لندن 19-9-2019م (الاقتصادية)- وسط حديث دولي لا يتوقف عن الأوضاع غير المستقرة للاقتصاد العالمي، وتوقعات متزايدة بشأن احتمالية التعرض للركود، وقلق متصاعد من اتساع نطاق الحرب التجارية بين الولاياتالمتحدة والصين، وتحولها إلى حرب عملات، وما يحمله ذلك في طياته من أضرار كارثية على التجارة والاقتصاد الدوليين. وسط كل تلك المخاطر تبدو تجارة العملات العالمية اليومية في عالم آخر تحكمه كلمة واحدة وهي الانتعاش المتواصل، إذ يشير بنك التسويات الدولية في تقريره الصادر حول صناعة الصرف الأجنبي، الذي يصدر كل ثلاثة أعوام، إلى أن تلك الصناعة تحقق نجاحات تتجلى بشكل كبير في الأرقام غير المسبوقة، التي تم تحقيقها، فتجارة العملات الدولية قفزت من 5.1 تريليون دولار يوميا قبل ثلاثة أعوام لتصل حاليا إلى 6.6 تريليون دولار يوميا، وبذلك، ارتفع حجم التداول اليومي 29 في المائة، مدفوعا بنمو المقايضات ومشتقاتها، التي باتت تمثل ما يقرب من نصف حجم تداولات العملات الأجنبية على المستوى الدولي. ومن ثم يصبح التساؤل: ما مدلول هذا الازدهار في صناعة الصرف الأجنبي؟ وإلى أي مدى يعد هذا النمو ظاهرة إيجابية أو سلبية بالنسبة للاقتصاد الدولي؟ يكشف تقرير بنك التسويات الدولية، أن الأعوام الثلاثة الماضية تميزت بانخفاض ثم انتعاش قوي للدولار الذي يعد العملة الرائدة في العالم، فمن بين كل عشرة تداولات بالعملات الدولية، هناك تسعة تداولات تقريبا تتم بالدولار. ولا تزال العملة الأمريكية تحافظ على هيمنة شبه مطلقة في أسواق العملات الدولية، لكن بعيدا عن هيمنة الدولار، يعتقد البروفيسور آرثر ميلن، أستاذ الاقتصاد في جامعة أكسفورد، أن انتعاش أسواق الصرف الأجنبي يجب النظر إليها من عدة زوايا مختلفة، حتى يمكن الوصول إلى صورة أوضح بشأن علاقتها وتأثيرها في الاقتصاد والتجارة الدوليين. ويضيف ل"الاقتصادية "هذا الانتعاش الكبير في أسواق تبادل العملات على المستوى الدولي، يعكس حجم التداخل الضخم في الاقتصاد العالمي، وتلك إحدى النتائج الرئيسة للعولمة، ولكن يجب أيضا أن نشير إلى أن نمو هذه السوق يبدو منعزلا إلى حد ما عن نمو التجارة والاقتصاد الدوليين، ولا يعكس النمو الحقيقي فيهما، ومن ثم يمكننا القول بأن لدينا اقتصادا موازيا يعكس إلى حد ما مكاسب مالية ضخمة، لا يوجد لها أساس مادي في تبادل السلع والخدمات، وهذا الأمر شديد الخطورة، لأن العملات يجب أن تكون تابعة للعملية الإنتاجية، ومن ثم، فإن هذا النمو في سوق العملات الأجنبية يجب التعامل معه بكثير من الحذر". ويطرح النجاح المفرط في سوق صرف العملات الأجنبية، تساؤلات حول تأثير ذلك في أسواق الأسهم العالمية، باعتبارها أحد المرتكزات الرئيسة للنظام الاقتصادي الرأسمالي. ويعتقد بعض الخبراء الاقتصاديين أن خطورة التطورات الجارية في سوق صرف العملات الأجنبية، تكمن في أن ارتفاع معدلات الأرباح يمثل عنصر جذب كبيرا للمستثمرين والمضاربين بعيدا عن سوق الأسهم، وهو ما قد ينعكس سلبا على الاقتصاد الدولي في حالتين ترصدهما كاثي سيمون الباحثة الاقتصادية، الأولى أنه إذا ما اندلعت حرب عملات واسعة النطاق وبين عدد من العملات الدولية الرئيسة، فإن الخسائر ستكون غير مسبوقة نتيجة لضخامة هذه السوق، وكم الأموال التي تضارب فيها، وهذا سيؤدي إلى تآكل إجمالي رؤوس الأموال الدولية، ما سينعكس على أي عملية مستقبلية تهدف إلى انتشال الاقتصاد الدولي من عثراته. والخطر الثاني، وفقا