للسودانيين عبارة فصيحة ودقيقة يصفون بها كل شخص يفتقر إلى الشفافية أو مخافة الله، يقولون: فلان «ذمته غريقة»، بمعنى أنها لا غور لها، وليس بإمكان أحد أن يعرف الحق من الباطل أو الصدق من الكذب في أفعاله أو أقواله. وحسناً فعل المجلس الوطني بعد جلسة الساعات الثلاث يوم الاثنين الماضي بأن صادق بالأغلبية المطلقة على تقرير لجنة الشؤون الزراعية حول تقاوى زهرة الشمس وأحالها إلى وزارة العدل لإجراء التحقيقات اللازمة «تحت القسم»، وأن ترد الوزارة على المجلس خلال شهر من تاريخه، وبهذا يكون المجلس قد استجاب- ولو جزئياً- لما طالبنا به في «إضاءة» الأسبوع الماضي حول القضية بمحاكمة المتسببين في ذلك الضرر البليغ الذي حاق بالموسمين الزراعيين والمزارعين بولاية سنار للعامين 2008 و 2009، تحت عنوان «الشعب يريد محاكمة علنية لمفسدي التقاوى الشمسية». اتخذ المجلس الوطني هذا «الموقف التاريخي» الذي يحسب له، بعد أن استيأس الناس من مجلس أكثر من 90 في المائة من عضويته ينتمون للحزب الحاكم، وبعد سنوات طويلة استقبل خلالها المجلس عشرات التقارير من المراجع العام التي رصدت في كل مرة المليارات المنهوبة من المال العام، ولم يسمع الناس عن محاسبة أو محاكمة أي رمز من رموز الفساد، لكن يبدو أن الجو العام مع ربيع الثورات العربية الذي يعبي أركان المنطقة العربية قد حرك أشرعة برلماننا الذي رأى أن الفساد كان هو السوس الذي نخر في عظام الأنظمة العربية التي سقطت أو تلك التي في طريقها إلى السقوط، ومع ذلك فإن موقف البرلمان من «قضية التقاوى» يمكن تصنيفه في إطار «السعي المشكور»، وإن كان الإحالة إلى القضاء أوجب من الإحالة لجهة تنفيذية هي «وزارة العدل».لم يعدم وزير الزراعة خلال تلك الجلسة الساخنة بعض الحجج في محاولة الرد على الاتهامات التي ساقها تقرير لجنة البرلمان الزراعية، منها قلة الأمطار في ذلك الموسم الذي ضرب كل إنتاج الحبوب، كما دافع عن إدارات وزارته في تلزيم شركات غير مؤهلة استيراد زهرة الشمس وأن شركتي «أقرونيد وأقرو تلج» مسجلتان لدى إدارة التقاوى وإن الإدارة ليست مختصة وحدها بتقرير الشركة التي يرسو عليها العطاء، كما دافع عن الإفراج عن حاويات التقاوى قبل إخضاعها للفحص اللازم بحجة اللحاق بالموسم الزراعي وبتدخلات من الأجهزة العليا في الوزارة بأنه «إفراج مؤقت» عبر تصديق مبدئي من إدارة التقاوى، كما نفى أن تكون البذور تعرضت للفطريات أو أن نسبة إنباتها ضعيفة، ووصف تقرير اللجنة البرلمانية بأنه «لا يعدو أن يكون محاكمة سياسية في بعض جوانبه»، وهو وصف يدعو للدهشة والاستغراب. فنحن نعلم- كما يعلم الوزير- أن البرلمان بغضه وقضيضه هو برلمان حزبه، ولا يمكن لعاقل أن يتصور أية دوافع أو نوايا مبيتة تجعل البرلمان يحاكم حزبه «سياسياً» لأن رشاش مثل تلك المحاكمة السياسية سيلطخ وجه الحزب كله، ولن يستثن أعضاءه سواء كانوا نواباً أم وزراء مثل السيد وزير الزراعة، لكن يبدو أن الأمور فاقت الحد وأن السيل بلغ الزبى وشعر أعضاء البرلمان أنهم إذا ما تركوا كل شيء يمضي كما هو الحال الآن، فإن المركب ستغرق بكل من عليها.الوزير عبر عن سعادته لإحالة التقرير إلى وزارة العدل «لأن الوزارة ستجد الفرصة الكافية للدفاع عن نفسها وفي ظروف أفضل، وأنه يثق بأن وزارة العدل هي الجهة المناسبة لإدارة الملف وأنه سيتم توفير عدد كبير من الخبراء لأن الملف شائك ويشتمل على إفادات علمية وآراء متخصصة» وهذا حديث «حمّال أوجه»، خصوصاً بعد قول الوزير إن تقرير اللجنة هو «محاكمة سياسية في بعض جوانبه» وهو تشكيك في نزاهة اللجنة البرلمانية وشفافيتها العلمية والمهنية في التعامل مع القضية، خصوصاً عندما يعتبر أن الإحالة تمثل «فرصة كافية للدفاع في ظروف أفضل» على عكس «الظروف الأسوأ» المتوفرة تحت قبة البرلمان. ومع