التطور الجديد يقتضي دفع مقابل مادي يتم تقديره في البيت الأبيض بالإضافة الى كافة الامتيازات الاقتصادية والنفوذ السياسي والهيمنة سابقة ولاحقة الدفع