لسيمون، فإن انتعاش أسواق صرف العملات الأجنبية، لا يسهم فقط في تفشي قيم الربحية السريعة في المنظومة الاقتصادية، وإنما يعيد توجيه الموارد بعيدا عن سوق الأسهم، الذي يعد المصدر الأساسي للشركات الكبرى لاستقطاب رؤوس الأموال، وضخها في عمليات توسع تضمن تحقيق الربحية وزيادة معدلات التوظيف الوطني. وترتبط تلك النظرة بمخاوف أخرى ذات طابع تقليدي، فحفنة من البنوك الكبرى تهيمن بشكل مفرط على أغلب التداولات في أسواق الصرف الأجنبي، ولا يوجد مؤشر حتى الآن على أن تلك البنوك قد تراجعت قبضتها في السيطرة على عمليات التداول الإلكتروني في سوق العملات الأجنبية. ويرى عدد من الخبراء المصرفيين، ومن بينهم دايفيد جونز الاستشاري في بنك إنجلترا، الذي يقول ل "الاقتصادية"، إن مساعي مجموعة من البنوك والمؤسسات المالية في الاقتصادات الناشئة لكسر هيمنة بنوك كبرى مثل "جي بي مورجان" و"بنك أف أمريكا" و"ميريل لينش" و"بنك إتش إس بي سي" و"يو بي إس" قد فشلت ولم تكلل بالنجاح. ويعتقد أن فشل تلك المحاولات أسهم في جعل البنوك الكبرى أكثر تصلبا في مواقفها لمواصلة هيمنتها على أسواق صرف العملات الأجنبية، حيث قفزت حصتها من 35 في المائة من أسواق صرف العملات الأجنبية عام 2012 إلى 45 في المائة حاليا. وحول أسباب صعوبة كسر احتكار البنوك الكبرى في هذا المجال، يرى جونز أن "البنوك الكبرى لديها قدرات مالية ضخمة تمكنها من تقديم أفضل الأسعار لكسب مزيد من الأعمال التجارية المربحة، كما أن هيمنتها ومصداقيتها الائتمانية تسمحان لها بتزويد العملاء بأفضل الأسعار". وتشير التقديرات الدولية إلى أنه يتم إطلاق موقع أو موقعين ذي صبغة دولية في مجال تجارة العملات الأجنبية كل عام، ويرجع ذلك إلى انخفاض تكاليف التكنولوجيا، التي كانت عائقا كبيرا في الماضي أمام الدخول إلى هذا المجال. ويؤكد بنك التسويات الدولية أن التقدم التكنولوجي أسهم في خفض تكاليف تطوير منصات تداول العملات الأجنبية من 100 إلى 150 مليون دولار أوائل العقد الأول من القرن الماضي، إلى ما يراوح بين 5 و 10 ملايين دولار حاليا. لكن الخلل لا يكمن فقط في هيمنة عدد محدود من البنوك الكبرى على سوق صرف العملات الأجنبية وما يحققه من أرباح، إذ يعكس هذا الوضع طبيعة القوى النسبية التي تتمتع بها العملات المختلفة، التي ينصب عليها الاهتمام في التداول العالمي، والتي تعبر من وجهة نظر بعضهم عن خلل قائم بشكل أو بآخر في موازين القوى الاقتصادية العالمية. ويشير الدكتور دولينج ويست، أستاذ التجارة الدولية في مدرسة لندن للاقتصاد إلى أن "هيمنة الدولار على الساحة الدولية تتجلى في أن 88 في المائة من التداولات – من جانب واحد - في سوق العملات تتم بالعملة الأمريكية، كما أن حصة اليورو توسعت لتصل إلى 32 في المائة - من جانب واحد – وعلى النقيض من ذلك انخفضت حصة الين الياباني لتصل إلى 17 في المائة، وظلت العملة اليابانية محتفظة بموقعها كثالث عملة دولية في العالم". ويضيف ل"الاقتصادية"، أن التطور الذي يجب التركيز عليه، وربما يمثل حجر الزاوية لأي تغيرات مقبلة في سوق العملات الدولية، يكمن في زيادة حصة العملات الناشئة لتصل إلى 25 في المائة من إجمالي التداولات العالمية -من جانب واحد- وكذلك تحسن وضعية اليوان الصيني، وتلك مؤشرات على أن المياه غير راكدة، وأنها تتحرك في الاقتصاد الدولي تمهيدا لبروز دور أكبر للعملة الصينية وعملات الاقتصادات الناشئة مستقبلا.