ذلك لم تنجح «ملاواة» الوزير في إقناع النواب بإغلاق الملف فأحالوه إلى وزارة العدل من أجل التمهيد لمحاكمة الوزير والبنك الزراعي لمعالجة استقامة الأداء في مؤسسات الدولة ورد حقوق المزارعين، كما قال النائب خضر عثمان وأيده النائب محمود سليمان بالقول بأن «المخالفات واضحة في إجراء المناقصات والمواصفات». لكن الأهم من ذلك هو ما عبرت عنه النائبة عواطف الجعلي من أن مستندات القضية البالغة (34) مستنداً جاءت جميعها من طرف وزارة الزراعة والبنك الزراعي والحجر الصحي، ودعت صراحة إلى إجراء «تحقيق قضائي» في هذا الشأن، وإذا كانت الوزارة والبنك المعنيين هما مصدر المستندات فتصبح تلك حالة ينطبق عليها قول المثل «من فمك أُدينك» يا متهم.من المساعي المشكورة، التي جاءت متزامنة مع جلسة البرلمان الساخنة حول تقاوى زهرة الشمس، هي تلك القرارات الصادرة من وزير العدل مولانا محمد بشارة دوسة والمتصلة جميعها بمحاربة الفساد ومكافحة الثراء الحرام والحفاظ على المال العام، ومنها تكوين لجنة برئاسته وعضوية المراجع العام ومدير عام الشرطة ووزير الدولة بوزارة المالية ومدير الأمن الاقتصادي للنظر في المخالفات الواردة في تقرير المراجع العام ورفع توصياتها لرئيس الجمهورية للقيام بما يراه من إجراءات في القضايا المرفوعة. كما أصدر الوزير قراراً يقضي بتقديم المعنيين من شاغلي الحقائب الوزارية والمناصب الدستورية والإدارية والقضائية العليا تقديم «إقرارات براءة الذمة» وفقاً للمادة (9) من قانون الثراء الحرام خلال شهر من تاريخ الإعلان. - أي بحلول يوم 25 مايو المقبل- وإلا سوف يعرض الشخص الممتنع للمساءلة القانونية. كما شملت القرارات أيضاً تفويض الإدارات القانونية في الولايات للاطلاع بمهام إدارة الثراء الحرام والمشبوه.ففي مؤتمره الصحافي يوم الاثنين الماضي أقر الوزير دوسة بأن هناك حديثاً كثيراً يسمعه ويتداول بين الناس حول التعدي على المال العام، وأن هناك قانوناً للثراء الحرام موجود بوزارة العدل الآن للتطبيق، والمادة (4) من هذا القانون تقول إن على وزير العدل إنشاء إدارة مكافحة الثراء الحرام بسلطات محددة، منها تلقي إقرارات الذمة لشاغلي الوظيفة العامة وتلقي الشكاوى حول الثراء الحرام والمشبوه، وإحالة إقرارات الذمة للفحص والتحقيق من دون شكوى.لكن الاعتراف والإقرار الأهم في حديث السيد دوسة أن هذه «الإدارة- إدارة الثراء الحرام- غير مفعلة لتقوم بمثل هذا الدور بهذه السلاسة» وبرّر عدم التفعيل «بإمكانيات الإدارة وقلّة الموظفين فيها والاذرع المساعدة»، علماً بأن قانون الثراء الحرام والمشبوه قد صدر منذ العام 1989، أي مع بداية عهد الإنقاذ.الأسباب التي ساقها السيد الوزير «لعدم تفعيل» - لنقرأ تعطيل- إدارة الثراء الحرام لا تقنع طفلاً ناهيك عن الصحافيين الذين كان يخاطبهم أو المراقبين والمحللين الذين قرأوا إفاداته في ذلك المؤتمر، فلا قلّة الامكانات ولا عدد الموظفين ولا الأذرع أو (العينات) المساعدة، هي السبب في ذلك التعطيل الذي دام أكثر من عقدين من الزمان، فلو أراد القائمون على الأمر توفير الإمكانات المالية لفعلوا، حتى لو وفروا (1%) فقط مما يصرفونه على المواكب والمهرجانات السياسية، ولو شاء وزير العدل أن يُعيِّن مئات المستشارين والمعاونين القانونيين لفعل فما أكثر الحقوقيين العاطلين عن العمل، ولو أراد إنشاء الفروع وتخصيص المكاتب والمعينات الفنية لما عجز، لكن السبب الحقيقي الذي يعلمه القاصي والداني أن هذه الإدارة- إدارة الثراء الحرام- غابت وعُطِّلت مع غياب الإرادة السياسية لملاحقة الفاسدين والمفسدين، وهاؤم الآن ينتبهون لأهميتها بعد أكثر من 20 سنة على صدور قانونها لأسباب معلومة أيضاً، وبعد أن أصاب الضُّرُ بلادنا وتضرر شعبنا، فسعيكم مشكور.. «لكن المضرة حاصلة»!.